الوضع المظلم
الأربعاء ٢٥ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
في أربيل عثرت على فردوسي المفقود في عفرين
مها حسن

منذ اللحظة الأولى لاحتكاكي بأول كردي في إقليم كردستان، في مطار أربيل، أو هولير كما ندعوها بالكردية، شعرت بأنني أرتدي ثوباً آخر.

لم أعتد خلال سفراتي الكثيرة في العالمين العربي والغربي، أن شعرت بهذه الألفة والقرابة مع موظف تدقيق جوازات السفر.

غالباً، بطريقة سرية، تلقى الرجل عاطفتي القوية اللاقصدية، ومنحني عاطفة مماثلة، كانت مزيجا من الفخر والانتماء من الطرفين.

لعبت التحية بالكردية دور السحر، حين عرف الموظف أنني كردية أحمل جواز سفر فرنسي، وأدخل وحدي في الرابعة صباحاً إلى هولير، امتلكه إحساس رأيته مرسوماً على وجهه، بأن هذه المرأة تقربه.

باحثة عن سيارة أجرة تقلّني إلى الفندق، في سابقة أيضاً لم أقم بها يوماً: أن أتحرك من مطار بلد، عربي أو أوربي، وحدي، في مثل تلك الساعة. خاصة أنني أزور أربيل لأول مرة في حياتي.

كأنني في جنديرس أو عفرين أو أية منطقة عرفتها في صباي في المناطق الكردية في سوريا، مع فارق أنني وحدي، دون أبي أو عمي أو أحد أقاربي، مع فارق أيضاً، أن كل هؤلاء الذين حولي، أقاربي.

نعم، شعرت بالقرابة، حين وقفت أمام مجموعة رجال وقلت لهم بالكردية: أحتاج سيارة تكسي.

بالكردية، جاوبني أحدهم وتوجهنا إلى سيارته، وسرت بيننا المفردات الكردية الحميمية التي لم أستخدمها منذ سنوات، حين قلت له: بريمن / أخي.. وقال لي: خوشكامن!

كأنني أصعد سيارة صبري ابن عمي، أو إبراهيم ابن عمتي، أو سيارة أبي، كنت ملفوفة بالطمأنينة، وأنا مع رجل غريب في مدينة أزورها لأول مرة، وأتوجه إلى فندق لا أعرف فيه أحد، حيث لا أعرف المشاركين معي في الورشة التي أذهب للعمل عليها، وفوق هذا، كانت الساعة قد أصبحت الخامسة فجراً، وقد بدأ الضوء يظهر بالتدريج، لكن العتمة لا تزال الغالبة.

وصلت إلى الفندق، وفاجأني صخب الشارع المبكر. كانت الغرفة تطل على الشارع الرئيسي، ولم أستطع النوم، بعد أكثر من عشر ساعات قضيتها من مطار شارل دو غول في باريس، حتى مطار هولير، متوقفة في مطار الدوحة لدقائق قليلة.

إنها هولير التي أنتظر رؤيتها. نهضت باكراً وأخذت حمامي لأنطلق في المدينة، بصحبة أصدقاء مقربين، عرفوا بوصولي، وجاؤوا ليُروني الأماكن الجميلة التي أحب مشاهدتها: القلعة بالتأكيد شغفي الأول.

رأيت القلعة، وجلست في مقهى "مچكو" الشهير، وتجولت قليلاً في تلك الشوارع، إلى أنني فعلت ذلك عدة مرات، في الأيام التالية.

توقفت عن التواصل مع المدينة لمدة عشرة أيام، كنت مسجونة فيها، بين الفندق وصالة سيف " تفاحة بالكردية" حيث فعاليات الورشة، والمطاعم التي نذهب إليها كفريق واحد، دون قدرتي على الخروج من برنامج الفريق الإبداعي، أو لقائي بأحد.

سيامند، صديقي الذي يدعوني بأختي. الذي ترجم روايتي حبل سري إلى الكردية، والذي أنتمي له ولعائلته، كأننا فعلاً من دم واحد، لم نتمكن من إيجاد وقت نلتقي به. رغم الوعود الطويلة بيننا، لتحقيق حلم قديم لي، تبنّى سيامند القيام به: اصطحابي إلى معبد لالش.

البحث عن الزمن المفقود ـ عفرين الآن

ذهبت إلى معبد لالش، الذي يقع في قضاء شيخان في مدينة دهوك. وغمرني السحر هناك، إلى أنني عاجزة عن وصف الطاقة الروحانية التي مدني إياها المكان في هذا السياق العاجل.

في دهوك، اقترح سيامند أن نذهب إلى بيت صديقه العفريني ولات.

وهناك: عدت تماماً فتاة الضيعة.. نسيت الزمن، والجغرافيا، وتناحر الثقافات، وقصص الهويات، ووجدتني أعبر عن دهشتي في تناول الزيتون الأسود على الطريقة العفرينية: متبلاً بالزعتر الأخضر ودبس الفليلفة والكمون والزيت. لم أتناول هذا الزيتون منذ أكثر من ثلاثين عاماً، حين كانت أمي تحضّره بتلك الطريقة.

بين دهوك وزاخو، وجولاتي مع سيامند وكليستان، ثم الأوقات التي أمضيتها في بيته في أربيل مع ولديه، كنت أشعر أنني أخرج من الماضي، لأتصّل بذاتي القديمة، وأتعرف عليها من جديد.

ثمة خصوصية تدفقت هنا: خصوصية عفرين!

بعودتي إلى فرنسا، أحسست أنني تركت قطعة مني في أربيل. رغم أنني لم أذهب من قبل إلى هذه المدينة، لكني شعرت أنها وطني الذي أعرفه وعشت فيه من قبل.

وفي نقاش مع صديقتي حول مفهوم الوطن الذي عثرت عليه في أربيل، طلبت مني تعريف الوطن، فيما لو كان المكان مثلاً. وجدتني أستفيض بالشرح لدقائق طويلة، إلى أن فهمت أن الوطن بالنسبة لي هو المرحلة، وهكذا فإن وطني الخاص هو فردوس الطفولة التي عشتها كسائحة في عفرين، حين كان يصحبني أبي لزيارة أقاربنا في القرية، وكنت أُعامل كضيفة مدللة قادمة من المدينة.

تلك السنوات كانت فردوسي المفقود، الذي عثرت عليه مجدداً في أربيل.

أربيل مدينة التعايش النادر في الشرق الأوسط، التي تغلّف سكانها بالأمان. أربيل، بل هولير التي احتضنتني كابنة عائدة إليها بعد سنوات من الهجرة والهرجان. هولير التي تحتضن الكثيرين من المسلمين، المسحيين، اييزديين، العرب، التركمان ومهاجرين من العراق ذاته، يتحركون جميعاً في فضاء من الأمان والتفاهم والانسجام.. لذلك لابد لي من العودة إلى أربيل وتتمة اكتشاف عوالمي المفقودة التي تركتها في عفرين، وأستردها قطعة قطعة، في هولير.

ليفانت - مها حسن

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!