الوضع المظلم
السبت ١٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
جفاء الحُروبِ والمُدن
إبراهيم جلال فضلون (1)

وقوع الحرب أمر مُستدام كما علّمتنا علوم الحروب. ويقول أبو الجغرافيا السياسيّة المفكّر الألماني فريديريك راتزل: "أن المدينة مُختبراً هاماً لتلاقح الأفكار. فهل رأيت يوماً عبقرياً يخرج من القرية؟ فهو يولد في القرية، لكن تطوّره يكون حتماً عبر المدينة"، ففي الحرب كلّ شيء سهل، لكن أسهل شيء فيها هو معقّد جداً جداً، فمسرح الحرب مُحضّراً للقاءات دمويّة بأشكالها المختلفة الجديد. فمن يذهب إلى الحرب فهو بلا ريب يدق أبواب المجهول، غير واثق من النتائج أو العودة. فتعد المدينة عاملاً مساوياً - مُعادلاً للقوى. إذ أنها تضرب أي تفوق عددي، يكون مهاجماً لها، لأنها ببساطة تكمن روحها في مساحتها مهما كانت، وفي هندستها المعمارية وشوارعها، ومعالمها.. لتجد فيها أن كلّ جدار يُعد متراساً، وكلّ عمارة هي مركز مراقبة ورصد.. ففيها تطول المسافات، ويتأخرّ الوقت، ومن يدخلها تتبدل حالاته، وكأنها علاقة جدلية بين المدينة ومن يهاجمها.

هي تستقبل زوارها بسلام غير أنها لأهلها المدربين أمان يعرفون دروبها، لتتحول في حالات الغزو لنقمة قاتلة لزوارها الدخلاء، فإذا انقلبوا عليها تنقلب عليهم.. هي مسالمة إذا كان الزوار مُسالمين. والعكس صحيح، فهي تُفضّل ابنها ومن ولد فيها ويعي ذكريات المكان والزمان فيها، ويمكن اختصار تاريخ العالم وفق رأي ونستون تشرشل، إنه: "عندما تكون الدول قويّة، فهي ليست عادلة. وعندما تريد أن تكون عادلة، فهي لم تعد قويّة". فهل للقوّة علاقة بالعدل؟ وهل يعكس عدل الدولة ضعفها؟، بلى فقد كان أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب ينام تحث ظل شجرة في أبهى عصور الإسلام، وهناك كأن الحرب مثل الوباء يجتاح بلا هوادة ولا استئذان، فتظهّر حينها نقاط الضعف ومدة هشاشة المُتقاتلين بالميدان.

وقديماً كانت الحروب تُخاض حول المدن بهدف الاستيلاء عليها، لا الحرب داخلها. حتى إن معركة ستالينغراد الشهيرة، دارت كلّها حول المدينة، ويقول العالم الاجتماعي الأميركي الراحل شارلز تيللي: "صنعت الحرب الدولة، لتعود الدولة بعدها لصنع الحرب". وبالتالي يؤكد أن الأمم تذهب عادة إلى الحرب لأسباب عدّة أهمها: الخوف، والمكانة، والمصلحة، ومن ثمّ الانتقام، فقد خلقت حرب فيتنام للولايات المتحدة الأميركيّة ما يُسمّى بـ«متلازمة فيتنام».. لتتكرر بحربي الخليج، وغزو العراق، لأسباب مصطنعة بحادثة 11 سبتمبر، لتسويق فائض القوّة الذي تملكه أميركا في عالم آحادي القطب، ففشلت في أفغانستان وتئن الآن بالعراق وسوريا؛ لأن الاستثمار الماسوني الصهيوني الأمريكي الكبير والمُكلف جدّاً في تلك الحروب، كان لمصلحة الأعداء، وهذا أمر يناقض المفاهيم السياسيّة والعسكريّة، كما شكّلت حرب اجتياح لبنان عام 1982 الكثير من العقد النفسيّة لإسرائيل، لتتم بعقدة أكبر من عقدة حرب أكتوبر 1973م المجيدة، بطوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، فبعد نقطة الذروة الإسرائيلية يبدأ مردود الحرب يصبح سلبياً وخطراً على الكيان وحلفائه وهو ما ظهر بعد 200 يوم من الحرب ورغم الدعم الغربي، كما أن العمل من خارج القطاع يرفع الضغوطات الأميركيّة عن إسرائيل.

في الحرب الأهليّة الأميركيّة (1860-1865) التي حصدت أكثر من 650 ألف قتيل، وصل شهداء غزة نصفها وسيطال الرقم ذاته، ولعل تدرّيب إسرائيل قواتها الخاصة على حرب المدن فاشلاً، وإلا لنجحت في غزة أمام أنفاق حماس، لتكون كل خطوة تالية هي قاتلة، فقد بنت في صحراء النقب مركزاً للتدريب على حرب المدن، نسخة طبق الأصل للمُدن الفلسطينيّة، مهما كان التدريب والوعى للمكان تراكميًّا، سيكون بعكس ابن المدينة الأصليّ، وهي نتيجة لا يأتي معها أي حلّ سياسيّ دائم، مما يجعل الباب مفتوحاً لاندلاع حرب مُقبلة هالكة للجميع وأولهم من تسب فيها أو النافخ لاشتعالها.

ليفانت: إبراهيم جلال فضلون

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!