الوضع المظلم
الأحد ١٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
في الذكرى الأولى لرحيل العم علاء الدين جنكو
في الذكرى الأولى لرحيل العم علاء الدين جنكو

كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهراً، عندما تلقيت مكالمة هاتفية من (دبي)، فتوقفت بسيارتي أمام فندق السليمانية بالاس بنهاية شارع سالم لأرد على المكالمة، وكان المتحدث هو (عبد السلام جنكو)، الذي أخبرني بصوت مرتجف: 

- عَمّي! علاء في مشفى شار، وهو مصاب بجلطة دماغية. 

وما إن أنهى عبد السلام مكالمته على عجل بهذه الجملة المختصرة، حتى توجهت مع صديقي (رضوان شيخو)، نحو المشفى على الفور حيث كان الخبر صادماً جداً بالنسبة لي، وأنا الذي أعلم بأن علاء كان يتمتع بصحة جيدة وببنية قوية وحركة دائمة رغم معاناته من ارتفاع الضغط، إلاّ أنه كان حريصاً على تناول أدويته ومهتماً بصحته كما يجب، فبدأت صورته الجميلة، وهيئته الأنيقة، ومواقفه الإنسانية النبيلة وأفكاره المنطقية النيرة تتزاحم دفعة واحدة في ذاكرتي حتى كدت لا أصدق الخبر، وصرت أتساءل في نفسي:

- كيف حصل ذلك؟ وأنا الذي كنت في ضيافته ليلة أمس نتسامر ونتناقش حتى منتصف الليل من دون ملل، وكان كعادته يقظاً في جلسته، مسترسلاً في أفكاره، سلساً في نقاشاته، حريصاً على حدود الاحترام وحسن الضيافة، متحمساً لعرض مشاريعه المنجزة والتي ما تزال قيد الإنجاز، لا بل كان يعرض عليّ حتى تلك التي لم تتبلور بصيغتها النهائية في دماغه، والأمر الوحيد الذي كان يزعجه في تلك الأمسية هو إلحاح (أم ميراف)، التي كانت تصاحبني في تلك الزيارة، وتكرارها بأن الوقت بات متأخراً ولا بدّ من العودة إلى البيت حيث أعلنت الساعة عن الواحدة بعد منتصف الليل، فقال مازحاً وهو يودعنا بتردد:

- عمتي! لقد أفسدتي علينا أمسيتنا بإلحاحكِ هذا.  

دخلت إليه في غرفة العناية المشددة، وجدت عينيه جاحظتين مع شيء من الحول، يغطي وجهه المحمر قطرات من العرق المتصبب كقطرات الندى على بتلات الزهور، يتنفس بصعوبة، وحشرجته كانت تتعالى كالشخير، وما إن التقت نظراتنا حتى غلبنا البكاء، فأسرعت إلى التواري عن أنظاره كي لا أتسبب في تهييج مشاعره أكثر مما هو فيه، وخلال دقائق تم نقله إلى غرفة مستقلة من غرف العناية المشددة، وشيئاً فشيئاً بدأت حالته النفسية تهدأ، وصار يتنفس بشكل اعتيادي، فدخلت إليه ثانية ووجدته في حالة مستقرة نوعاً ما، ولكن نظراته المفعمة بالحنان والهدوء كانت تبدو منطفئة ومتعبة جداً، وما أن رآني علاء حتى حاول بصعوبة إزاحة ساقيه نحو الطرف الآخر من السرير ليفسح لي مكاناً للجلوس بجواره، فجلست عند قدميه ورأيته يحرك سبابته اليمنى تعبيراً عن نطقه بالشهادة، فمازحته:

- عَمّي! لن أقبل منك هذه الشهادة، عليك أن تشهد بسبابتك الأخرى أيضاً.

ابتسم علاء ابتسامة رقيقة، وصار يجاهد في تحريك سبابته اليسرى التي كانت مصابة بشلل شبه تام، فاختنق الكلام في حنجرتي وانهمر الدمع من عيني من دون استئذان، ولم يبقَ أمامي إلاّ أن قبّلت جبينه، وسارعت إلى مغادرة غرفته كي يرتاح، ولكنه مع -الأسف الشديد- لم يعد إلى النطق بعد ذلك ثانية، حيث تراجعت حالته الصحية بشكل متسارع وأصيبت أعضاء جسمه الرشيق بشلل تام، وبات من دون حركة، وهو الذي كان يمضي يومه كالآلة في حركة منتظمة ودائمة، وفي نشاط مثمر ومكثف بين جامعة التنمية البشرية التي كان يدرّس فيها، وجامع باريكا للاجئين الكرد السوريين الذي كان يخطبُ فيه صلاة الجمعة ويدرّس فيه علوم الشريعة وأصول الدين، وبين تأليف العديد من الكتب الهامة، وإعداد العشرات من الأبحاث والدراسات الثقافية المميزة، وحضور الندوات، وأداء واجباته الاجتماعية وفرائضه الدينية من دون انقطاع، فضلاً عن التزامه الثابت بقضية شعبه وانشغاله المستمر بهمومه ومعاناته، وكان لي نصيب وافر من وقته الثمين الذي كنا نقضيه في الزيارات المتبادلة والخوض في النقاشات الجدية والساخنة أحياناً، حول القضايا الدينية والقومية، وفي مختلف المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية، محتفظين فيما بيننا بمساحة واسعة من حرية التباين والاختلاف.

في عصر ذات اليوم، أخبرتني الطبيبة المناوبة في المشفى بقلق شديد، وقالت لي بأن الجلطة أصابت مركز الحركة في دماغ علاء بشكل كامل، وبأن وضعه بات في خطر أكيد، حينها لم يبق أمامي إلاّ أن أخبر شقيقه عبد السلام، عن حقيقة وضعه، وطلبت منه الحضور بأسرع وقت، أجابني عبد السلام:

- سأحضر عَمْي بإذن الله خلال ساعات، لقد قطعت للتو تذكرة السفر من دبي إلى السليمانية.

بعد ذلك بساعات قليلة طالبتنا الدكتورة بنقل علاء إلى مشفى آخر لأن وضعه لم يعد يحتمل البقاء أكثر في مشفى شار لعدم توفر أجهزة التنفس اللازمة فيه، وفي النتيجة توجهنا به محمولاً في سيارة الإسعاف إلى مشفى (أنور شيخة)، وأمضى فيها يومين بإجراء الفحوصات والتحاليل اللازمة، ولكن حينها كان وضعه قد تدهور كثيراً مع الأسف الشديد، واقترب من النهاية.

لم أحاول رؤيته خلال فترة تواجده في مشفى (أنور شيخة)، حرصاً مني على الاحتفاظ بصورته الأخيرة التي رأيته عليها في مشفى (شار)، حيث كان يبتسم وأنا أمازحه، ولكن الصدفة جمعتني به وللمرّة الأخيرة عندما كنت أهمّ بالخروج من صالون المشفى عند الظهيرة، وإذ بباب المصعد ينفتح فجأة ليخرج منه علاء منقولاً على النقالة التي يدفعها الممرضون من غرفة الانعاش نحو غرفة التصوير وهو مغمض العينين من دون حركة، وكأنني كنت على موعد للقاء به، فتفحصت بعمق وجهه الملائكي الذي كان ما يزال محتفظاً بنضرته ونعومته، دون أن أعلم بأنها ستكون هي نظرة الوداع الأخيرة.

عدت في المساء إلى البيت يائساً من حالة علاء الصحية، فاقداً الأمل في عودته إلى حياته الطبيعية إلاّ بمعجزة إلهية، قلقاً على مصيره، منتظراً بألم النبأ السيء في أيّة لحظة، وما أن غفوت غارقاً في الهواجس والكوابيس حتى أيقظتني رنة الموبايل فالتقطته على عجل، لأسمع في الجانب الآخر صوت عبد السلام وهو يحدثني منتحباً:

- عمي، البقية بحياتكم!

 كانت الساعة حينذاك تشير إلى الثانية من صبيحة يوم الجمعة (24/9/2021)، فتوجهت منهاراً نحو المشفى لنبدأ بالإعداد لمراسيم رحلته الأبدية من هناك إلى مثواه الأخير، مروراً بداره الواقعة في مساكن (يكرتو)، في مدخل السليمانية الشرقي، لإلقاء النظرة الأخيرة من قبل عائلته وأهله ومحبيه، ومن هناك إلى جامع عبد الكريم المدرّس الكائن خلف مشفى (بخشين)، لإنجاز مراسيم الغسل والكفن، ومن هناك إلى جامع مخيم باريكا الذي أشرف هو بنفسه على تأسيسه وبنائه لبنة لبنة، وخطب فيه لما يقارب عقداً من الزمن، لأداء صلاة الجنازة عليه هناك، ومن هناك عدنا به من جديد إلى السليمانية يرافقه موكب طويل، ليوارى الثرى في قلب مدينة السليمانية التي كان يحبها، في مقبرة (سيوان).

حضر مراسيم الدفن، المئات من أهله ومحبيه، وخطب في هذه المراسيم صديقه الأمين العام للاتحاد الإسلامي الأستاذ (صلاح الدين بهاء الدين)، ورئيس جامعة التنمية البشرية بالسليمانية الدكتور (مريوان أحمد رشيد)، وزميلاه من الطاقم التدريسي بالجامعة الدكتور (صهيب آميدي)، والدكتور (يحيى عمر ريشاوي)، الذين أشادوا في كلماتهم بمناقب الدكتور علاء، وألقوا الأضواء على سيرته الحافلة بالعطاء والإنتاج والإبداع في المجال الأكاديمي والثقافي والاجتماعي والدعوي والإنساني، واختتمت أنا المراسيم بتقديم كلمة شكر باسم عائلة الفقيد، لكل المشاركين في تلك المراسيم سواء بالحضور أو بالتواصل عبر الهاتف والإنترنت.

كان علاء قد خرج من البلاد وغادر القامشلي إلى الإمارات العربية المتحدة، في الوقت الذي كنت أنا أتابع دراستي الجامعية في مدينة حلب، وأؤدي الخدمة الإلزامية في الجولان على الحدود مع إسرائيل، ليتابع هو دراسته الجامعية ومن ثم نيله الدكتوراة وممارسة مهنة التدريس هناك، ليقرر فيما بعد الانتقال إلى السليمانية بكردستان العراق خريف عام (2010)، ليعمل مدرساً في قسم الحقوق بجامعة التنمية البشرية، حيث كنت أنا الآخر قد استقريت في هذه المدينة الجميلة والهادئة، ممثلاً لحزبنا في إقليم كردستان العراق منذ عام (2007)، وهكذا جمعتنا الصدفة من جديد وكل منّا يحتفظ في ذهنه بصورة ليست إيجابية تماماً عن الآخر، فهو كان يزن مواقفي من منظار ديني، وأنا كنت أزن مواقفه من منظار علماني، كل يتوجس من الآخر، ويتصرف معه بتحفظ وحذر حرصاً على الرابطة العائلية التي تجمعنا من أن تتأثر بنقاشاتنا التي قد تقودنا إلى الاختلاف والتصادم والقطيعة كما كنا نتوقعه للوهلة الأولى.

مع وصول علاء إلى مدينة السليمانية بفترة قصيرة، اندلعت الأزمة السورية وبدأ كل منا ينخرط في أحداثها بطريقته وأسلوبه وقناعاته، وخاصة على الصعيدين السياسي والإعلامي، وسرعان ما أظهرت التجربة اليومية عقم تحفظاتنا تجاه بعضنا البعض، لا بل إنها وبالعكس من ذلك كشفت عن المزيد من القواسم المشتركة التي باتت تجمعنا، ولعل أهم تلك القواسم هو التزامنا المطلق بمعاناة الشعب الكردي القاسية والدفاع عن حقوقه القومية والإنسانية العادلة التي تشكل قاسماً مشتركاً أعظم بيننا بكافة المقاييس والمعايير الدينية منها والدنيوية، وهكذا بدأ باب الحوار بيننا ينفتح بهدوء، وازدادت مساحة الثقة المتبادلة بيننا شيئاً فشيئاً، حتى بتنا ننظر معاً إلى النصف الملآن من الكأس، متجاهلين نصفه الفارغ باتفاق.

لقد كان الدكتور علاء، متواضعاً في تعامله مع الآخرين، متألقاً في حضوره الاجتماعي وعلاقاته الإنسانية، مرناً في حواراته الروحية ونقاشاته السياسية، عنيداً في الالتزام بانتمائه الديني والقومي، سبَّاقاً إلى فعل الخير والتقرب إلى هموم الناس وآلامهم، زاهداً في سلوكه، عصامياً في تصرفاته، حريصاً على الأمانات وصون الكرامات ورد الجميل، خبيراً في تشخيص أمراض مجتمعه بمختلف أشكالها، جريئاً في الدعوة إلى مكافحتها سواء في خطبه الدينية، أو بكتاباته الفكرية والأدبية والدينية، أو بأفعاله الإنسانية النبيلة في خدمة مجتمعه.

قرر علاء القدوم إلى السليمانية بشكل مفاجئ، بعد أن كان قد فقد في دبي طفله (عبد الله)، إثر غرقه في البحر بينما كانوا في رحلة عائلية على الشاطئ في الشارقة بتاريخ (1/4/2010)، ولا شك بأن هذا الحادث كان قد شكل دافعاً نفسياً إضافياً لرحيله عن تلك البلاد، فحل في السليمانية ضيفاً على بعض أصدقائه الذين تعرّف عليهم أثناء دراسته في دبي وأم درمان، من ذوي الميول الإسلامية، وعلمت منه بأن الدكتور علي قرة داغي (رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وصاحب جامعة التنمية البشرية بمدينة السليمانية)، الذي تربطه به علاقات شخصية، هو الذي دعاه للتدريس في جامعته بمدينة السليمانية، الأمر الذي دفعني إلى الاعتقاد بأنه جاء بتأثير مباشر من أصدقائه الإسلاميين، حتى أنني وبعد اندلاع الأزمة السورية بداية عام (2011)، وانخراطه المكثف في النشاطات والفعاليات السياسية داخل كردستان وخارجها، الخاصة بالشأن السوري، وظهوره المتواصل على القنوات الإعلامية، بادرت إلى محادثته حول هذا الموضوع، وقلت له: عمي، أنا أُقدّر حيويتك وانخراطك الفعال في النضال بكل السبل الممكنة من أجل قضية شعبك المظلوم والدفاع عن حقوقه، لا بل إن ما تقوم به هو واجبٌ دينيٌ وإنسانيٌ قبل أن يكون واجباً قومياً، ولكن ما أريد أن ألفت نظرك إليه هو أن تترك الفاصل واسعاً بين نشاطاتك هذه التي أبدعت فيها بمهارة، واستقطبت من خلالها أوساطاً واسعةً من الرأي العام الكردي حولك، وأصبحت بالنسبة لهم شخصية دينية معتدلة تنطق بخطاب قومي موضوعي ومتزن، وبين الانخراط في العمل الحزبي والتنظيمي الذي سيعود بك إلى دائرة مغلقة وضيقة من الأنصار والمؤيدين، أو الانزلاق إلى مصيدة تأسيس حزب إسلامي أو ما شابه ذلك، الأمر الذي سيعزلك عن الرأي العام ويجهض طاقاتك كغيرك من كوادر الأحزاب الإنترنيتية التي تتوالد يومياً، فإنك نجحت بجدارة في بناء شخصيتك العلمية والأكاديمية، وتألقت في الظهور على شاشات القنوات الإعلامية خبيراً كردياً إسلامياً يفضح منطقياً التطرف بكافة أشكاله، ويزيح بمهارة الستار عن المنظمات الإرهابية التي تعمل تحت القناع الإسلامي، إلى جانب اعتمادك خطاباً دينياً معتدلاً يشكل قاسماً مشتركاً بين عقيدتك الدينية وانتمائك القومي، في وقت تفتقر حركتنا السياسية في سوريا إلى مثل هذا النموذج الديني المعتدل فكرياً والمستقل تنظيمياً والملتزم بقضيته القومية بالتوازي مع التزامه بدينه الحنيف.

كان علاء يتابع كلامي بانتباه شديد، وكأنني بكلامي هذا كنت ألامس جرحاً عميقاً يوخزه من الداخل، وما أن انتهيت من كلامي، حتى أجابني علاء:

- اطمئن يا عمي، أشكرك على هذا التنبيه، وأُعلمكَ بأن الأستاذ صلاح الدين بهاء الدين أيضاً كان له نفس الرأي حول هذا الموضوع.

وهكذا، بدأت أتابع نشاطات علاء وكتاباته باهتمام، وأرصدها بمسؤولية وحرص شديدين، ربما لأنني كنت أرى نفسي معنياً به بسبب علاقة القرابة التي تجمعنا، وتقديراً مني لظهور مثل هذا النموذج النادر من رجال الدين المتنورين بين صفوف حركتنا القومية الذين يجمعون في شخصيتهم الاعتبارية أكثر من شخصية، دينية وثقافية وسياسية واجتماعية، ويمزجونها بمقادير متوازنة تنتج خطاباً معتدلاً، واضحاً وصريحاً، وهكذا كان علاء الذي أينعت ثماره وحان قطافها، إلاّ أن الأجل كان أسرع، وبذلك خسر الجميع بفقدانه المفاجئ والمبكر وهو لم يزل في أوج عطائه.

الحقيقة أنني لم أكن أهتم سابقاً بالعلاقة بين عائلتينا كما يجب، فقد كنت أعلم فقط بأن عائلة (شمدين)، وعائلة (جنكو)، إلى أن وصل علاء إلى السليمانية، وهو الخبير بهذه العلاقات وبتوثيقها، فانفتحت علاقاتنا الشخصية، ومن ثم العائلية وتعمقت شيئاً فشيئاً، فتكونت لدي رغبة شديدة في معرفة درجة القرابة العائلية التي تجمعني بهذا الشخص الحنون الذي قذفته الصدفة إلى هذه البلاد التي كنت استقريت فيها من قبله، والذي أحببته حباً أخوياً حميمياً صادقاً، فأخبرته متأسفاً: عمي، هل تعلم أنني حتى اللحظة لا أعرف تماماً درجة القرابة التي تجمعنا، فهل لك أن تشرح لي عمقها؟

ومن دون أن يرد على سؤالي، هبّ علاء واقفاً باتجاه جهاز الكمبيوتر الموجود على طاولته التي كانت تعج بالمراجع والأوراق والكتب المرمية بشكل عشوائي يدل على مدى انشغاله بالكتابة والقراءة والأبحاث، وفتحه على عجل، ونقر بالسهم على ملف محفوظ على سطح مكتب هذا الجهاز باسم (مهمو)، وهو يتمتم:

- لحظة عمي! كيف لا أعرف؟ طبعاً أنا الذي أعرف، لقد قمت بتوثيق هذه المعلومات كلها منذ سنوات، وما زلت أنتظر فرصة مناسبة لأقوم بترتيبها وتنسيقها من جديد.

قال هذا وهو يوجه شاشة اللابتوب نحوي، ويشرح لي المخطط الذي رسمه بخط يده:

- انظر يا عمي، إن (جنكو) و(شمدين)، هما أشقاء، والدهما هو (مهمو)، فأنا مثلاً (علاء الدين- عبد الرزاق- مصطفى- عبدالله- جنكو)، أما أنت (علي- محمد صالح- داوود- شمدين- سليمان- شمدين).

وتابع علاء حديثه باهتمام شديد وكأنه يكشف لي عن سرّ خطير: 

- عمي، ألا تلاحظ بأنني أسبقك بدرجة واحدة، فأنا ووالدك محمد صالح في درجة واحة بالنسبة لجدنا الذي يجمعنا (مهمو).

أجبته مازحاً:

- لقد هزمتني يا عمي مرتين، مرّة لأنني لم أكن أتوقع بأنك تملك مثل كل هذه المعلومات الهامة، ومرّة لأنه بات لزاماً علي أن أناديك (عمي)، لأنك تسبقني بدرجة من القرابة.

فأطلق علاء ضحكته المعروفة عالياً، وهو يوجه كلامه إلي:

- أجل، عمي!

كثيرة هي النقاط التي كانت تجمعني بالدكتور علاء، ولكن موضوع الكتابة والحديث عن القضايا الثقافية، كان من أكثرها جاذبية لديه بالمقارنة مع النقاط الأخرى السياسية والاجتماعية والدينية، وكان يخوض بشوق وحماس الحديث حول مشاريعه وأبحاثه المتزاحمة في ذهنه، والتي تستدعي إنجازها أوقاتاً طويلة، فيختتم حديثه السلس بالقول متحسراً:

- عمي! ألا ترى بأننا بدأنا بالكتابة متأخرين مع الأسف؟

لقد كان علاء يكرر هذا القول على مسامعي بين الحين والآخر وكأنه يريد أن يعبر لي متألماً بأن الوقت المتبقي له من الحياة لن تكفيه لإنجاز مشاريعه المتراكمة، فكنت أجيبه مشجعاً:

- اطمئن يا عمي لم نتأخر كثيراً، حتى وإن كنا بدأنا متأخرين كما تعتقد، فإنه خير من ألا نبدأ أبداً، فما زال أمامنا الكثير من الوقت للعمل، ثم إذا كان وقتك لن يكفيك، وأنت الذي لم تتجاوز بعد عقدك الرابع من عمرك إلاّ قليلاً، فماذا عني وأنا الذي تجاوزت السادس منه ونيف؟

فكان علاء يصمت خجلاً من دون أن يقتنع بكلامي، وها قد صدقت نبوءته مع الأسف الشديد، ولم يمهله الوقت الفرصة التي كان ينتظرها بمعنويات عالية لإنجاز ما كان يحلم بإنجازه، ومن أهم مشاريعه التي كان يريد إنجازها مشروعان كبيران ظل يدعو الله أن يفسح له الفرصة الكافية لتنفيذها، دراسة حول العشائر الكردية في سوريا، وأخرى حول الإسلام والكرد، هذا فضلاً عن مشاريعه المنجزة التي تنتظر الطبع في أقرب فرصة، سيرة والده، ومذكراته الشخصية، وكان قد نشر مجموعة من الكتب والدراسات الهامة، منها:

- التقابض في الفقه الإسلامي وأثره على البيوع المعاصرة (2004).

- رواية من الملاذ إلى حطين في سيرة الناصر صلاح الدين الايوبي (٢٠١٥).

- سير أعلام الكرد في سوريا/ في جزأين (٢٠٢٠).

- رواية لهيب القرية (٢٠٢٠).

- رواية كولبهار (٢٠٢١).

منذ وصول علاء إلى السليمانية، ووتيرة اللقاءات كانت تزداد بيننا باطراد شديد، وكنا نلتقي حتى من دون موعد وكان معظم تلك اللقاءات تتم في ضيافته، نلتقي متى وكيفما اتفق، لم تكن لقاءاتنا لتمضية الوقت وإنما استغلالاً للفراغ، واستثماراً للوقت الضائع، وكانت لتلك اللقاءات طقوسها الخاصة من الاستقبال والضيافة وأسلوب الحديث، فكان الوقت ينساب من بين أيدينا كالماء من دون أن نشعر به وهو يمضي، نتناقش إلى حيث يقودنا الحديث إليه من غير جدول عمل، نتناول أوضاعنا الشخصية والعائلية من دون حواجز أو حدود رسمية، والأوضاع السياسية عادة لم تكن تأخذ من وقتنا الكثير لتقارب وجهات نظرنا حولها إلى حد التطابق تقريباً، حيث استطعنا خلال عقد من التواصل والتفاعل والنقاشات أن نبلور بيننا خطاباً معتدلاً وننسج معاً موقفاً يتضمن آراءنا المشتركة حول مختلف القضايا القومية والوطنية والدولية، أحياناً قليلة كنا نختلف حول بعض القضايا السياسية التي سرعان ما ننجح في تجاوزها بالنقاش والتفاهم والحوار، وكذلك الأمر في القضايا الدينية، حيث كنت أتجنب الخوض فيها كثيراً ملتزماً بتخويلي له في مثل هذه القضايا التي كان علاء متبحراً فيها، لابل كنت أستجيب أحياناً لدعوته في مشاركته الصلاة وصيام رمضان، وحتى في القضايا الاجتماعية كنا متقاربين في الموقف، فهو كان يترك بمرونته وثقافته الواسعة الباب مفتوحاً لتجاوز الاختلافات في الرأي، وأكثر ما كان يزعجه ويجعله يفقد أعصابه كما يقال، هو عند تلقيه سؤالاً استفزازياً مقصوداً من بعض المتحاورين معه، أو تلك الكتابات التي كان البعض يكتبها عبر شبكة النت ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تحرض على الإلحاد والكفر، فكان قاسياً في رده على مثل هؤلاء، وكنت أختلف معه حول أسلوبه هذا أحياناً، وكثيراً ما كان علاء يستجيب لملاحظاتي ويبادر في النتيجة إلى حذف بعض من تلك الردود القاسية.

لقد تنبأ علاء بوفاته في خطبة الجمعة التي ألقاها قبل رحيله بأيام، تحدث فيها هذه المرّة وكغير عادته عن الموت مصدراً للتفاؤل ومدخلاً إلى حياة خالدة، فكان يخطب بأعصاب هادئة، وبإيمان ثابت بالله واليوم الآخر، واثقاً من رصيد أعماله، مطمئناً لحكم الله ورحمته، متشوقاً للرحيل إليه، غير آبه بمن خلفهم وراءه، لأنه تركهم في رعاية الله.

ليفانت - علي شمدين

كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!