-
فلنُمسك ما تبقى من سوريتنا إن استطعنا
في البدايات، وحين كانت المواقف لا تتعدى البيانات الإنسانية، وحين كانت المظاهرات السلمية بالكامل تسيطر على مشهد الحراك في سوريا مطالبة في بداية الأمر فقط بالإصلاحات والحريات العامة وإنهاء ملف الاعتقال السياسي، خرج النظام السوري بخطابٍ عدائيٍ يحض على الكراهية مبنياً على التخوين وتقسيم السوريين إلى موالي (مواطن صالح)، وإلى آخر مندس عميل وخائن، وكلمة الآخر وردت حرفياً في برومو تلفزيوني كان يبث يومياً على قناة الدنيا، ليضع كل المتظاهرين جنباً إلى جنب مع كل من يقف إلى جانب مطالبهم في خانةٍ واحدةٍ مع من يصنفون كأعداء للوطن محرضين على اعتبارهم خونة، وإخراجهم -عبر صفة الآخر- من منظومة الأسرة السورية إن صح التعبير فهم آخر.. سوريتنا
حتى الفنانين والمثقفين لم يسلموا من ذلك التخوين وحتى الاتهام بالعمالة لإسرائيل، لمجرد توقيعهم على بيان، أو ندائهم للتعامل مع ما يحصل بعقلانية وانتهاج منطق الحوار. إعلام النظام السوري بشقيه الحكومي والخاص التابع، كان يضخ الكراهية يومياً ضد ما سماها المؤامرة على الوطن الذي تم اختزاله عبر أدوات وتكتيك استُخدم لنصف قرنٍ لغسيل أدمغة الشعب السوري, بحيث يصبح الوطن هو الأسد "الأب الملهم والقائد الخالد" ومن ثم الإبن الوريث "الملهم" لتُختزل فكرة المواطنة بشكل كامل لتكون إما مع الأسد لتصنف سوري ومواطن صالح، أو ضد الأسد وحقيقة انت تكون ضد الاستبداد والنظام الدكتاتوري ولكنك تصنف حينها خائناً وعميلاً، وليتجلى هذا السلوك بشعار النظام وأتباعه "الأسد أو نحرق البلد" كخلاصة.. سوريتنا
اتبع النظام بداية سياسية النفي والإنكار لوجود مظاهرات على الأرض أساساً، ولكنه على الأرض أطلق الشبيحة والأمن ليقتلوا ويعتقلوا وينكلوا بالناس، وأعلن الأسد منذ خطابه الأول بعد أحداث درعا، انتهاء أي أمل في التعاطي العقلاني مع ما يحصل، عبر تبنيه الخيار الأمني والعسكري قتلاً واعتقالاً وتعذيباً وتشويهاً وتخويناً وتكذيباً للدم، هو ما كان الإسفين القاتل في مفهوم المواطنة للسوريين جميعاً. حتى المدارس كانت إحدى أدوات هذا النظام لترويج خطاب الكراهية ذلك، وعلى سبيل المثال، أذكر ما حصل مع ابني الذي كان بعمر 13 عام حينها في إحدى مدارس دمشق الخاصة، حيث طلب منهم أن يكتبوا موضوع تعبيرٍ عن المتظاهرين المخربين الذين يخونون الوطن، وماذا يجب أن يفعلوا لمواجهة المؤامرة، كانت تلك الصدمة الأولى لابني الطفل الذي كان عليه أن يكتب موضوعاً ضد من يراهم هو سوريين مثله ومنهم أفراد من أسرته، كانت تلك صدمته المواطنية الأولى ليكتشف أن الوطن وطنان، وطن يعرفه رسمه في مخيلته، تمت تربيته على محبته ومحبة كل أبنائه واحترام الاختلاف بين كل مكوناته، وبين وطن آخر تمثَّل أمام عينيه بتلك المعلمة والإعلام الذي يشاهده، ولاحقاً بالقناصين الذين أطلقوا النار من أسطح قريبةٍ من منزلنا نحو مناطق متظاهرةٍ في برزة.
ابني حسم صراعه ذلك برفض كتابة الموضوع والتغيب عن المدرسة في اليوم المقرر لقراءته، بالرغم من تهديد المعلمة له، ليكتشف أن كثيراً من زملائه تكاتفوا معه, ورفضوا كتابة الموضوع في ذلك اليوم. كانت الأشهر الأولى من الحراك فقط، ما حصل بعد ذلك للسوريين كان أكبر، وعمَّق الشرخ أكثر، حيث تم استخدام الجيش بعتاده، والأجهزة الأمنية بكل إمكانياتها، والشبيحة والميلشيات الطائفية القادمة لمؤازرة النظام للقمع والقتل والتدمير والحصار والتجويع لكل المناطق التي ثارت ضد النظام، وتمت مؤازرة ذلك التحرك بحملاتٍ إعلاميةٍ مسعورةٍ، ومن خلال الصفحات المشبوهة التي أنشأها الجيش الإلكتروني، وهو ما عمق المقتلة التي أشعلها النظام, وظلت نارها تستعر بحطب الطائفية والتخوين والعنف والمجازر التي ارتكبها هذا النظام، ومن ثم الأسلمة والعسكرة والتبعية لاحقاً، والتي وقعت فيها بعض المجموعات المحسوبة على الثورة أو المعارضة من جهة، أو القوى الإسلامية الدخيلة على الحالة السورية كأجندةٍ ثالثة. التي ساهمت بدروها في ذلك الشرخ العميق.
سرد البدايات هذا فقط من أجل التذكير أن المسؤول الأول عن حالة الشرخ في المواطنة الذي يمر به السوريين, هو نظام مجرم بسلوك أرعن أولاً وثانياً، ومن بعده فصائلٌ وميليشيات تابعةٌ لأجندات خارجيةٍ عمَّقت بخطابها الطائفي الشرخ، لينتج عن هذه السيرورة منذ البداية وحتى الآن، مشهد المواليين الفرحين بقصف جيرانهم من المدن المنتفضة, وإنكار القتل اليوم لأخوتهم في الوطن, وفرح المعارضين المكلومين من المناطق الجريحة تلك بأي قصفٍ يتعرض له النظام، وبتكبد به الخسائر من أي طرف كان، وآخرها الضربات التركية الموجهة للنظام السوري. سوريتنا
لا يمكن للعقل البارد البعيد عن الخطر اليومي الذي تعرض له المدنيين في المناطق التي استهدفها النظام بالقصف بالبراميل كل يوم أن يُحاكِم وطنياً أو أخلاقياً هؤلاء الفرحين بقصف الأتراك للنظام من سكان تلك المناطق، فهذا النظام قتلهم وقتل أبنائهم، وشرد الأحياء منهم. والحقيقة التي يمكن بنائها عبر تراكم المشاهدات للجرائم والأحداث خلال ما يقارب عشر سنوات، تقود للقناعة الى أن الأتراك وكل المتدخلين دون استثناء في الشأن السوري، وبعيداً عن التصريحات الإعلامية وما ظهر من المواقف، غير معنين حقيقة بالمدنيين السوريين ولا بتطلعاتهم إلى الحرية لا من قريب ولا من بعيد، بل معنيين بمصالحهم في المنطقة، وعلى الطرف المقابل الروس والإيرانيين لا يعنيهم من بقاء بشار كشخص إلا مصلحتهم وأجنداتهم الخاصة التي تحكم كل تحركاتهم في سوريا، وتدعم ما يخدمها الى حد انتهاء تلك المصلحة. سوريتنا
إذاً كل ما حصل في سوريا عسكريًا منذ البداية قاد إلى هذه الحالة، حيث لن يتغير الوضع في سوريا وترمم جروح السوريين إلا بنهاية الحرب والانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة دون الأسد ودون مجرمي الحرب، وبالتأكيد هذا سيحصل عاجلاً أم آجلا ً وبطريقةٍ أو بأخرى، وحتى يحين ذلك فلنمسك ما تبقى من سوريتنا، عسى أن نتمكن من أن نعمر بها أنفسنا وبلدنا من جديد حين تصمت المدافع وينته هذا السعار .
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!