-
انتفاضة السويداء... شعب حر لا رموز طارئة
لم يكن أشد المتفائلين في قراءة المشهد السياسي السوري يتوقعون أو يتبادر إلى أذهانهم أن تستمر انتفاضة أحرار السويداء وتكبر وتتطور وتبلور غاياتها وتكرس نموذجاً لحراك واعد ومكين، ولعلنا نلتمس العذر -بل الأعذار- لكل متشائم في ديمومة أي حراك سوري في وجه نظام مجرم دأب على مواجهة الكلمة بالرصاصة والخطوة بالقذيفة والتظاهر بالبراميل المحشوة بالمتفجرات.
إن في ديمومة الانتفاضة دليلاً على اكتسابها الشرعية، وعلى احتضان المجتمع لها، وحجةً -بل حج- دامغةً على انتهاء صلاحية النظام وانعدام جدوى حضوره في حياة السوريين -كل السوريين- من خلال سلطةٍ أدواتُها قمع أجهزة الأمن وممارسة كافة أشكال الترهيب والإقصاء.
وقد حرص الحراك في السويداء على إيضاح مطالبه التي تلخِّص تطلعات الشعب السوري الحر وآماله التي انتفض من أجلها آذار العام 2011، بدا ذلك واضحاً في تأكيده على ذات الأهداف والشعارات التي زينت ساحات الحرية آنذاك، في خطوة كان من شأنها إعادة الروح للثورة السورية، في حين برز مطلب تطبيق القرار الدولي 2254 كسيد للموقف، على قاعدة وحدة وحرية سوريا أرضاً وشعباً
ولم تكن ديمومة الحراك السمة الوحيدة لانتفاضة أحرار السويداء، بل إن في المنجزات التي تحققت على الأرض ثمرة حقيقية كسرت عينُها مخرزَ النظام، فقد استطاع الحراك إغلاق دكاكين حزب البعث الحاكم في سائر المدن والقرى والبلدات وتحويلها إلى مقرات خدمة اجتماعية بعد أن كانت مواخير للريبة والفساد وإلحاق الأذى بالأبرياء والأحرار من خلال تقارير أمنية ترقى إلى مستوى الجرائم بحق الإنسانية كان يخطها مخبرون ويرفعونها إلى الأجهزة الأمنية كي تأخذ دورها في الاعتقال والتغييب والقتل كما اتضح للملأ بعد فتح الملفات ونبش السجلات التي كانت تفوح منها رائحة العمالة والحقد، كما استطاع الحراك بث رسائل سياسية واجتماعية وثقافية للمراقبين الدوليين والمنظمات الضالعة في الملف السوري نحو دحض الروايات التي ساقها النظام والتي حاول من خلالها تشويه صورة المواطن السوري ووضعه داخل إطار الإرهاب والعنف، ليتضح أن السوريين نساء ورجالاً إنما هم شعب يعشق الحياة ويضحي من أجلها ويعبر عن ذاته بحراك سلمي وبلوحة فنية ورقصة شعبية وأغنية وقصيدة وابتسامة وعمل دؤوب، وهو ما أكده السوريون منذ اليوم الأول للثورة على امتداد ساحات الوطن، تماماً كما أكده سوريو المهاجر والمنافي في أصقاع المعمورة على نحو مدهش وجلي.
وعلى المستوى السياسي، كشف الحراك في السويداء عن كوادر قادرة على التخطيط والإدارة والتنفيذ واتخاذ القرارات والتعبير عن التطلعات، من خلال ظهور تيارات فاعلة تتبنى وجهات نظر وأفكار قد تتباين في الشكل لكنها تتحد على المبدأ وفي المضمون والجوهر، كما أسس الحراك للغة حوار تفوقت على الإقصاء والأنانية والفردانية، وسمت فوق الشخصنة باتجاه الفكرة والمنطلق والغاية الجماعية.
ولم يكن لكل ذلك أن يتحقق لولا احتكام الحراك لإرادة ساحة الكرامة التي لخصت إرادة الشعب، الساحة التي باتت برلماناً يصوت على كل طارئ وجديد، ويقول الكلمة الفصل كلما كان ذلك ضرورياً، الساحة التي جمعت كل الرايات ومختلف الآراء وكافة شرائح المجتمع على فكرة أساسها حرية لا تراجع عنها وتغيير لا تفاوض عليه وإسقاط نظام قتل البشر ودمر الحجر وباع الأرض وجعل من سيادة الوطن سخرية القاصي والداني.
وعبر تصاعد إيقاع الحراك يوماً بعد يوم، وبثبات رؤية ووحدة صفوف، أكدت الساحة ومازالت على الثوابت التي شرعتها منذ اللحظة الأولى، متمسكة بقرار دولي نافذ، واستطاعت أن تكتسب مناعة قوية ضد كل عبث وضد كل استهواء أو استقواء أو إشاعات وادعاءات، مناعة مكنتها من تجاوز الكثير من محاولات النيل منها، ضاربة عرض الحائط كل ما من شأنه تسلق منجزاتها أو تعكير صفوها أو حرف بوصلتها أو النيل من كوادرها أياً كان المصدر ومهما علا شأنه، مناعة أصيلة راسخة لأنها انتفاضة شعب حر لا انتفاضة رموز وأسماء طارئة.
ليفانت: نزار غالب فليحان
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!