الوضع المظلم
السبت ٠٢ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
حافظ إبراهيم.. شاعر
حافظ ابراهيم

لم يكن النيل أنيسه ورفيقه فحسب بل كان حاضن ولادته ولقبه الأول، وكان الشعب العربي عموماً والمصري خاصة بآلامه ومعاناته وطموحاته صديق أحلامه وأهدافه، شغفه ومسار كلماته وشعره، ليكتسب بدون منازع لقب "شاعر الشعب".

محمد حافظ إبراهيم، شاعر أبي وعصامي منذ بداية ريعان عمره، مثقف وقارئ شره للأدب مخلص لعربيته، إن جاز التعبير، متقد الذكاء سريع الحفظ وكأن عقله كوعاء لا ينتهي يمكن أن يجمع آلاف وآلاف الأشعار والكتب.

يعتبر حافظ إبراهيم، من بين أهم شعراء العرب المعاصرين، ويُعد أحد أعضاء مدرسة "الإحياء" والتي اشتُهرت باحتضان العديد من الشعراء إليها، مثل أحمد شوقي (صديق حياته)، ومحمود سامي البارودي، وغيرهم.

تمتع الشاعر حافظ إبراهيم باحترام كبير عند مؤيديه وخصومه أيضاً، فهو على الرّغم من اختلافه مع العقّاد، وخليل مطران في المذهب الشعري إلّا أنهما ما كانا يُكنان إليه إلّا كلّ تقدير وإنصاف لموقعهِ في الأدب الشعري.

ويتحدث عنه مطران خليل مطران، أنه "أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتي منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذى يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه". 

وقال عنه العقاد "مفطوراً بطبعه على إيثار الجزالة والإعجاب بالصياغة والفحولة في العبارة."

اقرأ أيضاً: أمل دنقل.. أمير شعر الرفض

اعتبره العديد من الشعراء والأدباء والنقاد بأنه كان إحدى أعاجيب زمانه، مستندين ليس فقط على جزالة شعره بل وقوة ذاكرته. كانت كتاباته وشعره كأنها تسجيل أدبي وفني للأحداث، صاغها بقلبه وروحه لترسم لوحة فنية تحث النفوس وتدفعها للنهضة، لتمتلئ قصائده بما يجيش في قلبه من مشاعر إنسانية دفاقة.

لنهج ومسار حافظ إبراهيم في كتاباته طريق خاص، فاستعاض عن الخيال بجزالة الجمل وتراكيب الكلمات وحسن الصياغة، مع موهبة فذّة في إلقاء الشعر. وكان حفل تكريم أحمد شوقي ومبايعته أميراً للشعر في دار الأوبرا من أروع ما أنشد حافظ فيها شعره بكفاءة.

نشأة وسيرة حياة 

تاريخ مولد حافظ إبراهيم لم يكن معلوماً بشكل دقيق ولا حتى في أوراقه الرسمية الموجودة في ملفات خدمته، إلّا أنّه بعد أن عُيِّن في دار الكتب طُلب منه تعيين يوم مولده، فتمّ إرساله في عام 1911م إلى لجنة طبيّة للنّظر في هذه الأمور لتقدير عُمره، فكان لهم أنْ قدّروه بتسعة وثلاثين عاماً، وعلى إثر هذا التّقدير تم الإقرار بيوم مولده أن يكون في الرّابع من شهر شباط لعام 1872م.

ومن الجدير بالذِّكر أنّ حافظ إبراهيم وُلد في سفينة "ذهبية" كانت راسية على شاطئ النّيل، ووالده هو المهندس المصري إبراهيم فهمي، أمّا أمّه فهي "هانم بنت أحمد البورصه لي"، وأصلها تركي من أسرة مُحافظة تُسمّى الصّروان، حيث كانت تقطُن هذه الأسرة في أحد الأحياء القديمة والشعبيّة في مدينة القاهرة، واسمه "حيّ المغربلين"، وسُمّيت الأسرة بذلك لأنّ جدّ حافظ لأمّه كان أميناً للصرّة في موسم الحجّ.

فارق والده الحياة في عُمر الرابعة، وانتقلت والدته للقاهرة ليتكفل به خاله الذي كان يعمل مُهندس تنظيم، فرعاه وقام بتربيته كما أنّه أرسله للالتحاق بالكُتّاب وبعد ذلك إلى المدرسة. وبعدها التحق بالجامع الأحمديّ بشكل غير مُنتظم، فحظي في هذا الجامع بالعديد من الدّروس التي تُشابه تلك التي تُلقى في الجامع الأزهر.

وبعدها قرر أن يحصل قوته بنفسه، فتوجّه للدّخول في مهنة المحاماة لما كان يتمتع به من طلاقة في الّلسان ومنطقاً سليماً يُجارى، وكانت المُحاماة آنذاك مهنة حُرّة. إلّا أنّه سُرعان ما انتقل إلى مدينة القاهرة فالتحق في مدرستها الحربيّة حتّى تخرّج منها عام 1891، وعلى إثر ذلك عُيّن في وزارة الحربيّة، فبقي فيها ثلاثة أعوام، وبعد ذلك تحوّل إلى وزارة الدّاخليّة ليعمل فيها عاماً وأكثر قليلاً، ثمّ عاد ليعمل في الحربيّة. 

سعى أن يعمل في صحيفة الأهرام، لكنّها لم تقبله فعَمَد إلى مُلازمة الشّيخ محمد عبده، وقال حافظ في ذلك: "فلقد كنت ألصقَ النّاس بالإمام، أغشى داره، وأردّ أنهاره، وألتقط ثماره". وفي عام 1911م تمّ تعيينه بدار الكُتب المِصريّة في قسمها الأدبيّ تحديداً، فتوقّف عن نظم الأمور السّياسيّة والاجتماعيّة كما كان يفعل قبل توظيفيه في هذه المِهنة والتي بقي فيها حتّى عام 1932.

رحلته في الزواج والاستقرار كانت قصيرة ووحيدة، ففي العام 1906 تزوّج حافظ إبراهيم من ابنة أحد أغنياء حيّ عابدين، إلّا أنّ هذا الزّواج دام أربعة أشهر فقط، فبعدها انفصلا ولم يُقبِل بعدها على زواج آخر، كما لم يكن للمرأة مكان في مسيرته إلّا زواجه ذاك. 

اقرأ أيضاً: محمد الماغوط.. بساطة اللغة و"ثائر حرر الشعر من عبوديته"

نهل الشاعر حافظ إبراهيم العلم والمعرفة من أشهر عُلماء الأدب والعلم في عصره، فكان دائم الحضور في مجالسهم التي تواجد فيها العديد من العلماء والشُّعراء  والأدباء. وكان يتردد كثيراً إلى بيت إسماعيل صبريّ "شيخ الشُّعراء" ليرى العديد من الشُّعراء الذين كانوا يعدّون الشّاعر إسماعيل أستاذهم، ومنهم: أحمد شوقيّ، وخليل مطران، وأحمد نسيم وغيرهم من الشُّعراء الشّباب آنذاك.

شعر حافظ إبراهيم

صبغ الميل السياسي والاجتماعي معظم قصائده، ويعود السبب لانتمائه الوطني العالي والمتمثل في الآمال الحالمة لأمّته، فاستخدم فيه مُفردات كان يشكو فيها ما يتعرّض له وطنه من قضايا ومشاكل. ولذلك لم يكن غريباً أن يكون حافظ إبراهيم "شاعر الشَّعب" لما حمله من حبّ لوطنه وأهله.

متى أرى النّيل لا تحلو موارده 

لغير مرتهب لله مُرتقِبِ

فقد غدت مِصرُ في حال إذا ذُكرتْ

جاءت جُفوني لها بالّلؤلؤ الرّطبِ

كأنّي عند ذكري ما ألمّ بها 

قرم تردّد بين الموت والهربِ

كما بدا جلياً نبوغ شعر إبراهيم في المجال الاجتماعي، وبسبب البيئة التي نشأ فيها بين العلماء والمفكرين. والتصاقه بقضايا الشعب حيث لم يتوانى عن إبراز القضايا المجتمعية للشعب المصري، ولم تنقصه الجرأة في طرحه لأوجاع الشعب. وما كانت القضايا التي يتناولها خاصّة في وطنه فقط إنّما في الوطن العربيّ كافّة.

ومن أهم ما قاله في هذا المجال:

"أمورٌ تمر وعيشٌ يمر ونحن في اللهو في ملعب

وشعبٌ يفر من الصالحات فرار السليم من الأجرب

ألفنا الخمول ويا ليتنا ألفنا الخمول ولم نكذب

تضيع الحقيقة ما بيننا ويصلى البريء مع المذنب".

كما عُرف حافظ ابراهيم بحبه الشديد للغة العربية ودفاعه عنها في كل المواقف ومقاومته لجميع التغييرات التي حاول الكثيرون إدخالها إلى العربية، وقد نظم العديد من القصائد في حبها:

وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً

وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ

وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

 

تغنى بمصر والنيل في قصائده ولعل بقاءه في السودان عدة سنوات، ومشاهدته غدر وفظائع الإنجليز هناك، وتدابيرهم في تحقيق أغراضهم الاستعمارية، قد زاده سخطاً على الاستعمار وتمسكاً بوحدة وادي النيل، وتجلت هذه المواهب في شعره في شتى المناسبات حتى سمي بحق «شاعر النيل».

نجح حافظ بأن يرتقي بشعره في كثير من المواطن إلى التجديد واقتباس المعاني والأفكار والأساليب الحديثة، ما جعله مميز وله رنينا موسيقياً محبباً إلى النفوس. ولقد وجدت الحركة الوطنية في قصائده قوة تستمد منها الحماسة والصمود، والثورة على الاحتلال، فقال في قصيدة "ملجأ الحرية" التي نظمها في 1919:

فتعاهدنا على دفع الأذى.. بركوب الحزم حتى نظفرا

وتواصينا بصبر بيننا… فغدونا قوة لا تزدرى

أنشرت في مصر شعبا صالحا.. كان قبل اليوم منفك العرا

كم محب هائم في حبها.. ذاد في أجفانه سرح الكرى

وشاب وكهول أقسموا.. أن يشيدوا مجدها فوق الذرا”.

مؤلّفاته 

معظم إرث أشعار حافظ إبراهيم كان من الأشعار التي نشرتها الصُّحف والمجلّات له، بالإضافة إلى القليل ممّا احتفظ به هو وتلك الموجودة عند أصدقائه، بحسب ما قاله الكاتب أحمد أمين، وأشار إلى أنّ سبب ذلك يعود لكتابة حافظ إبراهيم أشعاره على أوراقه في أيّ مكان يقع، وهذا غير التي لم يُدوّنها أصلاً.

وأوضّح أحمد أمين ما مرّ معه في أثناء رحلة البحث عن أشعار حافظ هو، وإبراهيم الأبياريّ، وأحمد زين، فيقول: "ولكن ما ورد في ذلك كلّه ليس وافياً، ولا مُستقصياً، فاضطّررنا إلى أن نرجع إلى المجلّات، والصّحف نتصفّحها عدداً عدداً من يوم أن نُشر له، إلى يوم وفاته"، وبعد عناء البحث قاموا بترتيب ديوان شامل لأشعار حافظ إبراهيم.

وأشار أحمد أمين ما نُشر من أشعاره، سواء ممّا جُمع في حياته، أو بعد وفاته، وهي كالتّالي، في حياته: جُمعت له في حياته ثلاثة أجزاء صغيرة، نُشر الجزء الأول منها مع تعليق "محمّد إبراهيم هلال بك" عليها عام 1901م، والثّاني عام 1907م، والثّالث نُشر عام 1911م، أمّا عن شِعره بعد هذا العام، لم يُنشر لعدم جمعه في حياته.

اقرأ أيضاً: فاتح المدرس.. أيقونة الفن التشكيلي السوري وفيلسوفها

وبعد وفاته: قام أحمد عبيد، وهو أديب دمشقيّ بجمع بعض أشعار إبراهيم حافظ ونشرها في دمشق عام 1933م، وكانت تلك الأشعار ممّا لم يُنشر من ديوانه، وقام أحمد عبيد كذلك بجمع ما قام به شوقي بالإضافة إلى أشعار الرِّثاء فيهما، وما كتبه هو عنهما في كتاب أسماه "ذِكرى الشّاعريْن".

وله أيضاً تعريب رواية البؤساء ل فيكتور هيجو عام 1903م. المُوجز في علم الاقتصاد الذي كتبه بمُشاركة خليل مطران، وهو يتكّون من جزئين عام 1913م. التّربية والأخلاق وهو مُكوّن من جُزئين.

وفاته

توفّي حافظ إبراهيم يوم الخميس صباحاً في الحادي والعشرين من شهر حُزيران لعام 1932م، ودُفن في إحدى مقابر السّيدة نفيسة. وأثناء إعلان وفاته كان الشّاعر أحمد شوقيّ في مدينة الإسكندرية، إلّا أنّه بعد معرفة شوقيّ بوفاته قال أبياتاً في رثاء صديقه حافظ، وكانت أولّ أبيات في مرثيّته.

 قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا مُنصِف الموتى من الأحياءِ.

ليفانت نيوز_ خاص

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!