-
عام 2024 يسدل ستائره بخاتمة استثنائية على السوريين
هكذا إذًا، أغلق العام 2024 ستائر عروضه بحدث استثنائي انتظره السوريون طويلًا، وأكاد أجزم بأن شعوب المنطقة كلها كانت تحلم بهذا اليوم. ففي نحو عشرة أيام أو أكثر قليلًا، سقط نظام الأسد في سوريا، ليهرب، الرئيس الفار، وهو اللقب الوحيد الذي يليق به، بكامل خيانته للوطن والشعب، تاركًا خلفه تماثيله وعائلته الصدئة التي ما كانت تحرس في يوم من الأيام سوى عشرات المقابر الجماعية ومئات السجون وآلاف آلاف المعتقلين والمغيبين داخلها.
أسقط السوريون نظام الأسد في ليلة من ليالي الشتاء الباردة بعد 56 عامًا من حكم عصابة العائلة الواحدة، لتختفي مع أركان حكمها في غفلة عين، تاركة وراءها اقتصادًا مدمّرًا وشعبًا جائعًا ومدنًا مسوّاة بالأرض وأطنانًا من المخدّرات مع مصانعها البائسة. رحل نظام الأسد مخلّفًا وراءه الكثير من الوجع وما يزيد على أضعافه من اللعنات عليه وعلى إرثه الإجرامي بحق السوريين وشعوب المنطقة جميعهم.
هكذا، وبثلاثة أقانيم ساحرة “سرعة، سهولة، ومن دون سفك دماء” تم إسقاط كبير السّحَرَة، بعد أن تم التمهيد له بمقتل حسن نصرالله في لبنان قبل نحو ثلاثة أشهر، لينهي العام 2024 عرضًا دمويًا استمر لأكثر من ثلاثة عشر عامًا، داعيًا في الوقت نفسه السوريين ومعهم جميع شعوب الشرق الأوسط لأخذ قسط من الراحة خلال أعياد الميلاد ورأس السنة كي يستوعبوا ما حدث في آخر مشاهد العرض، وأيضًا كي يبدؤوا التفكير في الجواب عن السؤال التالي: وماذا بعد؟
“كل شيء يهون أمام سقوط الأسد”. جملة تكاد تكون الوحيدة على ألسنة السوريين ومعهم اللبنانيون على وجه الخصوص، بالنظر إلى ما عانوه وكابدوه من هذا النظام على امتداد عقود. فاستثنائية يوم الثامن من شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 2024، تكاد تطغى على كل ما يليه، ولا سيّما أنه أنهى معه حربًا طويلة داخل الأراضي السورية شاركت فيها دول إقليمية وعالمية عديدة، وأرخت بظلالها على طبيعة وحياة المجتمع السوري نفسه، بما شهده من تحوّلات عميقة في بنيته الديموغرافية والمعيشية وحتى الثقافية.
تحدّيات البناء وصعوباته
تَركةٌ ثقيلةٌ تلك التي خلّفها وراءه نظام “الدولة المتوحشة” كما أسماه الباحث الفرنسي ميشيل سورا قبل أن يموت على أيدي النواة التي شكلت لاحقًا حزب الله في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. لم تترك عائلة الأسد شيئًا على ما يرام في سوريا، من الطائفية التي اشتغل عليها بمنهجية عالية، مرورًا بتقسيم المجتمع عبر تعزيز الحواجز بين السوريين، إلى إفساد القضاء والأنفس وتكريس قوانين الطوارئ، فضلًا عن إدخال الجيش بلعبة السلطة وتدخله بمحاربة الشعب بدل الدفاع عن حدود الوطن وحياضه، إلى توسيع دائرة العصابة الأسدية حتى طالت أصغر موظف في أبعد دائرة حكومية عن العاصمة. هذه المخلفات الجسيمة التي تركها لنا نظام الأسد، ليس من السهولة معالجتها، كما لا يمكن القفز فوقها وتركها من دون علاج، هذا العلاج الذي لا بد منه كي يتسنى للسوريين البدء بإحصاء الخسائر تمهيدًا للخلاص من آثارها، للانطلاق بمرحلة البناء وإعادة إعمار البلد.
يثور في الحلق السؤال التالي: إلى أين تتجه سوريا في هذه اللحظات العصيبة؟ وما حدود إمكانياتها للنهوض وهي مليئة بكل هذه الجراح، وكل جرح فيها مفتوح على احتمالات لا حصر لها، ليس أقلها أن تبقى في مرحلة الدولة الفاشلة.
يتفق الكثير من أبناء البلد على حقيقة أنه لا يمكن تضميد كل هذه الجراح بسهولة، خصوصًا على المديين القصير والمتوسط، فبعد السقوط المدوّي لنظام أدمن الخراب لأكثر من نصف قرن، نحتاج إلى فترة من الوقت لاستيعاب ما حدث، فالبلد يحتاج إلى الأمن والأمان وتبديد حالة الخوف من الانتقام خصوصًا بعد أن سلّم رجال الجيش والشرطة أسلحتهم وعادوا إلى بيوتهم، فمن بدون الاستقرار لن تكون لدينا أرضية للمضي بمشاريع بناء الدولة، وأيضًا يحتاج إلى الإسراع بتأمين الحد الأدنى من الكرامة الاقتصادية والمعيشية للمواطن السوري المنهك، فهي التي سوف يتلمّسها المواطن بشكل مباشر ليشعر بوجوده وانتمائه.
لكن في المقابل، يتفق السوريون على التأكيد بأن المجتمع السوري عاد الآن إلى السياسة. رجع رسميًا ليملأ مجددًا الفراغ المهول في الحقل السياسي والذي كان قد جرّفه نظام الأسد من المجتمع السوري طوال حكمه. عاد المجتمع السوري من أجل إبقاء شعلة الأمل مُتّقدة عبر حوارات جدّية بالشأن العام بين السوريين ووضع أطر مقبولة للسير في العملية الانتقالية وإعادة الإعمار وإرجاع الحقوق المنهوبة لأصحابها وترسيخ بناء المجتمع المدني والنقابي، بما يمهّد لاحقًا لبناء عقد جديد ودستور جديد وإطلاق عملية انتخابات جديدة تقوم على مبادئ الديمقراطية والتعددية السياسية واحترام صوت المواطن المُغيّب لعقود مع نظام الأسد.
تحدّيات جمّة تواجه السوريين في الداخل والخارج، وأسئلة ملحّة تنتظر إجابات هادئة تعتمد النَّفَسَ الطويل والصبور مع إدراك موازين القوى وقواعد اللعبة الجديدة، لأن معرفة توازن القوى في بلد مثل سوريا أهم كثيرًا من الاتكاء وحسب على مبادئ حقوق الانسان التي تتبناها الشرعية الدولية على الرغم من أهميتها على الصعيد الإنساني. فقد أثبتت التجربة أن قضية التقاء المصالح الاستراتيجية بين الدول أهم لدى المجتمع الدولي الذي -مع الأسف- ساند لوقت طويل أنظمة ديكتاتورية مثل نظام الأسد.
من هنا، علينا معرفة ما الذي تهدف إليه الإدارة الجديدة لسوريا بعد إسقاط نظام الأسد، وهو الأمر الذي لن ينساه لها السوريون أبدًا، كذلك لا بد من معرفة ماهية المصالح التي يمكن أن نوازنها مع الدول الداعمة للإدارة الجديدة من دون المساس بمصلحة السوريين، وكيف يمكن للسوريين أن يستفيدوا من إسقاط النظام في إعادة إعمار بلدهم على أسس جديدة وعقد اجتماعي جديد.
ينتظر السوريون بفارغ الصبر أن تعلن إدارة الشرع عن شكل هذه المرحلة وطبيعتها التي سوف تمهّد بالضرورة لمرحلة انتقالية وهي التي لم يتم الإفصاح عنها بوضوح إلى الآن، فمن دون معرفة الوجهة التي ستمضي إليها الإدارة الجديدة لا يمكن تنظيم عمل مجدي ورصين يمكنه أن يحقق النفع العام. وعليه لا بد أن نعرف ما شكل المرحلة الحالية والانتقالية المرتقبة وطبيعتهما، ثم ما الوجهة السياسية التي تريد إدارة السيد أحمد الشرع اتخاذها في المرحلة ما بعد الانتقالية، وما التفكير في طبيعة مستقبل نظام الحكم في سوريا؛ هل سنكون أمام اتجاه فرض وجهة نظر واحدة استبدادية على المجتمع أم سيكون لدينا حكم لامركزي؟ ثم ما دور الدين في كل هذا وما مصير المرأة… إلى آخر الأسئلة التي تشغل بال جميع أبناء الشعب.
سوريا الآن، تعيش فراغًا واضحًا، ومن الضروري العمل سريعًا على ملئه بحكمة مصحوبة برؤية متوازنة تجاه الداخل تمامًا بالقدر نفسه الواجب اتخاذه تجاه دول الإقليم والعالم. فسوريا ليست إدلب والكتل السكانية التي تعيش في سوريا ليست نفسها التي كانت تعيش في إدلب. وهذا التذكير أعتقد أنه واجب على كل سوري يسعى لاستمرار نجاح مشروع التحرير واستقرار البلد.
لقد دفع الشعب السوري ثمنًا يفوق التصور للوصول إلى حريته وصون كرامته، ولا أعتقد أنه سوف يفرّط بهذا الإنجاز بعد ما قدّمه من تضحيات هائلة. وإن لم تكن هذه هي الفرصة الحقيقية للعمل معًا من أجل بناء دولة المواطنة السورية وإعادة إنتاج ثقافة مجتمعنا باعتبار المواطن هو القيمة العليا وهي فوق أي اعتبار، فمتى تكون الفرصة إذًا؟
هي فرصتنا لبناء منظومة حكم قائمة على حيادية الدولة تجاه مواطنيها، وفصل السلطات وإرساء سلطة القانون واحترام حقوق الإنسان وضمان الحقوق الثقافية لجميع مكونات الشعب السوري والعمل على منع عودة الاستبداد بأي شكل كان. كذلك هي فرصتنا أيضًا لإعطاء مساحة أوسع للمجتمع المدني والعمل الحزبي والنقابي على حساب المجتمع الأهلي، بما يعزز نقل فكرة الصراع داخل المجتمع على أساس السياسة، والذي يعدّ أرقى أشكال الصراع في المجتمعات المتقدمة. ولا أظن أنه يمكن الوصول إلى هذا المستوى من الصراع من دون الخروج من مفهوم ثقافة المنتصر الذي يفرض شروطه على الدولة والمجتمع من دون أي اعتبار لطبيعة المجتمع السوري وتنوعه.
على الإدارة الجديدة أن تدرك أهمية عدم اتخاذ قرارات مصيرية مثل صوغ الدستور، وشكل نظام الحكم، وإبرام المعاهدات الدولية، أو البت بمسألة الديون الخارجية وعمليات التجنيس أو إسقاط الجنسية. فهذه القرارات تحتاج إلى هيئات ديمقراطية منتخبة تمثل الإرادة الحرة لجميع السوريين، وإلا ستضطر حينها الإدارة الجديدة إلى أن تعيش في عزلة عن بقية المجتمع السوري وهذا ما لا نرجوه.
المرحلة التي تمر بها سوريا حاليًا بالغة الأهمية، بدءًا من ضرورة المحافظة على الدولة ومؤسساتها (وهو ما يحسب للقيادة الجديدة)، مرورًا بوجوب التأسيس للفترة المقبلة في بناء الدولة الديمقراطية على الجغرافيا السورية كلها. وهذه مسؤولية الجميع وليست حكرًا لطرف دون غيره. وعليه، فإن أي دعوة للمشاركة في أي حوار بين السوريين يجب تلبيتها بمسؤولية كاملة، فالمشاركة فيها واجب وليس مِنّة على أحد، بشرط ألا تكون غاية المؤتمر مجرّد إضفاء الشرعية على القرارات اللاحقة.
ليفانت - بشار عبود
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!