-
كواليس وكوابيس المرحلة الانتقالية
يثير القلق والريبة اجتماعات متفرّقة يعقدها في الخفاء مجموعات من السوريين بعيداً عن الإعلان المسبق أو متابعات الإعلام، ويعزّز ذلك سرية تلك اللقاءات، وغموض الجهات الداعية والراعية لها، إضافة لما يطرح فيها من مشاريع تدور حول اللامركزية أو الفيدرالية أو التقسيم على أسس قومية أو طائفية، ولا يرشّح منها سوى ما يراد من خلاله توجيه الرأي العام.
تعطّل الحلّ السياسي بضغوط وصراعات بين الدول الفاعلة في الملف السوري، ودفع العديد من الدول نحو مسارات عمل فرعية، والتدخل من خلالها بشكل يضمن مصالحها مستقبلاً، من خلال استمرار تأثيرها، عبر أطراف سورية حليفة، ويفرض ذلك على السوريين، رفض الانخراط أو دعم أي حل غير راسخ أو متكامل الجوانب، وربما اشتراط العبور بمرحلة انتقالية مدروسة بدقة تتوافر لإنجازها الشروط الموضوعية الضرورية.
يقع التحوّل الديمقراطي في طليعة أهداف الثورات المعاصرة ضد الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية، ورغم المخاطر الحقيقية في الثورات المضادة، وامتدادات الدولة العميقة وتشعباتها، إلا أنّ الرغبات العاطفية تضغط لتطبيق الانتقال المباشر دون العبور بمرحلة انتقالية ملائمة، ورفض أي تأجيل حتى لو كان لغاية تحقيق مشروع وطني جامع، وقد تصنّف مثل تلك المحاولات في خانة الأنظمة البائدة أو ضمن بروباغاندا العداء للثورات والديمقراطية، وقد يدرج البعض هذا المقال ضمن ذلك الإطار.
لا شك أنّ مبادئ وقيم الوطنية السورية، تعرّضت لزلزال عنيف تحت وقع تحولات دراماتيكية، خلال تسع سنوات من عمر الثورة، وبرز دور قوي لمكونات تحت وطنية عشائرية ومناطقية وطائفية، وفوق وطنية قومية ودينية، وظهرت مخاطر جدية في تفتيت وحدة التراب السوري وتفكيك مؤسسات الدولة، وانكشف غياب تصورات موضوعية وبرامج عملية قادرة على استيعاب صدمة السقوط وتصور سيناريو مناسب لوقائع اليوم التالي.
قد يجري تبرير العمل على تبني مشاريع وحلول غير ناضجة، بدعوى الانسداد السياسي القائم، ومن غير المنطقي الترويج لتجارب طبقت وثبت فشلها في العديد من البلدان، ما تزال تعاني نتائجها الكارثية منذ عقود، مثل لبنان وأفغانستان والعراق.
مع قبول الكثير من التحفظات والمحاذير والنقد، إلا أنّ طرح مرحلة انتقالية بات أمراً يحمل المزيد من الوجاهة، ويدعم ذلك تغيرات جذريّة ضربت الواقع السوري بعمق منذ اندلاع الثورة السورية، يمكن تصنيفها ضمن خمسة سياقات رئيسة:
الأول: فرضت الوقائع الميدانية الحالية تقسيم الجغرافيا السورية لثلاثة مناطق نفوذ وسيطرة رئيسة، وهي تهدّد بشكل خطير وحدة التراب السوري ومركزية الدولة، ومع أنّ نقاش اللامركزية أو الفيدرالية بات مطروحاً ضمن أي عقد اجتماعي قادم، إلا أنّ التقسيم لا يمكن أن تستوعبه إمكانيات سوريا الهزيلة بعد دمارها الشامل، كما أنّ الواقع الجيوسياسي يجعلها نقطة قلق دائمة وجاذبة، لتصفية الصراعات وحسابات المصالح وتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، ويستدعي ذلك توحد الإرادة الوطنية ضد التقسيم، واستغلال المرحلة الانتقالية لإعادة رسم الخارطة الوطنية، بما يتناسب مع مصالح وتطلعات السوريين، أولاً المرحلة الانتقالية
الثاني: تسعى الدول الفاعلة تمرير حل سياسي يضمن مصالحها واستمرار تأثيرها، وتفسر خلافات الدول الفشل في إنجاز أي حل، وينبغي على السوريين عدم القبول بأيّ طروحات أو مشاريع لا تناسب مصالحهم الوطنية، حتى لو كان ذلك بذريعة الخلاص من المحنة بأيّ ثمن، وتغدو المرحلة المؤقتة أفضل من تكريس حل دائم لا يضمن الاستقرار، ويصبح من المستحيل إصلاحه فيما بعد.
الثالث: خسرت هيئات المعارضة ثقة وتفويض جمهور الثورة، حيث انخرطت في لعبة المحاور الإقليمية والدولية، في البحث عن نفوذ ومصالح شخصية، ولم يعد ممكناً تفويضها على بياض لتقرير مستقبل سوريا، ومن الأفضل إقصاء شخصيات المعارضة الرئيسة عن لعب أي دور خلال الفترة الانتقالية.
الرابع: تمثّل المكونات تحت وطنية تهديداً خطيراً للنسيج السوري الواحد، وبدأ يظهر دفع خارجي مباشر لتشجيع النوازع الطائفية والعشائرية والمناطقية، وجرى بالفعل دعم وتنظيم مؤتمرات لمختلف طوائف الأقليات بشكل خاص، وينبغي رفض أي دستور مبني على محاصصات طائفية أو مناطقية، والعمل على إنجاز عقد اجتماعي يمثّل الإرادة الحرة للسوريين ومصالحهم الوطنية.
الخامس: تعمل المشاريع فوق وطنية على تجاوز حدود الدولة السورية نحو جغرافيا أوسع، دينياً، عبر تنظيم داعش أو جبهة النصرة في دولة الخلافة الإسلامية، وقومياً، عبر مشاريع وحدة عربية، أو ربط قومي كردي لإقليم شمال وشرق سوريا مع مشروع كردستان الكبرى في أراضٍ، من العراق وتركيا وإيران وسورية، أو تطلع التركمان للاستمرار تحت السلطة التركية، لكن احترام الحقوق القومية لكافة المكونات السورية، يجب ألا يسمح ذلك تحت أي ضغط، بقبول أو تمرير أي مشاريع انفصاليّة وخارج الفضاء السوري.
يحتاج تجاوز السياقات الخمسة السابقة، توحيد الجهود السورية الوطنية المخلصة لبناء عقد اجتماعي راسخ، ويرتبط أمل السوريين بحلّ سوري سوري دون تدخلات خارجية، ويمر ذلك عبر مجلس وطني تأسيسي يضع خارطة طريق ويشكّل سلطة لإدارة المرحلة الانتقالية.
يعرقل تشكيل المجلس التأسيسي تحت ضغوط هيئات المعارضة والنظام والدول النافذة، كما أنّ صعوبات لوجستية جمّة تعقد عملية انتخابه بشكل ديمقراطي، بسبب حالة الشتات التي يعيشها السوريون نازحين ولاجئين، ويحتاج العبور من تلك المعضلة توافقاً دولياً قد يؤدّي لوضع سوريا تحت الوصاية الدولية فترة مؤقتة.
لا بدّ من متابعة وكشف كواليس القاعات المظلمة، لمنع ما يجري فيها من التحوّل إلى كوابيس، يصعب التخلّص منها في المستقبل السوري، الذي بات عائماً بدون قرار.
ليفانت – عماد غليون
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!