-
على الضفتين.. أسياد وعبيد في سوريا
ينظر المعارضون للموالين والعكس صحيح من موقع الأسياد، فيصبح الآخرون عبيداً بالضرورة. زاوية النظر هذه، تتبناها كتل أصبحت في الخارج، فيصير كل من ظلَّ في الداخل، ولو كان رافضاً للنظام أو غير مؤيد له عبداً، وكذلك ترى كتلاً ممن بقي في الداخل من أصبح في الخارج.
هذا ليس بجديدٍ، هو قديم يتكرّر. عكس السابق هناك قطاعات من المجتمع وليست فئة من المثقفين والسياسيين فقط ترى، أن الوضع السوري أصبح معقداً للغاية، ولم تعد تصلح زاوية النظر السابقة للرؤية، ولا بد من التفكير بمصلحة كافة السوريين، ومن كان مجرماً ليحال إلى المحاكم، وكائناً من كان، ويجب التخلص من الرؤى الكلية للسوريين، فالسوريون موزعون على أسس متعددة، ويتموضعون ضمن طبقات وشرائح وكتل وفئات، وضمن هذه هناك تدرجات وما أكثرها.
زاوية الرؤية الأخيرة تطوي الزاوية السابقة، وتتجاوز مفهوم السادة والعبيد، وهو مفهوم "أخلاقي" بائس في تقييم الآخر بكل الأحوال، ولا يقدم أية فكرة عن الأنا أو الآخر، أو مشكلات المجتمع، وبالطبع عن طبيعة السلطة أو المعارضة أو حقوق السوريين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقومية للقوميات التي تعيش في سوريا.
الزاوية الأخيرة هي حلم السوريين الحقيقي قبل 2011 وبعده. وكل رؤية لا تنطلق من هذه الزاوية تنحاز بالضرورة لرؤية السلطة أو لجماعات ديكتاتورية في تكريس حقوق متغايرة بين السوريين، تخص قطاعاً معيناً وله كل الحقوق، وليس لبقية السوريين الحقوق ذاتها، ومن هنا مصطلحا الأسياد والعبيد.
بعد مرور أكثر من عشر سنوات على الصراع في سوريا، ظلّت السلطة تتبنى الرؤية ذاتها "أسياد عبيد" ولا بد من اجتثاث الآخر، ومشكلتنا أن المعارضة تتبنى الزاوية ذاتها. أكثر من يتبنى هذه الرؤية هي جماعات الإسلام السياسي، بينما أكثرية الشعب المهجر تنتظر حلاً سياسياً، تنتظر الحل "الإنساني" ومساواة السوريين مع بعضهم بعضاً، مع رغبة عارمة في التخلص من الاستبداد بكل أشكاله؛ حيث رأى السوريون السلطات بكل أنواعها؛ سلطة دمشق، وسلطة الفصائل الإسلامية "جهادية، وسلفية، وفصائل، وهناك قسد، وهيئة تحرير الشام". الرغبة تكمن في التخلص من هذه الأشكال والوصول إلى نظام سياسي تعددي، ودولة للجميع، وبغض النظر عن شكلها، حيث هناك خلافات في ذلك، ولكنه الرغبة تلك تريد الوصول إلى إلغاء كافة أشكال التمييز، وعدم التأسيس للأشكال الديكتاتورية من جديد، وتحت أية مسميات جديدة؛ طبعاً هناك قطاعات غير واعية لخطورة التأسيس للديكتاتوريات الجديدة، فتتقبل سلطة الفصائل أو سلطة هيئة تحرير الشام، أو قسد أو النظام، تتقبل ولا تريد أن ترى دور تلك الديكتاتوريات في تقسيم سوريا وتفكيكها وتتبيعها للخارج، الإقليمي والدولي. تلك القطاعات خائفة من الآخر، وعيها مغيب ومستلبة إزاء السلطة التي تحكمها، وترى مصلحتها في الارتباط بسلطة الأمر الواقع، وتتحكم فيها رؤى طائفية أو قومية متعصبة، وبالتالي لا ينتمي وعيها إلى مفاهيم الحقوق العامة، المتساوية لجميع الأفراد.
مشكلة زاوية النظر تلك، لا تكمن في أنها تقسم "شعب" النظام إلى عبيد، و"شعب" المعارضة إلى سادة والعكس صحيح. لا، القضية تكمن في أن النظام يرى شعبه ضمن هذا المنظار، وكذلك قطاعات في المعارضة تتبنى الأمر ذاته. إذاً القضية تتعلق بزاوية رؤية مكرسة، كرستها السلطة عبر عقود من سيطرتها، ولم تستطع المعارضات زحزحتها، والاعتراف بالآخر بصورة جادة، وفي أجواء الاستبداد ستنمو تلك الظاهرة بشكل كبير وتسيطر على التفكير، فيصبح الآخر أقل قيمة واعتباراً، أي عبداً، حيث تلتغي صفته الدينية والقومية والسياسية والإنسانية وموقعه في العمل والتعليم والمجتمع وإنسانيته.
زاوية الرؤية التي تؤسس لمجتمع حديث في سوريا هي مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان، ولكنها غير قابلة للتحقق دون العدالة الاجتماعية، والمساواة بين الجميع، ولكن هل هذا قابل للتأسيس. وهنا أنفي أن تكون مرحلة ما قبل 1963 تسمح بذلك، حيث كانت تسيطر بعض العائلات على الحياة السياسية مُكرِسة التمايز الطبقي وهذا سمح للأحزاب "العقائدية" حينها بالتوسع، والسيطرة على الطبقات المفقرة؛ فلاحين وعمال وفئات وسطى، وسمح ببرز حركة الثامن من آذار، وأن يصبح الجيش محزباً وعقائدياً.
تبني المواطنة والعدالة الاجتماعية كان حلماً للسوريين المؤمنين بها، أو المقتنعين فيها بصيغة من الصيغ، حيث يمكن للمرء أو لبعض الجماعات أن يتبنوا فكرة أو زاوية نظر أو أفكار سياسية أو معرفية ما، ولكنهم لا يستطيعون هضمها وتمثلها وجعلها سلوكاً في ممارساتهم العامة، وهذه مشكلة كبرى في سوريا وسواها، أي الهوة بين النظر والعمل، وهي مهمة للفعاليات العاملة في حقل الثقافة والسياسة.
السوريون بأمس الحاجة للخلاص من منطق الأسياد والعبيد، حيث أصبحوا "عبيداً" لبعضهم وللخارج. أصبحوا في أسوأ حال؛ جماعات السلطة بالتحديد، وفي المناطق الأربعة، ومهما تنوعت أيديولوجياتها هي وحدها التي تعيش برغد وبراحة وليست بعوزٍ أبداً، وأمّا بقيّة السوريين، أي أكثر من 90 بالمائة، فيعيشون على شفا المجاعة وعبر المساعدات الدولية أو المساعدات الأسرية من الخارج، وتحت السلطات تلك والاحتلالات؛ إن كل سلطة تخضع لاحتلالات متعددة.
سيقف عائقاً أمام التأسيس المغاير لزاوية الرؤية وللمفاهيم هذه، ما تكرس مع هزيمة مفاهيم الثورة الشعبية، حيث الطائفية والقومية المتعصبة والإقليمية، وضمن ذلك تراجعت مفاهيم الوعي اليساري والماركسي بعامة، حيث اقترنت بأيديولوجية النظام وبوعي كسول لا يدقق بين النظام وطبيعته البرجوازية الكاملة، وبين ذلك الوعي الذي هدفه الدفاع عن حقوق الطبقات الأكثر تهميشاً، وتبنت معظم تياراته، كما تيارات ليبرالية كثيرة، مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان كأفكار تأسيسية للتحوّل نحو النظام الممثل للكل الاجتماعي.
لا يكفي القول القديم إن الثورة تجب ما قبلها؛ لا، ولا أن أفكار الثورة لم تعد تسمح بالعودة إلى أفكار وزاوية رؤية قديمة. الثورة لم تحدث قطيعة، بل تبنت أفكار النظام ذاتها، فسيدت المعارضة مفاهيم النظام في الطائفية والقومية المتعصبة، وكذلك في ممارسات الفساد والنهب وسيطرت بعض الشخصيات والقوى السياسية على كافة مؤسسات المعارضة، وهذا شوّش الوعي السوري المعارض، فصارت قطاعات كبيرة معارضة ملتبسة في وعيها ولديها الكثير من التلوث بالطائفية والمناطقية وسواه؛ يعيد الأمر إلى جادة الصواب، ونحو قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية التحوّل السياسي الديمقراطي، وكل تحول سوى ذلك يكرس أيديولوجية النظام القديمة وشخصياته أو شخصيات تنتمي إليه، وكذلك شخصيات المعارضة الفاسدة، وبالتالي يتكرس منطق العبيد والأسياد من جديد، فهل يمكن التأسيس الجاد لزاوية رؤية مغايرة وحداثية بامتياز.
ليفانت – عمار ديوب
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!