-
صيغة "مذكرة سوتشي" وليدة قلق على الدور التركي ومخاوف موسكو من "تمرد" الأسد
منذ لحظة الإعلان عنها أثارت بنود مذكرة سوتشي حول المنطقة التركية الآمنة، ومنطقة عمليات "نبع السلام"، الكثير من التساؤلات، هذا فضلاً عن أن المذكرة بحد ذاتها تناقض نفسها، وإذ يؤكد الجانبان، الروسي والتركي، في بندها الأول "التزامهما بالحفاظ على سياسة وحدة وسلامة أراضي سوريا"، فإنهما قد وقعا مذكرة يحددان فيها مصير أرض "أجنبية" بالنسبة لهما بموجب مفهوم "السيادة". وإذا كانت هذه القضية خاضعة لتعقيدات المشهد السوري وتشابك مصالح الأطراف على الأراضي السورية، وتخلي النظام عن "شرعية سلطته السيادية" للآخرين ثمناً لبقائه، فإن بنوداً أخرى في المذكرة تفرض تساؤلات تتعلق بالأسباب الكامنة التي دفعت بوتين وأردوغان للاتفاق عليها، والحديث بصورة خاصة حول البند الثالث، الذي يؤكدان فيه "المحافظة على الوضع القائم حالياً في منطقة عملية نبع السلام"، بين تل أبيض ورأس العين وعلى عمق 32 كم". بمعنى آخر، تجميد الوضع الميداني كما هو لحظة توقيع المذكرة، وبالتالي احتفاظ القوات التركية بالمناطق التي سيطرت عليها منذ بداية "نبع السلام، والممتدة من تل أبيض حتى رأس العين، بعمق 32 كم داخل الأراضي السورية.
يمكن القول أن المحادثات التي استمرت ست ساعات بين الرئيسن الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سوتشي يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول)، انتهت بالتوصل إلى تفاهم ثنائي حول تدابير عملية محددة، يُفترض أنها شكلت ضمانات بإزالة كل مصادر التهديد لأمن تركيا عبرالحدود مع سوريا، وذلك حين التزمت روسيا وفق جدول زمني محدد أن تقوم هي بمهمة إبعاد وحدات الحماية الذاتية عن الحدود، حتى عمق 32 كم، وهو العمق الذي حدده اردوغان لعملية "نبع السلام"، ومن ثم يجري تسيير دوريات روسية –تركية مشتركة ضمن شريط بعمق 10 كم على طول الحدود داخل الأراضي السورية. إلا أنه ورغم كل تلك الضمانات تمسكت تركيا ببقاء قواتها والفصائل السورية الموالية لها في الأجزاء التي سيطرت عليها، بين تل أبيض ورأس العين، بطول 150 كم وعلى عمق 32 كم، ووافقت روسيا من جانبها على تجميد الوضع هناك، وصياغة مذكرة "الأمر الواقع"، علماً أنه كان بوسع تركيا الانسحاب على الأقل حتى عمق 10 كم لتصبح الحدود كلها خاضعة لبند الدوريات المشتركة بعمق 10 كم، إلا أن موسكو لم تصر على الانسحاب التركي، ولم تكن تركيا مستعدة لمثل هذا الانسحاب على ما يبدو.
لعل "الضرورات العملياتية" كانت سبباً رئيسياً ضمن جملة أسباب دفعت أردوغان للتمسك بسيطرة تامة على تلك المنطقة. وواضح أنه هناك مخاوف لدى الجانب التركي من احتمال فشل الروس والنظام في إبعاد الوحدات، لذلك قرر أردوغان البقاء في تلك المنطقة، لتكون بمثابة "موقع متقدم" خارج الأراضي التركية، يسهل مواصلة عملية "نبع السلام" إن تطلب الأمر. أما روسيا يرجح أنها وافقت على بقاء القوات التركية هناك، لتستخدم هذا "الواقع" لاحقاً ورقة ضغط على الوحدات، لإرغامها على تنفيذ شرط الانسحاب، وإن لم تفعل يمكن التلويح بأن الخيار البديل عن الانسحاب مواجهة مباشرة مع تركيا. وبرز هذا الأمر جلياً في تصريحات دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، الذي حذّر مؤخراً من أنه "إذا لم تنسحب الوحدات الكردية مع أسلحتها من المنطقة (الآمنة) فإن حرس الحدود (التابع للنظام السوري) وشرطتنا العسكرية لن يقفوا (بينهم وبين القوات التركية). وعندها للأسف ستبقى تلك الوحدات الكردية وحدها وجهاً لوجه مع القوات التركية".
أما السبب الثاني الذي دفع كل من موسكو وأنقرة للتوافق على بقاء القوات التركية في المناطق التي سيطرت عليها منذ بداية "نبع السلام" فإنه مرتبط على ما يبدو بالمخاوف من تطورات الوضع في إدلب. ذلك أنه وعلى الرغم من أن طبيعة التوافقات التركية-الروسية تدفع للاعتقاد بأن الروس على الأقل لن يطلقوا في وقت قريب، معركة واسعة لاستعادة السيطرة على المحافظة، فإن أنقرة تأخذ بالحسبان كل الاحتمالات، بما في ذلك أن تفقد إدلب، التي قد يعود النظام ويطلق حملة عسكرية واسعة لاستعادتها، بذريعة وجود جماعات إرهابية فيها. أما المنطقة الخاضة لسيطرة "نبع السلام" فلن يتمكن من مهاجتمها. وبهذا المعنى فإن إصرار أردوغان على البقاء في تلك المنطقة، يضمن له الحفاظ على الدور التركي في العملية السياسية السورية، وليس فقط لضمان حل لا يتعارض مع المصالح التركية، بل والأهم لأن ذلك الدور، إن كان بالنسبة لتركيا أو روسيا أو إيران أيضاً، بات اليوم عنصر تأثير مهم للغاية في إدارة كل واحدة من الدول الثلاثة علاقاتها على المستويين الإقليمي والدولي، مع الحلفاء والخصوم على حد سواء، فضلاً عن أن الدور في الأزمة السورية، ساهم في تعزيز نفوذهم الإقليمي، ومعه الدولي بالنسبة لروسيا وتركيا إلى حد ما.
في الوقت ذاته هناك اعتقاد لدى البعض في روسيا أن المسؤولين الروس يتخوفون كذلك من نتائج استعادة النظام سيطرته في هذه المرحلة على إدلب، وأن يتهرب من التفاعل كما يجب مع خطوات الحل السياسي، حتى وإن كانت من "تصميم روسي". وتحدثت تسريبات أكثر من مرة عن عناد النظام السوري وعدم تجاوبه مع خطوات في إطار العملية السياسية ترعاها وتدعمها روسيا. ويقول مراقبون أن موسكو تضطر قبل كل خطوة جديدة لإيفاد مبعوثها الرئاسي الخاص ألكسندر لافرينتيف مع آخرين للقاء رأس النظام السوري وحثه على التعامل بإيجابية مع هذه الخطوة أو تلك. وعلى سبيل المثال لا الحصر قالت موسكو أن لافرينتيف بحث خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق، في 19 أكتوبر، الوضع شمال شرق سوريا مع الأسد، فضلاً عن بدء عمل اللجنة الدستورية. وكان لافتاً أن تزامنت تلك الزيارة مع أنباء حول عرقلة النظام مشاركة ممثليه في اجتماع رؤساء القوائم في اللجنة الدستورية، وعراقيل أخرى وضعها في هذا المجال، ما يرجح أن الزيارة كانت مجدداً للضغط على الأسد ليكف عن العرقلة. وإذا صحت هذه الرؤية، فإن موسكو معنية أيضاً بحضور تركي ميدانياً في سوريا، كي لا يتمرد الأسد، إن استعاد السيطرة على كامل الأراضي السورية، ولم يعد بحاجة للدعم الروسي.
بناء على ما سبق يمكن القول إن توافق بوتين وأردوغان على بقاء القوات التركية في المنطقة بطول 150 كم وعمق 32 كم، والبنود الأخرى في مذكرة سوتشي، يعكس توافقاً بين الموقفين الروسي والتركي بشأن طبيعة المرحلة الحالية، والمتطلبات الضرورية للانتقال نحو المرحلة القادمة، وفق رؤيتهما.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!