الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
النسوية.. ليست
جمال الشوفي

بين الأنوثة والنسوية ترابط واختلاف، فحيث إن الأنوثة امتداد واسع، فرادة طبيعية، قدرة على الاحتواء والانفتاح، تحقيق الجمال وعضويته الإنسانية في تكامل وتناغم خلاق مع الوجه الآخر لها. تكون النسوية محددة الجهة والوجهة، تتجاوز الحدود الطبيعية باتجاه الحقوق السياسية الموجهة. فمن حيث المبدأ تبدو النسوية حالة امتداد للأنوثة ولكنها ليست نكران لها، حالة تفاعل في تحقيق الحقوق السياسية للفرد، ذكراً أم أنثى، وليست حالة نزاع بينهما ذات اتجاه وحيد مستقطب، كضد، "أنتي" ذكورية.

ثمة مقاربة مفهومية عميقة أجراها علماء النفس الاجتماعي بين مفهومي الأنوثة والذكورة في المبدأ، أهمها سيكولوجيا المرأة البحث في الأعماق، كتاب بير داكو الشهير، والذي يحدد السمات والخصائص من حيث الترابط والاختلاف. فحيث إن الأنوثة لا ترتبط بالحالة العضوية والجسدية وحسب، والتي هي اختلاف واضح ومحدد بين الذكر والأنثى، بل ترتبط بالعواطف والمشاعر والوجود الداخلي للإنسان. وهنا هي ليست حكراً على المرأة بل حالة طافية عندها بنسبة عن الرجل، فيما تكون السمات الذكورية متنحية أمامها. والعكس صحيح. إذاً الأنوثة والذكورة كصفات داخلية وشعورية وحسية موجودة لدى الطرفين، ولكنها تتمايز عند إحداهما بشكل أكثر وضوحاً ما يجعلها سائدة، وهذا الاختلاف منتج ويدعو للترابط والتكامل لا للنكران والبحث المجافي للطبيعة بالأضداد.

العقد الماضي، اجتاحت السوريين حمّى التحرر والانفتاح بكل صنوفه، ومن كل القيود التاريخية التي عانوا منها. وحيث إن التحرر والانفتاح هو الوجه الناصع للتعبير عن "الأنا" الفردية وحقوقها الطبيعية والمكتسبة أيضاً، بدا التعبير عن النسوية كحركة سياسية تعددت طرقها وأدواتها وأشكال التعبير عنها واضحة جليّة تباينت بين حدّين عريضين: الأول: المساهمة في الوصول لحقوق سياسية متساوية مع الرجل سواء في التمثيل الشعبي أو اتخاذ القرار والمسؤولية ومثلها العمل وحريته، فيما تباعد الحد الثاني باتجاه التصعيد بالحركة كحالة مناقضة تماماً للذكورية، وليس فقط، بل جعلها حالة عداء واستنفار دائم وكأنهما عدوين لدودين.

الحقوق السياسية المتساوية في الرأي والعمل والقول لا تفترض التفريق بين ذكر وأنثى، ولا تشكل حالة استلابية لإحداهما ضد الأخرى، ولا تعني أبداً سياسة الإنكار المتبادل بينهما، بقدر التعبير عنها بمفردة حق المواطنة Citizenship، الكلمة التي تعني تماماً العلاقات المدنية، والتي هي جملة الحقوق والواجبات التي يمارسها الفرد تعبيراً عن فرديته الذاتية ضمن إطار الجماعة، وفي سياق إقامة العلاقات المتبادلة والمتساوية بغض النظر عن ذكر أو أنثى عندما تتحقق في حالة وضعية تسمى دولة حق وقانون. هذا التساوي تساوٍ قانوني في الحقوق والواجبات لا يلغي أبداً تلك الاختلافات الطبيعية المكونة لكليهما كحالات تفرّد واختلاف هي أصل الوجود وشرط تكامله ونموه وتناميه.

الأنوثة في أصل الوجود والتكوين حالة الرعاية والاعتناء والعاطفة الجياشة، واختلافها في تكوينها الجسدي والمادي يجعلها تحتاج للرعاية والاعتناء المقابل بذات الطريقة، خاصة في فترة الحمل والولادة، ليصيح حق الرعاية والاعتناء والاهتمام هو حق طبيعي أول لا نزاع حوله، ولا يفرق بين بيئة متقدمة حضارياً أو بيئة أهلية، ما زال شرقنا يعيشها بكل تفاصيلها رغم ما يعاني منه من هدر لمختلف الحقوق السياسية الأخرى في المواطنة. وهنا يخطرني سؤال: هل يكفي أن يتحقق حق الرعاية والاهتمام ليتم إنصاف الأنثى؟ من الطبيعي القول، وهذه الإجابة التي يجب أن تدقق جيداً خاصة في الحركة النسوية، إن هذا غير كافٍ، فحق الاختيار وحق الحب، وحق العمل والمساواة فيه، حق ممارسة السياسة والمدنية وغيرها، حقوق يجب أن تكون متبادلة ومتساوية لا استئثاريه لجهة دون غيرها. لكن هل هي محط تنازع؟ نعم هي محط تنازع مع البيئة الشرقية التي قلما تعترف بهذه الحقوق جميعها، اذ تعتبر المرأة ضلعاً قاصراً ومصدر الشرف الواجب حمايته وصونه وعدم الاعتداء عليه، وهذا ما يحيل لنقض حق حرية الحب والاختيار وعدم الاعتراف فيه في الخيال الاجتماعي وموروثه الثقافي العام، فيما يكون حق العمل والممارسة السياسية أقل شأناً في النقض وعدم الاعتراف، إذ كثيراً ما تجد الأنثى عاملة ولكنها محكومة وأسيرة بالحب والعاطفة.

إجابة شريحة واسعة من الحركة النسوية اليوم، تقوم على النزاع حول هذا الحق بالمبدأ، إذ لطالما عانت الأنثى شتّى ظروف القهر والنكران لهذا الحق رغم أنها حققت ومارست حقوق العمل والسياسة في اتساع. لكن المثير للغرابة هو تلك الإجابة التي أقامت ردة فعل عالية اتجاه الأنوثة والذكورة بآن، بحيث يتم التنكر للأنوثة كونها مصدر العار المجتمعي وأداة التحكم والهيمنة الذكورية، بحيث أنها تعتبر حالة انتقاص يجب تعويضها بالحقوق النسوية المضاعفة، واعتبار هذه الحقوق هي الحق الأسمى والأكثر إخلاصاً للعمل من أجله، لدرجة أن نسبة عالية من تمويلات المجتمع المدني استقدمت على الجندرة والحقوق النسوية، وكأنه الحق الذي إن تحقق تحققت الحرية العامة لكل السوريين. وغرابة المشهد تزداد اكتمالاً ودهشة حين تكون سلطات الشرق الغارقة في الاستبداد واستنقاعاته الفجة في التغوّل بكافة صنوف الحقوق، بدءاً من الطبيعية بحق الحياة إلى السياسية وحق التعبير عن الرأي، تستقبل بترحيب كل طروحات الجندرة والحركة النسوية وتتيح لها فرص واسعة للممارسة، بينما تلاحق كل صاحب رأي مخالف سياسي عام وتكيل له، حتى وإن كان أنثوياً، تهم العمالة والخيانة والإرهاب وغيرها.

الحرية تبدأ بالحرية الفردية نعم، ولكنها تعتبر قاصرة وعاجزة عن التحقق ما لم تتشكل لها بيئة الممارسة والحياة، فحرية الكل تعني تحقيق شروط ومناخ التحرر للجميع، ذكراً وأنثى، جماعات وأحزاباً، فرقاً ومللاً، منظمات مدنية وحركات مدنية وسياسية، واقتصارها على جانب وحيد منها يعني الاستلاب المكافئ لأطر الاستبداد ذاتها، إن لم تكن أشد شراسة منها. هنا تصبح حقوق المواطنة السياسية حقوقاً يجب العمل المشترك والتفاعلي عليها بين كلا الطرفين، ذكورة وأنوثة، لأجل تحقيق البيئة العامة في الدولة والمجتمع، وأبداً هي ليست حالة تنكر كأنتي ذكورة.

لا يقتصر دور الحركة النسوية على الخوض في جندرة اللغة والدستور وتحقيق الاستقلالية الفردية، فهذه وإن تحققت في المجتمع وبقيت الحركة السياسية العامة أسيرة الاستبداد القهري العام، ستكون مجرد حالة استقطاب موجه لتجزيء قضية المواطنة من محتواها الكلي والعام لخصائص وفرديات يسهل التلاعب بها وإبرازها على نحو أنه مجتمع متقدم وحضاري يحارب الإرهاب والتخلف وهذا مجاف للحقيقة. فيما يجب ان تكون الحركة النسوية مشاركة في تحقيق المفهوم العام في المواطنة وقوانينها الوضعية في دولة. وهذا ليس تنكراً للأنوثة بل تثبيت لوجودها العام وتحقيق اختلافه احتراماً وتثميناً، فالأنوثة والنسوية شرطان متتابعان في التحقق ولا يمكن أن تكون هدامة كحالة "أنتي" ذكورية إلا إن كانت ذات أهداف شخصية لا ترتقي لمستوى الكلية العامة، وهذا موضوع دراسات وأبحاث يحتاج للتعميق والحوار.

 

ليفانت - جمال الشوفي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!