-
خارج دائرة الحريم السوريّ
بدأت كموجةٍ مغمورة غير مؤثرة، شقّت طريقها الشائك لتتصدّر العناوين الإخبارية حول العالم. إنها الثورات النسائية التي أنجبت زعيمات وقائدات ومحرّكات للتحوّل والتغيير.
ليس بداية بالأميركية السمراء روزا باركس التي رفضت التخلّي عن مقعدها في الحافلة لرجل أبيض فغيّرت تاريخ البلاد، مروراً بالشهيدة دلال المغربي "عروس يافا"، التي قادت عملية فدائية لخطف حافلةِ جنودٍ في إسرائيل عام 1978. هي التي قال عنها نزار قباني إنها "أقامت الجمهورية الفلسطينية"، إلى الناشطة اليمنية توكل كرمان الفائزة بجائزة نوبل للسلام عام 2011، والتي تُعدّ واحدة من سبع نساء أحدثن تغييراً في العالم، إلى مواكب الجماهير الداعية إلى إسقاط نظام البشير في السودان، وكانت إشارة البدء عبارة عن زغرودة نسائية. وبأصواتهنَّ العالية وحضورهنَّ اللافت في صفوف الاحتجاجات الأولى ردّدت نساء السودان (يا أم ضفاير قودي الرسن.. واهتفي فليحيا الوطن) في مشهدٍ حماسي مبهر فاق جميع التصورات.
أيضاً إلى شارع (ديدوش مراد) وسط العاصمة الجزائرية، حيث شاركت آلاف النسوة في الحراك الشعبي ضدّ ترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة. تتقدمهنَّ المجاهدة الشهيرة جميلة بوحريد وبناتها وشابات جيل الاستقلال. وليس نهاية بالطبع باحتجاجات إيران الأخيرة ضدّ حكم الخامنئي المتطرف، التي أشعلها مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني، نتيجة التعذيب بعد احتجازها من قبل شرطة الآداب بتهمة عدم التزامها بمواصفات الحجاب المثالي. أو اقتحام فتاة لبنانية "بنك لبنان والمهجر"، للمطالبة بالحصول على جزء من أموالها المحتجزة بهدف علاج أختها، في مشهد بطولي شَغِل العالم.
في السياق لطالما عملت المرأة السورية على كسر معايير "الجندرية" المُتعارَفة في الثقافة المحلية، والتي تقيّدها في إطار صورةٍ نمطية رسمها مجتمع مغلق على نفسه، إذ لم نسمع بوجود امرأةٍ كباحثة سياسيّة، مثلاً، لكن نرى العديد من النساء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي. وفي الحقيقة هذا التهميش الممنهج يعود إلى زمن استلام البعث الحكم في سوريا، وتسويق مظاهر "الحريم البعثي". إذ كان يُشير إلى وجود المرأة في كلّ تشكيلاته، لكنّ وجودها كان شكلياً فقط، لإثبات أنه حزبٌ علمانيّ متطور. فكانت المرأةُ ممثّلةً في أعلى درجات السّلطة. تقلّدت منصب نائب رئيس الجمهورية، وشقّت طريقها في الوزارات والتّشكيلات الإداريّة، لكنها لم تكن فاعلةً على الإطلاق. موجودة لملء الفراغات لا أكثر.
بعد ثورة 2011 لعبت المرأة السورية دوراً مفصلياً، ودفعت الأمور المستعصية باتجاه الوصول إلى حلّ سياسي تضميني، عبر قيادتها المشرّفة للمنظمات والمؤسسات في كلّ أنحاء سوريا. أيضاً مشاركتها في العملية السياسية بقيادة الأمم المتحدة. وعليه قدمت مساهمات حيوية في المساعدات الإنسانية وجهود صنع السلام والرعاية الصحية والتعليم، فكانت تضطلع بأدوار جمّة، كمستجيبة إنسانية أولى، وقائدة في مخيمات النزوح، وبانية للسلام.
منتهى سلطان باشا الأطرش التي يحمل اسمها رمزيّة خاصة في قلوب وعقول السوريين. تردّدت على مجالس عزاء شهداء الثورة، وسجّلت عبر الكلمات التي ألقتها موقفاً واضحاً من النظام السوريّ، مطالبة صراحةً بإسقاطه، مؤكدة على حرّية الوطن وعلى وحدة السوريين بكافة أطيافهم. في المقابل برزت "رزان زيتونة" التي دافعت عن معتقليّ الرأي عبر "الجمعية السورية لحقوق الإنسان"، ولها مساهمات صحافية في قضايا الإسلام السياسي، وجرائم الشرف، والحريّات في سوريا. كانت ناشطة حقوقية من العيار الثقيل، لدرجة أنها قضت مع زوجها فترة شهر العسل في التحقيق بمجزرة القامشلي التي ارتكبها النظام بحق الأكراد قبل أن تختفي نهائياً وسط ظروف غامضة. كما برزت ميّ سكاف، سميرة الخليل، فدوى سليمان، يارا صبري، كندة علوش، والكثيرات غيرهنّ من اللواتي تركنَ بصمة في الحراك المدنيّ السوريّ.
من البديهي أن ترى المرأة السوريّة مع انطلاق الثورة فرصة ذهبية للتخلّص من قيودها، والتحرّر من وصاية المجتمع عليها، فانخرطت في الحراك السلميّ إلى جانب الرجل، وفي تنظيم المظاهرات والمشاركة بها. كذلك إعداد اللافتات والمناشير المناهضة للنظام الاستبداديّ. فتعرّضت للملاحقة، والاعتقال والضرب والابتزاز الجنسي والنفسي. حيث أحصت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن /8029/ امرأة ما زالت قيد الاعتقال في سجون النظام، ووثقت بينهنّ /74/ امرأة قُتلت تحت التعذيب.
ولنزد من الشعر بيتاً.. هل تذكرون المقاتلة الكردية "ريحانة"، التي مثلت القوات الكردية المناهضة لتنظيم داعش في بلدة عين العرب (كوباني) السورية قبل أن يُقطع رأسها؟ لتعتبر رمزاً من رموز الأمل، بعدما نجحت في إثارة القلق لدى الجانب "الداعشي" قبل مقتلها. في ذلك الوقت شكلت النساء الكرديات ما لا يقل عن 30% من المقاتلين الأكراد الذين تصدّوا لتقدّم تنظيم (داعش) في محاولاته لاحتلال بلدة (كوباني)، وجميعهن تتراوح أعمارهن بين الـ 18 والـ 35 عاماً. هذه الوحدات القتالية للنساء التي ضمت أكثر من 10 آلاف امرأة ، بدت ظاهرة غير عادية في العالم الإسلامي الذي كثيراً ما يربط الحرب مع الرجولة.
التاريخ السوري، لا شك، يغصّ بأسماء نساء خرجن من منطقة المألوف، وتمردنَ على السلطة الأبوية البطريركية. وخارج دائرة "الحريم السوري" بدون أكثر جرأة واستشرافاً للمستقبل السياسي السوري. الكاتبة ثريا الحافظ أول امرأة تترشح للانتخابات البرلمانية في سوريا عام 1953 بموجب الدستور الذي عدّله حسني الزعيم. مريانا مرّاش التي كانت تكتب في الصحف في عام 1870 وتدعو إلى تحرير النساء (كانت أول امرأة عربية تفعل ذلك). ماري العجمي أسست سنة 1910 مجلة العروس. عادلة بيهم الجزائري عملت في جمعيات نسائية، تنادي بحقوق المرأة، بما يتناسب مع الموجة النسوية الأولى التي كانت موجودة بالعالم. حنان نجمة، التي أقامت صالونها الثقافي الخاص في عام 1980 في دمشق، كان لها دور فعال في المطالبة بالتغييرات القانونية لتحسين ظروف النساء والأطفال، وتأمين بعض التنازلات من الدولة...إلخ.
أيضاً التاريخ يكرّر نفسه. ففي عام 2011 برز نموذجٌ مميّز من النسوة السوريّات البسيطات اللاتي اندفعنَ بفطرتهنَّ وغريزتهنّ الأموميّة للوقوف في وجه الظلم والانحياز العفويّ للمظلوم.. فكانت أم أحمد رمزاً للأم السورية، تحاكي شخصية أم سعد في أدب غسان كنفاني، التي فتحت بيتها لإخفاء المنشقّين عن جيش النظام، وساهمت في تزويد الثوار بالسلاح والذخيرة، وإعداد وجبات الطعام وإيصالها لهم أسوة بمساهمة السوريات في ثورة عام 1925. حيث كنّ ينقلنَ الرسائل للثوار، ويطبخنَ الأطعمة لهم، ويوصلنَ السلاح تحت ملاءاتهن.
رغم هذا، وفي ظلّ استمرار السلطة الفظّة والعنف العاري، اللذين يمارَسان على النساء السوريات اللاتي تُركن فرائس للهمجيّة والتخلف والجهل، يبدو "اليوم العالمي للمرأة" ملاطفة ناعمة وساذجة لعواطف المرأة، بغرض إسكاتها عن المطالبة بحقوقها المدنية والسياسية. فالنظام الاجتماعي الذكوريّ يريد تأكيد الهيمنة، وفرضها بصورٍ مختلفة تتسلّل إلى المخيال الجمعيّ وتتغلغل به. وعليه لم لا يكون تاريخ أول مسيرةٍ نسائية ضد الاستعمار الفرنسي عام ١٩٢٢، والتي خرجت من مدرسة المعلمات، وفتحت الباب أمام المسيرة الاحتجاجية التي امتدت حتى التحرير عام ١٩٤٦، يوماً للاحتفال والاحتفاء بالمرأة السورية لتأكيد الدور الريادي التي تميزت به، بوصفها شريكاً أساسياً أثبت مراراً وتكراراً أنّ الثورات التي لا تؤنث لا يُعوّل عليها بطبيعة الحال؟
ليفانت - عبير نصر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!