-
لماذا تحطّم الحضارة الغربيّة الأسرة وتشجع المثلية؟
منذ نشوء الرأسمالية كعلاقة إنتاج تعرّضت لمقاومة بنيوية من قبل المجتمع الإقطاعي الأبوي (البطريركي)، فقد كانت عملية شيوع وازدهار الرأسمالية مشروطة بتفكيك المجتمع التقليدي وخلع الفرد من ارتباطاته وضمه لسوق العمل والإنتاج والاستهلاك ككائن مستقل (حر).
فالليبرالية كفلسفة اجتماعية سياسية اقتصادية للرأسمالية تتناقض بنيوياً مع المجتمع الإقطاعي الذي استقرّ وازدهر على بنية اجتماعية سياسية اقتصادية أبوية (بطريركية) كرابطة قرابة وخضوع وانضباط مجتمعي مختلف جذرياً عن الرأسمالية الناشئة على هوامشه بسبب تطور أدوات الإنتاج ووسائله وعلاقاته. كافة قيم الأسرة (العفة والنزاهة الجنسية والترابط) التي قام عليها المجتمع البطريركي بدأت تنهار مع انهيار الدور الاقتصادي للأسرة الصغيرة والكبيرة، وانهيار علاقتها التي توزع العمل والمسؤوليات ضمنها. ومع تفكك النظام السياسي الإقطاعي القائم على حكم اللوردات المرتبط بالكنيسة، لصالح نظم جديدة رأسمالية ليبرالية.
مع نشوء الرأسمالية صار التقدم والازدهار مرهوناً بالتحرر من الارتباطات الأسرية، واستبدالها بعلاقات العمل الجديدة التي نمت وفقاً لها بنى سياسية جديدة أيضاً، لعبت الدولة فيها وظائف أعمق وأكبر، فدخلت الدولة حياة كل فرد بدلاً عن العلاقات السابقة، وجعلت كل فرد في علاقة مباشرة مع الدولة والسلطات كمواطن مستقل حر.
تحويل كل فرد لشخصية اقتصادية مستقلة (مواطن سيد حر مستقل) جعل من المحتم تفكيك علاقاته والتزاماته الأخرى تجاه غيره، الذي صار بدوره يطالب الدولة بالتزامات وحقوق خاصة به عوضاً عن تلك القديمة التي غلفت علاقته بها سابقاً، وهكذا صار من الواجب تحرير المرأة من سلطة الرجل، ودفعها لسوق العمل كندّ متساوي الحقوق والواجبات، وتحرير الطفل من تسلّط الأهل، ومن التزامه تجاههم، وتجاه أقاربه، مما أضعف عملية تقاسم العمل ضمن الأسرة ووضعها في طريق التفكك، وأدّى بشكل متزايد لتدني سوية الإنجاب، وتناقص المجتمعات، ولتفكك الروابط داخل الأسرة الصغيرة والكبيرة، التي لم يعد لها دور حيوي في بقاء أي فرد وحياته، حيث يمكنه الاعتماد على خدمات ومؤسسات الدولة وحدها، إن كان طفلاً أو امرأة أو طاعناً في السن أو مريضاً، أو ذوي احتياجات خاصة، حتى لو كان وحيداً لا قريب له، بل إن أقرباءه صاروا في حل من التزاماتهم تجاهه، وصار من الكافي إرسال باقة ورد للمستشفى إذا مرض أحد الوالدين.
منذ البداية كان من مصلحة الرأسمالية إضعاف قدرات العمال والمنتجين والمستهلكين على المقاومة والممانعة لمجمل النظام الذي فرضته ليكرّسها طبقة مهيمنة، وخاصة بعد ازدياد وعيهم بحقوقهم، الذي أجبرها على تبني سياسات خدمية اجتماعية وديموقراطية، ولكي لا تخسر كل امتيازاتها كطبقة مالكة تتعيّش على فضل القيمة الذي ينتجع العمل، اتبعت سياسات تحطيم كل البنى والأدوات التي تساعد الفرد العامل على التمرد، وبشكل خاص كل الروابط التي يمكنه الاعتماد عليها في تمرده، وصارت سياسات الدول تسعى دوماً لتجريد كل عامل وعزله تماماً عن الآخر وربطه (عارياً مجرداً من كل سلاح) بالدولة التي تتحكم به كما تشاء، بالرغم من وجود منظمات نقابية وأحزاب يسارية لأنّها أصبحت جزءاً ضرورياً مكملاً للنظام الرأسمالي الطبقي السائد، ولا تشكل خطراً وجودياً عليه ضمن نظام ديموقراطي شكلي محكوم بنفوذ رأس المال فعلياً، إنها الرأسمالية الاستبدادية بشكلها المقنع بالديموقراطية، وتحت شعار الليبرالية والخصوصية، تمت عملية تفكيك الروابط الاجتماعية، وتحطيم أية إمكانية للمقاومة وكل أداة يمكن استخدامها جمعياً.
أصبحت العلاقات الجنسية الحرة هي البديل الطبيعي عن نظام الزواج، خاصة بعد تطور أدوات منع الحمل، وأصبحت العلاقات بين الأبناء والآباء أو بين بعضهم علاقات ثانوية بالمقارنة مع علاقة كل فرد بالدولة ومؤسساتها التي صارت تتحكم بكل شيء في حياة الفرد، وتبقيه عارياً مجرداً تحت رحمتها، فشعار كل فرد حر مستقل يعني كل عامل وحيد في مواجهة المؤسسات المتضخمة للدولة، التي تحقق في النهاية مصالح الطبقة الاقتصادية المالكة أي الرأسمالية.
وإمعاناً في تحطيم العلاقات الأسرية كان من الضروري تشجيع وحماية الإباحية الجنسيّة، وفوق ذلك المثلية الجنسية التي رفعت لدرجة التقديس، بدلاً عن تقديس الأسرة والإنجاب وربط الدافع الجنسي به حصراً، منهية تلك القداسة التي فرضت على عملية التزاوج وإنشاء الأسرة التي ترعى الأولاد وتوظفهم في بنائها الاجتماعي الاقتصادي الذي يتحول لسياسي بمقدار نمو الأسر الأوسع البطريركية، العدو الأول للرأسمالية.
هكذا تستمر الرأسمالية في الدفاع عن نفسها بمقدار تفكيك وتحطيم الأسرة كوحدة اجتماعية اقتصادية يتأسس منها المجتمع، واستبدالها بالفرد المنعزل عن الآخر، الذي يطبق قواعد التباعد الاجتماعي والسياسي، أي الليبرالية التي ترعاها الدولة، لكنها بهذه الطريقة تذهب بمجتمعاتها نحو الضمور والشيخوخة مفسحة المجال أما شعوب أخرى تتبنى نظريات اجتماعية سياسية مختلفة لكي تجتاح العالم وتحتل مكانتها كمنتصر أقوى في صراع البقاء للأفضل الذي قد يلبس رداء التخلف في غالب الأحيان.
ليفانت - كمال اللبواني
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!