-
تموضع اليسار السوري
في ظلّ ذاك الواقع، عمّت الفوضى، كان أغلب الشيوعيين السوريين المعارضين في سجون النظام السوري يتعرضون لمحاكمات في محكمة أمن الدولة العليا، حيث تعرّض معتقلو "حزب العمل الشيوعي والحزب الشيوعي (المكتب السياسي)، إلى جانب معتقلي حزب البعث العربي الديمقراطي (23 شباط)، وبعض معتقلي حزب (الاتحاد الاشتراكي)"، إلى محاكمات صورية، وكانت المحكمة برئاسة الجزار الراحل فايز النوري.
وكانت نتيجة تلك المحاكمات آلاف السنوات من أعمار مناضلي هذه الأحزاب في غياهب السجون السورية، من سجن تدمر الشهير إلى سجن صيدنايا الرهيب، وعدرا المركزي، وحلب المركزي، إلى جانب عدد من سجون المحافظات السورية.
إنّ ذاك الانهيار أدخل اليسار العالمي إلى سراديب التغيرات الأيديولوجية من زوايا متعددة، وطرح العديد من الأسئلة الكبيرة والعامة، هل ما زالت الماركسية أداة فكرية صالحة لعمل هذه الأحزاب؟ هل ما زالت قادرة على التحليل السياسي المفيد لهذه الأحزاب؟ هل ما زالت اللينينية تصلح كمنهج عمل؟
شهدت المنطقة العربية والمشرقية ردّات فعل على ما جرى، فالعديد من الأحزاب الشيوعية العربية والإقليمية غيّرت اسمها، واستعاضت عنها بأسماء تقترب من واقعها بعيداً عن الأممية والمركز الشيوعي العالمي.
ونتيجة الظرف السوري الخاص، تأخر رد الفعل عما جرى في العام 1991، حتى العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، حيث خرجت العديد من قيادات وكوادر هذه الأحزاب من السجون السورية، وعاد منها إلى العمل السياسي المباشر في أحزابه.
وظهرت في سوريا مع بداية القرن الجديد ظاهرة المنتديات الثقافية والسياسية التي لعبت دوراً كبيراً في إظهار شيء من المدينة السورية القابلة للحياة حتى في ظل عدم وجود الديمقراطية، والعمل السياسي الديمقراطي، وهذا ما أطلق عليه ربيع دمشق، وإنما بالهامش الذي استطاعت الأدوات الشعبية فرزه مع مجيء رئيس جديد للبلاد.
وأخاف نشاط تلك المنتديات السلطة، بظلّ عدم وجود رغبة حقيقية في التغير (خصيصاً ما عرف بالحرس القديم في النظام)، فخرج نائب الرئيس عبد الحليم خدام بقرار سلطوي بإغلاق تلك المنتديات وتقديم عدد من السياسيين المعارضين إلى المحاكم المدنية السورية، كما حصل في محاكمة (14 بحلب)، ومحاكمة (رياض سيف، أنور البني، فاتح جاموس، ميشيل كيلو، رياض الترك، محمود عيسى، كمال اللبواني) وبهذه الوضعية غير المستقرة ظهر منتدى اليسار السوري في ضاحية جرمانا كما بقية المنتديات "رياض سيف، جمال الأتاسي، القامشلي. (منتدى خليل معتوق لحقوق الإنسان) في منزله بصحنايا".
في منتدى اليسار السوري الذي أشرف عليه بشكل مباشر الشيوعي والمناضل (منيف ملحم) إلى جانب عدد من اليساريين والشيوعيين السوريين، حيث قدم في أكثر من جلسة العديد من الأسماء اليسارية التي وصفت الوضعية السورية والتوجهات منها "أصلان عبد الكريم، الراحل سلامة كيلة، ياسين الحاج صالح، منيف ملحم، وفاتح جاموس".
وهكذا لعب اليسار السوري ومنتداه دوراً في تعريف القشرة المتحركة السياسية والثقافية بحضور هذا اليسار غير المنتظم، فمنتدى اليسار وجمهوره حاول تكريس شكل من أشكال الحضور المنظم، لكن مع إغلاق ظاهرة المنتديات في ربيع دمشق عاد الأداء إلى شكله التقليدي شبه السري رغم الحضور العلني للأفراد كشخصيات عامة ومؤثرة في الحياة السياسية السورية، ويجدر الإشارة إلى أنّ هذا المنتدى أصدر كتاباً عن نشاطه السياسي والمدني في ربيع دمشق، وتعدّ هذه المحاولة الأولى منذ ثمانينيات القرن العشرين للحضور المباشر له، وكانت هناك محاولات فردية حزبياً وشخصيات للاندماج في الحراك المدني العام في محاولة لتحسين صورة هذا اليسار بدون تأطير خاص، وإنما ضمن الفضاء العام لحراك ربيع دمشق، لكن ذلك لم يساهم بتحسين الصورة بالقدر الكافي ليستطيع هذا اليسار اجتذاب شرائح من الشباب الراغب في العمل السياسي المباشر.
المرحلة الثانية من حضور اليسار السوري جاءت مع احتلال بغداد من قبل القوات الأمريكية في 9/4/2003، إذ شكل رافعة سياسية لهذه الأحزاب التي تراوحت مواقفها بين الرفض لهذا الاحتلال مثل (حزب العمل الشيوعي، هيئة الشيوعيين السوريين، حزب الاتحاد الاشتراكي)، وبين الساكت عنه.
ولعب تأسيس "إعلان دمشق في العام 2005" دوراً في تعزيز حضور هذه الأحزاب والتجمعات اليسارية، مثل "التجمع الوطني الديمقراطي"، وساهم وجود شخصيات مستقلة مثل "رياض سيف، الدكتور عارف دليلة" دوراً في إعادة الاعتبار لهذه الأحزاب، وذلك بغض بصر السلطة عن هذه الكتل في الحياة السياسية السورية، لكنها شنّت حملة اعتقالات طالت العديد من نشطاء وكوادر إعلان دمشق، وإحالتهم إلى محكمة أمن الدولة، وبعضهم لمحاكم مدنية، بالإضافة إلى ذلك لعب عدم الجدية في إعلان دمشق ومؤتمره الثاني، حيث عمل حزب الشعب والمستقلين إلى إقصاء "حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي" عن قيادة الإعلان، دوراً مثبطاً لهذين الحزبين، إذ أعلنا عن تجميد نشاطهما فيه وخروجهما منه.
وبدأ العمل على تشكيل تجمع اليسار الماركسي في سوريا "تيم"، بتاريخ (20 نيسان/ أبريل) من العام 2007، حيث نشر "تيم" بيان ولادته، والوثيقة التأسيسية له، وكان الموقّعون على هاتين الوثيقتين "حزب العمل الشيوعي، الحزب اليساري الكردي، هيئة الشيوعيين السوريين، التجمع الماركسي-الديمقراطي، لجنة التنسيق لأعضاء الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، عبد العزيز الخير، وسلامة كيلة"، حيث جاء في بيان الإعلان "أيها المناضلون: يأتي إعلان ولادة تجمع اليسار الماركسي (تيم)، في هذه المرحلة من تاريخ بلادنا، ليشكل مسعى للرد العملي على حالة التذرر والانقسام والترهل وفقدان الهوية والارتداد التي طالت قطاعات مختلفة من الحركة الماركسية السورية، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وليشكل كما نأمل ونسعى نقطة انطلاق لرد عملي على جملة واسعة من الأزمات والتحديات الكبيرة التي تواجه شعبنا ووطننا. وإذ يؤكد التجمع تمسكه بكل ما هو نبيل وإيجابي وبنّاء في تاريخ الحركة الشيوعية السورية، بمختلف فصائلها وألوانها، فإنه يعبر عن طموحه لأن يجسد تجاوزاً ديناميكياً لأخطاء وتشوهات أصابت هذه الحركة ورافقتها لزمن طويل، وهو ما ندرك أنه يشكل بحد ذاته تحدياً حقيقياً لا مناص من مواجهته والتغلب عليه بصورة بنّاءة ومبدعة".
لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح في العام 2011، حيث تموضعت أطراف (تيم) بصورة متقابلة في الانحياز، وخرج "التجمع الماركسي- الديمقراطي" نحو السلطة، وغاب الحزب اليساري الكردي عن اللقاءات، بينما فرطت هيئة الشيوعيين السوريين نتيجة مغادرة الراحل "أبو مطيع، منصور الأتاسي" سوريا، واتخذ موقفاً داعماً للعسكرة مناقضاً موقفه في المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق، وأجبرت السلطة السورية الراحل سلامة كيلة على مغادرة دمشق، واعتقلت في نهاية العام 2012، عبد العزيز الخير الذي لا نعرف شيئاً عنه حتى الآن، بينما شارك "حزب العمل، والحزب الشيوعي (المكتب السياسي)" في تأسيس هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغير الديمقراطي وما زالا يعملان فيها.
وتعد تجربة "تيم" محاولة جادة لتجمع قوى اليسار السوري في إطار سياسي وتنظيمي بعيداً عن التحالفات السياسية الأخرى التي تشارك فيها، وليست ذات صبغة (سياسية - أيديولوجية) متقاربة إلى حدّ كبير.
إن الخطوات التحالفية لتيم ووثيقته التأسيسية شكلت مع حزب الاتحاد الاشتراكي أساساً واضحاً لما عرف فيما بعد بالخيار الثالث الذي كان الركيزة الأساسية لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغير الديمقراطي.
وإلى جانب هذه الحالة، عمد "إعلان دمشق، ومستقلوه" إلى بلورة المجلس الوطني السوري بمشاركة حزب الإخوان المسلمين وعدد كبير من المستقلين، والعسكر المنشقين عن الجيش السوري، في (2 تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2011)، حيث طالب المجلس بـ"الحماية الدولية للمدنيين"، مترافقاً مع دعم "الجيش السوري الحر"، ورفض أي حل "تسووي" مع النظام. وكان "الإخوان المسلمون" هم الأساس الرئيس في المجلس الذي تبنى حمل السلاح، وذلك بقرار مجلس شورى الجماعة، خلال شهر (تشرين الأول، أكتوبر) 2011.
إنّ الصراع في صفوف المعارضة كان قائماً بين تيار يرفض الحل السياسي، وتيار آخر يعتبر أنه لا إمكانية لحل الصراع في سوريا إلا عن طريق حل سياسي تغييري جذري من خلال رؤية تسووية تقول بمرحلة انتقالية نحو نظام ديمقراطي، تتشارك خلاله السلطة والمعارضة في جسم حكومي انتقالي، للوصول إلى النظام الديمقراطي، وهو ما تبناه المجتمع الدولي مع بيان جنيف في العام 2012، والقرار الأممي 2254 في العام 2015، وعلى أساس ذلك تشكلت الهيئة العليا للمفاوضات، وبعدها هيئة المفاوضات.
أخيراً.. منذ العام 2011، اختلطت البرامج السياسية، ولم يتم فرز سياسي حقيقي للأحزاب والقوى السياسية السورية بسبب تعقد الحل السياسي في سوريا طيلة عشر سنوات من تاريخ الثورة السورية، لكن جولات التفاوض في جنيف، واللجنة الدستورية، لعبت دوراً كبيراً في فرز الحالة السياسية السورية ما بين رافض للمفاوضات والحل السياسي بدون بدائل حقيقية قائمة على الأرض تديم الحالة الراهنة، وهذا ما يعمل عليه النظام، وجزء من الدول الراعية والمحتلة للأرض السورية، وبين اتجاه آخر يدرك مخاطر العمل التفاوضي والحل السياسي، لكن لا بديل عن ذلك.
لكن ينبغي ألا يغيب عن القوى والأحزاب السياسية التي تسعى لتكون فاعلة في الحالة السورية لدخول مدار الجوع الذي وصل إلى ما فوق (92 المئة)، وأعتقد أن مسار الجوع هو المدخل القادم لحسم الكثير من الخيارات في الساحة السورية التي يمكن لليسار السوري بأطرافه المتعددة أن يلعب دوراً جوهرياً في التغير القادم.
ليفانت - ماهر إسماعيل
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!