الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
طالبان تحت المجهر من جديد
عبد العزيز مطر

على مدى العقود الخمس الماضية شهدت أفغانستان حروباً دامية دمرت الكثير من مقومات الحياة فيها ولم تشهد أي نوع من الاستقرار في هذه الفترة، فمن الصراع ضد الاتحاد السوفيتي إلى الصراع البيني بين مختلف القوى السياسية والعسكرية، وحتى سيطرة طالبان الماضية على حكم مطلع الألفية الثانية وتبعات إسقاط حكومة طالبان الأولى بالقوة العسكرية الأمريكية التي أعقبت التفجير الإرهابي لبرجي التجارة العالمي إلى الصراع المندلع بين حكومة أفغانستان السابقة المدعومة من التحالف الدولي مع طالبان الثانية، وانتهاء بسيطرة طالبان للمرة الثانية على أفغانستان.


تلك السيطرة السريعة التي شكلت صدمة كبيرة للدول الداعمة للحكومة الأفغانية السابقة التي انهارت خلال بضعة شهور بالرغم من الدعم المادي الكبير الذي قدّمه المجتمع الدولي لها. ولكن الصدمة الأكبر كانت بالتحوّل الكبير والواقعية السياسية والبراغماتية التي أظهرتها حركة طالبان من خلال تعاملها مع الوضع بعد هروب الحكومة السابقة وسيطرتها على معظم الأراضي الأفغانية والسياسة والمرونة التي أبدتها الحركة من خلال لقاءاتها مع الأطراف الدولية والإقليمية التي لا تشبه الحركة في عام ٢٠٠٠، وكأنّ كل شيء جديد في هذه الحركة من خلال نوعيّة الخطاب والتوجه وتعاملها مع الملف الإنساني والاجتماعي والحريات في الأيام الماضية.


وأكاد أجزم أن الحركة أعادت حساباتها منذ فترة ليست بالقصيرة وبنت برنامجاً سياسياً يكفل لها التعايش مع المحيط الدولي والإقليمي، مع المحافظة على توجهاتها السابقة وإخفائها قدر الإمكان وتقديم المطلوب منها لهذا التعايش مستفيدة من الدروس السابقة المؤلمة التي سببتها، بالدرجة الأولى إصرارها منذ ٢٠ عاماً على حماية رموز تنظيم القاعدة الإرهابي والذي كان هذا الإصرار وقتها كارثياً على الحركة وأدى لصراعها المباشر مع التحالف الدولي ضد الإرهاب وقتها، وأنهى حكمها لأفغانستان، حينئذ تدرك طالبان حالياً أن العالم أجمع يراقبها ويتعامل معها بحذر يشوبه التفاؤل بتغير نهج الحركة وطبيعتها نحو شكل أكثر قبولاً لدى المجتمع الدولي، ويراقب تعاملها مع ملفات حقوق الإنسان بعد سيطرتها على الحكم في أفغانستان، والتغيرات التي تطرأ على الحركة، وهي تدرك تماماً أنّ المجتمع الدولي سيكون مجدداً في مواجهتها فيما لو ارتكبت حماقات أو سياسات غير محسوبة، كما فعلت سابقاً عندما أوت رموز تنظيم إرهابي، وكان سبباً في نكسة كبيرة.


سيتابع المجتمع الدولي والقوى الدولية التعهدات التي أطلقتها الحركة، وخصوصاً في مجال حقوق الإنسان وتحقيق السلم الأهلي وملفات كثيرة أخرى في هذا السياق، وخصوصاً إطلاق حرية التعبير عن الرأي وكيفية تعامل الحركة مع مسألة الحقوق الشخصية والاجتماعية للمواطنين، وجوانب أخرى بخصوص حرية المعتقد والدين ومعاملة المواطنين بشكل متساو أمام القانون، بغض النظر عن الدين والعرق، بالإضافة لمعالجة مسألة حقوق المرأة التي تشغل بال الكثير من المنظمات الدولية وكيفية تعاطي الحركة مع هذا الملف ونظرتها لهذا الموضوع وقدرتها على التكيّف مع هذا الواقع الجديد الذي جعلها على رأس الحكم ثانية في أفغانستان، وبالتالي فإنّ ساسة حركة طالبان لا بد أن يكونوا قد استفادوا من درس الماضي القريب.


أثبتت أحداث الأشهر الماضية أن هناك توافق دولي من قبل القوى الفاعلة على ترك أفغانستان لحركة طالبان واختبار قدرة هذه الحركة على إعادة لعب دور في تحقيق السلم والاستقرار في بلد أنهكته الحروب والأزمات طيلة خمس عقود، والتعاطي بواقعية، والإقرار بقوة الحركة على الأرض، وبالتأكيد إن سيطرة الحركة على أفغانستان لم يكن ليتم دون توافق أو رضى أو غض طرف من قبل هذه القوى طبقاً لمصالح كل قوة في هذا البلد أو محيطه.


وتجلّى هذا التوافق باللقاءات الكثيرة والمفاوضات التي عقدها المجتمع الدولي مع حركه طالبان قبل سيطرتها على أفغانستان ومحاولة الحركه تقديم انطباع وصورة مغايرة عن نفسها، مختلفة تماماً عن صورتها في نهاية القرن الماضي، وتقديم التزامات اتجاه الأطراف الدولية ستكون مسؤولة عن تنفيذها، وهذا ما شهدناه من أيام عبر محاولة طالبان جمع الأطياف السياسية وإجراء لقاءات مع من حاربوها في الماضي من الأفغان، وإصدار عفو عام عن جميع موظفي الحكومة وتشدّد الحركة اتجاه عناصرها وعدم السماح لأحد منهم بالتعدّي على حرية وحركة المجموعات السياسية المناهضة لها، والمحافظة على مؤسسات الدولة الرسمية.


بالتأكيد المجتمع الدولي والقوى الدولية لا تخشى من الشعارات التي تنادي بها طالبان حول مشروعها السياسي في الحكم وفق الشريعة الإسلامية، ولا يخشى المجتمع الدولي التعاطي مع نظام ديمقراطي مستلهم من أحكام الشريعة الإسلامية السمحة، وهناك شواهد كثيرة عن تعامل المجتمع الدولي مع أنظمة تتبنى هذا الطرح والأسلوب وهي شريكة للمجتمع الدولي في قضايا حساسة، كمحاربة الإرهاب وقضية تعزيز السلم والأمن الدوليين، وأكبر شاهد على هذه المكانة التي تتمتع فيها المملكة العربية السعودية ضمن المجتمع الدولي بالرغم من أن قوانينها وحكمها مستمد من الشريعة الإسلامية، فلم يكن الإسلام هو المعضلة بين المجتمع الدولي وطالبان، وما يخشاه ويراقبه المجتمع الدولي أن تتحول طالبان ونظامها بؤرة للمرة الثانية لأوساط متطرفة، وهذا ما نستبعده كون الحركة استفادت كثيراً من تجربتها السابقة، ويقينها الكامل أن المجتمع الدولي سيكون جاهزاً للرد في حال أقدمت الحركة على حماقة ثانية من هذا النوع.


إن المجتمع راغب وبشكل أكيد بعودة الاستقرار لهذا البلد وإيقاف هذا الهولوكست المستمر منذ خمسة عقود، ويتعاطى بإيجابية في هذا الخصوص، فإيقاف هذا الصراع في أفغانستان سيكون له انعكاس إيجابي على السلم الدولي والإقليمي في المنطقة، الأمر الذي يؤدي لحل مشاكل عديدة في المنطقة، ويجفف أحد بؤر التطرّف بعد احتواء حركة طالبان وجعلها شريكة في تحقيق هذا السلم بعد أن أوفت بتعهداتها.


أما بخصوصنا كشعوب وأنظمة عربية وإقليمية، فيجب التعاطي مع هذا التغيير بإيجابية، وعدم السماح لأي قوى إقليمية باحتواء هذا التغيير وتحويله لأجندتها ومصالحها ومشروعها الأيديولوجي التخريبي، والمقصود بالطبع المشروع الإيراني الذي ينظر بريبه كبيره لهذا التغير في أفغانستان، وسيعمد لاستغلال أي ظرف لجعل أفغانستان فريسة له، ويحاول رمي شباكه العفنة للإيقاع بهذا البلد كما أوقع بلبنان وسوريا والعراق في براثنه.


الخطر الإيراني يتهددنا جميعاً كعرب وكإقليم وكقوى دولية، وواجبنا كعرب عدم السماح لهذا الخطر التمدد باتجاه أفغانستان وتحويلها لما كانت عليه سابقاً بؤرة للتطرّف. ولا بد للقوى العربية الفاعلة، كحكومة المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، العمل سريعاً على وأد أي مخطط إيراني في هذا الاتجاه، ومجرد إيقاف هذه الخطط هو إضعاف بحدّ ذاته للمشروع الإيراني في المنطقة العربية.


إن أقصى ما نتمناه للشعب الأفغاني هو السلام والازدهار وعودة النازحين والمهجرين وأن تكون بعيدة عن أي صراع وأن تتعاطى حكومتها الجديدة بواقعية حول ما يريده المجتمع الدولي للوصول للسلام والازدهار المنشود، وأن تكون بعيدة عن مفتاح الشر في هذا العالم، وهو المشروع الإيراني، وتنأى بنفسها عن أي دور في هذا المشروع، وأن تكون حكومة تتعاطى بروح التشاركية مع المجتمع الدولي خدمة للقضايا الإنسانيه العادلة، كمسائل السلم والأمن والحرية والاستقرار والتقدم.


عبدالعزيز مطر


ليفانت - عبد العزيز مطر

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!