-
صناعة التاريخ بين الماضي والحاضر
علاقة الحاضر بالماضي في فلسفة التاريخ، في غاية الصُّعوبة والتَّعقيد، لأنَّها علاقة مُرَاوِغَة ومُتقلِّبة ومُتحركة، ومِن الصَّعْب السيطرة على نُقطة متحركة في كُل الاتجاهات.
إذاً كان لزاماً فهم الماضي لفهم الحاضر، فهذا لا يَعني أن نَعيش الماضي في الحاضر، أو ننقل الحاضر إلى الماضي، وإنَّما يعني امتلاك قواعد المنهج العِلمي والتسلُّح بأحدث النظريات الفكرية، إن القدرة على تفسير ظواهر التاريخ وأحداث الماضي، تُعتبر من أهم خصائص العقل البشري. وهذه القدرة مُستمدة بالأساس مِن فهم الواقع واستيعاب أحداثه، فالزمنُ مِثل مَوج البَحْر، لا يُمكن امتلاكه والسَّيطرة عَلَيه، ولكن يُمكن التعامل معه بذكاء، والاستفادة مِن قُوَّته، وتَوظيفه لصالح تحقيق المنافع والمكاسب. وبما أن السباحة ضِد التيار مُتعبة وشديدة الخُطورة، وقد تُؤدِّي إلى الانهيار والغرق، فإنَّ الحل الوحيد هو الاستفادة مِن حركة التيار للوُصول إلى بَر الأمان.
وعليه، فإن لغة الحوار ومهارات التفاوض هي السبيل الأفضل لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار في العالم، ابتداء من مناطق الصراع الساخنة وانتهاء بمناطق الصراع لتقاسم المصالح والنفوذ.
ويتطلب ذلك أن يتوقف المؤدلجون، طائفياً أو دينياً أو إثنياً، أو العنصريون، سياسياً ومجتمعياً (التطرف بأشكاله)، عن الاقتناع بأنهم يمتلكون الصواب المطلق، وبالمقابل أن لا شيء يتقدم على حريّة المواطن وحقوقه، وأن التشاركية بين الجميع حلٌ، والقطيعة إشكالية، وعند إدراك كل طرف بأن الطرف الآخر يمتلك نقاطاً بيضاء؛ وأن مجموع النقاط البيضاء عند تجميعها من كل الأطراف تشكل كلمة سواء يُبنى عليها، حينئذ ستكون ولادة الديمقراطية ولادةً صحيحة، ويكون مناخ العمل السياسي مناخاً طبيعياً قادراً على إنهاض المجتمعات وتقدم الدول.
إن حاجة الولايات المتحدة الأمريكية لحلفاء جراء العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا دفعها الى تغيير سياستها الخارجية، فخلال العامين الماضيين من ولاية الرئيس جو بايدن وقعت إساءات متعمدة ضد دول عديدة، من بينها روسيا والصين، الدولتان النوويتان، والسعودية وإيران، الدولتان النفطيتان، تبعته بعض العقوبات القاسية والوحشية بحقوق الشعوب، وسط تجاهل مقصود للأطر الإنسانية والأخلاقية وحقوق الإنسان، ومتناسية عن عمد أن قوة القانون واحترامه ليست في تغليظ العقوبات، إنما في الإحساس بالعدالة التي لا تتحقق إلا بالنزاهة والرفاهية.
من جانب آخر، لفهم حقيقة ما يجري في الكواليس الضيقة من تسويات، نؤكد ضرورة إجراء حوار ومفاوضات حقيقية وجادّة بين الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها الغرب مع الدول التي تمت الإساءة لها، ودولنا في المنطقة الأوسطية، وأن تكون لهذه المفاوضات الحتميّة (مباشرة وغير مباشرة، تجري بين خصمين بشأن نزاع يبحث طرفاه بحسن نيّة عن حلٍ متوازن يستجيب لبعض مطالبهما، اضطر إليها طرفان بينهما عداء مستحكم، لم تنته أسبابه بعد، يعكس تناقضاً في الرؤى والتوجهات في مختلف القضايا الإقليمية والدولية)، خصوصّية تميّزها عن أي مفاوضات دولية أخرى لتعزيز الأمن والاستقرار والسلام الدولي.
صحيح أن لدى كل من الولايات المتحدة وأوروبا مصلحة واضحة في التوصل إلى اتفاقيات وتسويات مرحلية أو مستدامة لأسباب عديدة في هذه المرحلة الحرجة من مراحل تحوّل النظام الدولي، إلا أن فرض شروط تعجيزية غير متوازنة قد يؤدي إلى انفجار حرب عالمية تهدد الحياة على ظهر كوكبنا. في المقابل فالاتفاق والحكمة والاحتواء الذي هو نقيض الإقصاء (ليس بالحديث تاريخياً)، لكنه يتطور بسرعة نتيجة التغيرات في حقوق الإنسان ورفاهيته، وإذا صدقت النوايا والأفعال فمن الممكن أن تدخل المنطقة برمتها مرحلة جديدة من تاريخها تفتح آفاقاً نحو التهدئة والاستقرار والبحث الجدي عن تسويات لأزمات المنطقة والعالم المستحكمة.
قبل قرن من الزمن، تفاخر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، بقوة العقوبات في التأثير على الناس العاديين، واصفاً لها بالقول: "شيء أكثر روعة من الحرب" بسبب قدرتها على إعادة "أمة إلى رشدها تماماً كما يزيل الاختناق الذي يتعرض له الشخص أية قدرة عنده على القتال".
طيلة عقدين من الزمن، كانت العقوبات تستعيد مكانتها في مراكز القرار الغربية، رغم قناعة الخبراء بمحدودية جدواها ونتائجها الكارثية العقابية على المجتمعات وأضحت سياسة عامة يمارسها الغرب تتعارض مع القانون الدولي وسيادة الدول والتدخل في شؤونها الداخلية وتتجاوز الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي المنوط به فرض عقوبات في حال كانت الدولة التي يتم صدور قرار دولي بمعاقبتها قد تشكل تهديداً للأمن والسلام العالمي.
جاءت الحرب الأوكرانية لتصل العقوبات إلى أرقام قياسية لا سابق لها في التاريخ البشري المكتوب. اجتماعات شبه دائمة لمجموعة السبع والاتحاد الأوروبي ودول الناتو لإقرار المزيد من العقوبات على الاتحاد الروسي. كل اجتماع يحمل قائمة بعقوبات جديدة، حتى ظهور مجموعات بحث وعصف ذهني للتنقيب عن عقوبات فاعلة، تهدد بالمزيد من النيران المشتعلة أصلاً.
من ناحية أخرى، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن هدف بلاده هو تأسيس حزام سلام في المنطقة وخارجها عبر نهج دبلوماسي مبادر يولي أولوية للإنسان وقيمه.
جاء ذلك في كلمة خلال قمة منظمة شنغهاي، في مدينة سمرقند، بأوزبكستان، يوم الجمعة 16-09-2022، ولفت أردوغان أن بلاده تمثل جسراً بين الشرق والغرب، بسبب موقعها المتميز وإمكاناتها الفريدة، معرباً عن استعداد تركيا للتعاون في كافة المجالات، ومنها الأمن والاقتصاد والطاقة والنقل والزراعة والسياحة.
وأضاف "بصفتنا شريكاً محاوراً منذ 10 أعوام في منظمة شنغهاي للتعاون باتت المنظمة واحدة من نوافذنا المفتوحة على آسيا".
وأشار أردوغان إلى التحديات الماثلة أمام البشرية، مثل تغير المناخ والأوبئة وأمن إمدادات الغذاء والطاقة والإرهاب ومعاداة الأجانب والإسلام والعنصرية والهجرة غير النظامية والركود الاقتصادي وتعطل سلاسل التوريد، وأكد أنه لا يمكن التغلب على هذه التحديات إلا عبر تعاون عالمي وتضافر للجهود من أجل حل المشاكل.
أما الرئيس الصيني شي جين بينج، فقال إنّ “على القادة العمل معاً للتشجيع على قيام نظام دولي يسير في اتجاه أكثر عدلاً وعقلانية”، مشدداً على أهمية “منع أي محاولة من جانب قوى خارجية لتنظيم ثورات ملونة في الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي”، ومضيفاً أنه “يجب أن ندعم جهود بعضنا البعض لحماية الأمن والتنمية”.
وأشاد الرئيس الروسي، بوتين، بالدور المتعاظم لمراكز النفوذ الجديدة الذي يتضح بشكل متزايد، مشدداً على أن التعاون بين بلدان منظمة شنغهاي خلافاً للدول الغربية يستند إلى مبادئ مجردة من أي أنانية، وأضاف: "نحن منفتحون على التعاون مع العالم بأسره، ونأمل أن يدير الآخرون سياستهم استناداً إلى المبادئ نفسها".
ومن جهته، أكّد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أنّ الأحادية الأمريكية تسعى لإبقاء دول العالم في حالة من التخلف.
من الواضح حالياً، أن الحرب في أوكرانيا هي بين روسيا والناتو، تجري على أرض أوكرانيا، بدأت وطالت وقد تمتد نيرانها إلى أماكن أخرى، ومعها وبعدها يُعاد تشكيل العالم من جديد.
في تطور لافت، أعلن الرئيس بوتين "التعبئة الجزئية" في روسيا، سبتمبر الماضي، لتدخل الحرب الأوكرانية فصلاً جديداً من التصعيد ميدانياً ولوجستياً، يرتبط بالتحضيرات لعمليات انضمام أراضٍ أوكرانية إلى روسيا والاتحاد الروسي، في منطقتي دونيتسك ولوغانسك (شرق أوكرانيا).
إن القدرة على المناورة وكسب الوقت وتوجيه الضربات المؤلمة هو في صميم العلوم العسكرية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في نفس الوقت قابلية الطرف الآخر في قبول الضربات واستنزاف قدراته بما يقلص الفرص في التفاوض والحوار لوقف الحرب وإجراء تسوية متوازنة.
هل بالإمكان البحث عن خطة إنقاذيه قابلة للتداول والتنفيذ في الحرب التي تزداد اشتعالاً تحمي العالم وتجنبه مآسي حرب عالمية ليس بقدرة دوله والبشرية تحمل نتائجها إذا بقيت للكوكب حياة.
في القراءات العلمية والعملياتية للحرب العالمية الثانية واستخدام القنبلة الذرية من قبل أمريكا فيها، واستبيان مدى قدرتها التدميرية وتأثيرها على الجينات البشرية والكائنات الحية، ولحظ التقدم اللامحسوب للقدرات النووية لدى الدول التي تمتلك ذلك السلاح الفتّاك، بالإضافة الى إنتاج صواريخ عابرة للقارات ومتوسطة المدى وتكتيكية باستطاعتها حمل رؤوس نووية وتستطيع الوصول الى أي مكان بدقة كبيرة، أضحى من الخيال والأوهام استخدام تلك الأسلحة في حروب بين أعضاء نادي الصواريخ النووية لأن ذلك يشكل نهاية المتحاربين وبالتالي نهاية العالم، وقد يكون من واقع تدخلات وحروب قامت بها أمريكا في مناطق عديدة من العالم وبريطانيا في الفوكلاند وفرنسا في أفريقيا وفي هذا العام العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أنها حروب تتم بالأسلحة التقليدية والمتطورة، وإن النصر والانتصار في هذه المعارك هو لتحقيق أهداف محددة وتحصيل لإحداثيات جديدة وتقاسم نفوذ بإطاراته العنيدة، ويؤكد النظرية القائلة إنه في زمن التقدم العسكري المتوازي بين معسكرين لا يمكن أن تُهزم دولة نووية في نفس الوقت الذي لا يمكنها أن تحقق انتصاراً كاسحاً منظوراً بشكل مباشر.
تثبت الأيام والتاريخ أن الجغرافيا من أهم عناصر علاقات الدول المتجاورة بشقيها الإيجابي والسلبي، وعليه فإن الدور الجيوسياسي لتلك الدول كلما تعاظم وكلما تم بناؤه على المصالح المشتركة المتوازنة يساهم بالتأكيد في تعزيز السلام والاستقرار على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وبالتالي في استدامة التنمية بمختلف تسمياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
هل الاستقرار في منطقتنا الأوسطية يمر عبر إيجاد حلول عادلة للقضية الفلسطينية والموضوع الكردي والملف النووي الإيراني؟
إن طرح هذا السؤال المفصلي، يمنح بعض الأمل في عقلنة السياسة، فكراً وعملاً وخطاباً، ويشير إلى أن أحد أسباب الاستعصاء الكبرى والأساسية، يكمن في عدم الإقرار بأن لا حل سياسياً ممكناً من دون الإقرار بأن هذا الحل ينبغي له أن ينطلق بمشاركة سوريا الموحّدة، وأن الواقع العملي والإحصائي يؤكد أن تمسّك أطراف الصراع (الدول الفاعلة بالملف السوري)، في أي صراع محلي بحوامل خارجية تستند إلى رؤية سياسية إقصائية، لاستمرار الصراع، وتفتيت الجغرافيا، والقضاء على المشتركات الاجتماعية والثقافية والإنسانية والحضارية، بين أبناء البلد الواحد.
خيبتنا في منطقتنا الأوسطية فشل الإدارة المستمر، والصورة السيئة لنا في العالم التي يسببها الانسداد السياسي المزمن، وانعدام إرادة التغيير، من خلال تضمين الديمقراطية بلا مضمون والحرية باللون لا بالطعم في الدساتير الوضعية النظرية، مما أفقد مواطنيها الثقة في سياساتها المختلفة، ولن يؤدي استمرار الإخفاق في معالجة فقدان الثقة هذا دون تغييرات حقيقية سوى إلى تفاقم مشاكلها.
مشكلة العقل البشري أنه يريد أن يُخضع الكون كله للمقاييس التي اعتاد عليها متجاهلاً حقيقة ومنطقية التغيير الأزلية الكونية التي أوضحها التاريخ والجغرافيا عبر الحضارات.
وكما قال الأديب "توفيق الحكيم": "إن أزمة الإنسانية الآن، وفي كل زمان، هي أنها تتقدم في وسائل قدرتها، أسرع مما تتقدم في وسائل حكمتها".
ليفانت - باسل كويفي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!