الوضع المظلم
الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
لماذا يُعامل الكرملين مواطنيه بازدراء
© Dmitry Astakhov/POOL/TASS

  ليفانت نيوز/ترجمات
 

وائل سليمان

لطالما كانت طموحات القادة الروس عبر التاريخ فوق حقوق المواطن الروسي العادي وأبداً لن تكون روسيا ما بعد بوتين مختلفة

تـــ جسّد حرب الرئيس فلاديمير بوتين على أوكرانيا واحدةً من السمات الأساسية للحكم الروسي، متميزةً عن الديمقراطية الليبرالية بالتجاهل، إن لم نقل الازدراء، الظاهر من الحاكم الروسي تجاه شعبه.

إن احتياجات الحاكم، بغض النظر عن مدى أنانيتها أو تقلباتها، غالباً ما تتفوق على أية اعتبارات أخرى ومنها حقوق الفرد الروسي. قبل الغزو الروسي، على سبيل المثال، يبدو إن القيادة في الكرملين لم تخبر الجنود الروس بأنهم كانوا على وشك دخول أوكرانيا لخوض حرب حقيقية. بعد ذلك أهملت تلك القيادة المطالبة بجثث القتلى لأن الاعتراف بوفاتهم قد يُحرج الكرملين.

كريستوفر بورت الباحث الزائر روسيا وبرنامج أوراسيا كريس بورت باحث زائر في برنامج روسيا وأوراسيا في كارنيغي.
كريس بورت باحث زائر في برنامج
روسيا وأوراسيا في كارنيغي

نظر الحكام الروس والسوفييت عبر التاريخ إلى شعوبهم على أنهم بلا قيمة، وأفضل مكان للتضحية هو ساحة المعركة. لم يكد يصدق الجنرال الأمريكي دوايت أيزنهاور ما قاله المارشال السوفيتي جورجي جوكوف إن طريقة الجيش السوفيتي لتطهير حقول الألغام في الحرب العالمية الثانية كانت إرسال المشاة عبرها كما لو لم تكن هناك ألغام. وينسب الروس إلى جوكوف مقولة “ستلد النساء المزيد”، الذي يلخص موقف القيادة تجاه الناس كعلف للمدافع يمكن استبداله.


لننظر الآن إلى دميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس السابق. يتبنى ميدفيديف علناً التشجيع بلا حدود لحربَ بوتين. عندما سلم بوتين الرئاسة إليه قبل أربعة عشر عاماً كان يُنظر إليه كنقيض ليبرالي لبوتين، فهو محام ذو عقلية إصلاحية دون خلفية مع المخابرات السوفياتية برع في إيجاد لغة مشتركة مع القادة الغربيين.

واجه ميدفيدف إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بعرضه “إعادة ضبط” العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في عام 2009 في أعقاب حرب موسكو ضد جورجيا العام السابق. (بدا أن القليل من القادة الغربيين يستثمرون خطاب ميدفيديف العدائي المحيط بتلك الحرب).

كان لإعادة الضبط تلك عائداتها. بالنسبة لبوتين، فقد لفت الانتباه الدولي بعيداً عن الحرب في جورجيا دون الحاجة إلى الاعتذار عن أي شيء. كما مهدت الطريق لمعاهدة الأسلحة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا السارية حتى اليوم.

منع ميدفيديف بيع نظام دفاع جوي من طراز S-300 لإيران في عام 2010 وقرر عدم استخدام حق النقض (الفيتو) في تصويت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يخول حلف الناتو فرض منطقة حظرٍ جوي فوق ليبيا في 2011. وأثار الإجراء الأخير أكبر عرض علني للخلاف بين ميدفيديف وبوتين الذي كان رئيساً للوزراء حينها.

ميدفيديف، ولاية قصيرة لكنها حقيقية

تصوَر رئاسة ميدفيديف اليوم على أنها خدعة من البداية إلى النهاية ومجرد وسيلة لبوتين للتهرب من حدود الولاية الدستورية، لكنها لم تكن كذلك. أظهر قرار ليبيا وغيرها أن ميدفيديف هو من رسم السياسة الخارجية الروسية، حتى بالرغم من اعتراضات بوتين. كان لدى ميدفيديف فريقه الصغير والمخلص واكتسب تعاطفاً أو دعماً من  نخب روسية ضمت بعضاً من حاشية بوتين مثل المستشار السياسي جليب بافلوفسكي والناشط السياسي في الكرملين فلاديسلاف سوركوف والأوليغارش أليشر عثمانوف. ازدهرت وسائل الإعلام المستقلة مثل TV Rain والمنصات الرقمية غير الخاضعة للرقابة إلى درجة لم تكن لتتحقق في عهد بوتين.

ميدفيديف مع فلاديمير بوتين في 27 مارس 2000 ، بعد يوم واحد من فوز بوتين في الانتخابات الرئاسية.

ميدفيديف مع فلاديمير بوتين في 27 مارس 2000 ، بعد يوم واحد من فوز بوتين في الانتخابات الرئاسية.

تُجسّد الرئاسة في روسيا القوة الحقيقية، ويندر أن تخلى حاكم روسي طواعية عن السلطة على ما يذكر التاريخ. قال بافلوفسكي ذات مرة، وهو المقرب من السلطة ومن المطلعين، من غير المؤكد أبداً أن يكون بوتين قادراً على إقناع ميدفيديف بإعادة منصب الرئاسة. والواقع أن بوتين نفسه كان يرى في رئاسة ميدفيديف تحدياً حقيقياً؛ إذ ألغى الإجراءات التي اتخذها ميدفيديف ورفض جميع الموالين له والمتعاطفين معه أو اختيارهم أو حتى اعتقالهم تقريباً.

بخلاف الدولة الأمنية التي بناها بوتين، تبدو ولاية ميدفيديف كعصر ذهبي من الكياسة والأمل. ففي خريف عام 2009، وربما في ذروة استقلاله، تحدى ميدفيديف مفهوم قرون من الحكم الروسي، بما في ذلك حكم بوتين، مشدداً على إعلاء الحقوق الفردية فوق احتياجات الدولة منتقداً معارضيه بشدة. في سبتمبر/أيلول 2009 كتب مقالاً بعنوان "روسيا، قُدُماً إلى الأمام" قال فيه: "لدينا حركتان عصريتان في تاريخ البلاد هما بطرس الأكبر والسوفييت جاءتا بنتائج رائعة دفع الشعب الروسي ثمنها حرباً وإذلالاً ودماراً. اليوم، ولأول مرة في تاريخنا، لدينا فرصة لإثبات. . . أن روسيا قادرة على التطور باتباعها مساراً ديمقراطياً".

في أكتوبر/تشرين الأول 2009، في عيد ضحايا القمع السياسي، ذهب ميدفيديف إلى أبعد من ذلك، مشيراً إلى الملايين الذين لقوا حتفهم في عهد البلاشفة والزعيم السوفياتي السابق جوزيف ستالين، فقال:

"يأتي اليوم من يقول إن هؤلاء الضحايا قُدموا لهدف أسمى هو مصلحة الدولة العليا. ولكنني مقتنع بأن نجاح البلد وتطوره وتحقيق طموحاته لا تكون على حساب حزن وخسارة الإنسان. لا شيء يعلو فوق قيمة الحياة البشرية". ورأى بعض المعلقين الروس في ذلك الوقت في تصريحه على أنه "فتح جديد": فقد واجه ميدفيديف الستالينية وجمهورها المؤيد. وواجه بشكل غير مباشر البوتينية التي تعلي أيضاً الدولة على الفرد.

ربما لعب تحدي ميدفيديف للبوتينية دوراً في تصميم بوتين على استعادة الرئاسة. فكما قال بافلوفسكي، المستشار السياسي، شعر بوتين بالتهديد بما فيه الكفاية بحلول عام 2010 ما دفعه لاستعادتها. ربما كانت نقطة التحول في يناير/كانون الثاني من ذلك العام، عندما قدم ميدفيديف خطة لتمكين الأحزاب على المستوى الإقليمي – أي جعل روسيا أكثر ديمقراطية – دفعت بوتين ليقول علناً بأن ميدفيديف كان يحاول تحويل روسيا إلى أوكرانيا فوضوية. يبدو أن ميدفيديف أثار أمرين يشكلان لبوتين رهاباً قوياً: الديمقراطية وأوكرانيا.

كان سجل إصلاحات ميدفيديف الفعلية هزيلاً وألغى بوتين معظمها لاحقاً. لكن رسالته، التي يسميها بعض الروس ميدفيديف الافتراضي، كان لها تأثير كبير على روسيا حينها. كان جوهر الرسالة إمكانية تغيير البلاد والمزيد من الحرية. وفقاً لهذه الرؤية، لم يكن محكوماً على روسيا أن تظل إلى الأبد تحت نير أجندة رجل واحد ذو نظرة رجعية. في سبتمبر/أيلول 2011 انهارت هذه التوقعات عندما أعلن ميدفيديف تنازله عن السلطة لبوتين. بعدها بوقت قصير ملأ عشرات الآلاف من المتظاهرين شوارع موسكو ومدن أخرى. كان السبب المباشر للاحتجاجات هو الانتخابات التشريعية المزورة. أما السبب الأعمق فكان السخط لأن الناس يعاملون مرة أخرى بازدراء.

استعدوا للتغيير…دون توقع الكثير

حتى لو نجح ميدفيديف في إقناع بوتين أو إجباره على التخلي عن السلطة للأبد في عام 2011، فليس هناك ما يضمن أن روسيا كانت ستحرز تقدماً نحو الرؤية الديمقراطية المذكورة في "روسيا، قُدُماً إلى الأمام" لم يُظهر ميدفيديف أي ميل للإشراف على آلية الحكومة الروسية المعقدة، ناهيك عن آليات صنع القرار غير الرسمية والشبكات القوية من المصالح الخاصة. كان يفتقر إلى الشجاعة في قناعاته. وعوض عن افتقاره إلى أوراق اعتماد قوية باستعراض الغضب العارم ضد كل من المرؤوسين المحليين والأعداء الخارجيين مثل الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، تماماً كما فعل في الأشهر الأخيرة بانتقاداته اللاذعة ضد أوكرانيا وقيادتها.

مع ذلك، أظهرت رئاسة ميدفيديف المبتورة أن روسيا التي يحكمها شخص آخر غير بوتين يمكن أن تكون أقل عداءً للغرب وأقل قمعاً في الداخل. لقد ومضت في تاريخ روسيا بقعة ضوء وإن كانت باهتة، قدم فيها رئيس روسي بديلاً عن بوتين والبوتينية. إذا كان لروسيا أن تكسر نمطها التاريخي المتمثل في إعادة خلق الاختلافات في الأنظمة الاستبدادية إلى الأبد، تحت قيادة القياصرة أو الأمناء العامين أو الرؤساء، لكانت ولاية ميدفيديف هي الأمثل.

عاجلاً أم آجلاً سيأتي اليوم الذي يحكم فيه روسيا شخص آخر غير بوتين. قد يقول قائل إن من يحل محله ربما يكون أسوأ منه. لكن هذه الافتراضات لم تعد قوية كما في السابق. فهناك حُجة قوية مفادها أن حاكم روسيا القادم يمكن أن يكون أقل قمعاً وأقل معاداة للغرب وأقل تمثلاً بأسلافه من بوتين.

بعد كارثة أوكرانيا، قد يبدو إرث بوتين أقل جاذبية للنخبة الروسية. فهو يتحمل مسؤولية قيادة روسيا إلى طريق مسدود من العقوبات الاستراتيجية والعداء الدائم من زملائه السلافيين والكثير من الغرب وتبعية أعمق للصين وحلف شمال الأطلسي الموسع الذي يمكن أن يشمل فنلندا والسويد فضلاً على الجيش المحتاج إلى إعادة البناء، إضافة إلى الاعتماد المستمر على صادرات الطاقة. من المرجح أن يرغب الحاكم التالي لروسيا في اتباع نهج جديد والتخلي عن القديم.

كما أدان الزعيم السوفيتي السابق نيكيتا خروتشوف ستالين، فمن السهل تخيل خلفٍ كان يوماً ما مساعد بوتين الذي يدين أخطاء سلفه ويفتتح حملة للإطاحة ببوتين. يمكن أن يكون هذا الشخص ميدفيديف أو حتى شخص أكثر تشدداً. بعد وفاة ستالين، بدأ رئيس الشرطة السرية السوفيتية، لافرنتي بيريا، في إزالة الستالينية قبل أن يطيحه خروتشوف ويعدمه.

صورة تعبيرية. وكالة رويترز. أرشيف

الجزء الأصعب سيكون في الغرب، حيث إدارة التوقعات المحيطة بالانتقال عن عهد ليس فيه بوتين، عهدٌ قد يكون فوضوياً وغير شفاف وطويل الأمد. إن الطريقة التي تتعامل بها الدول الغربية مع الأيام والأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية قد تكون حاسمةً في تحديد نغمة العلاقات الروسية بالغرب على المدى الطويل.

على غرار اتّباع ميدفيديف لخطاب بوتين، على الحاكم الجديد التمتع بالصلابة لردع المنافسين في الداخل والخارج، في الأقل إلى أن يوطد سلطته. هناك أيضاً احتمال قوي أن يكون الزعيم القادم هدفاً للعقوبات الغربية لتواطؤه في أفعال نظام بوتين. يبدو أن هذه العوامل تثبت صحة الافتراضات القائلة بأن روسيا منيعة على التغيير ويجب الاستمرار في معاقبتها واحتوائها.

على افتراضٍ أن بوتين ترك روسيا أضعف، فإن الإغراء بمواصلة سياسة الاحتواء سيكون قوياً. زيادةً على ذلك، فإن أي محاولات من قبل النظام الجديد بإظهار نوايا سلمية إلى العالم الخارجي سوف يفسرها البعض في الغرب على أنها إشارة للضغط عليه بشكل أكبر. من المرجح أن يؤدي اتباع نهج عقابي مفرط تجاه روسيا بعد رحيل بوتين إلى إضفاء الشرعية على المتشددين في موسكو وتسمم العلاقات طويلة الأمد بالغرب.

وإذا تسابقت الفصائل المتنافسة على السلطة في روسيا ما بعد بوتين، فسيخلق ميل قوي لدعم المعسكر الذي يُنظر إليه على أنه الأكثر صداقة مع الغرب. قد تتواصل بعض الجهات الفاعلة المشاركة في الاقتتال الداخلي بين الفصائل، أو وكلائهم، للحصول على الدعم الغربي. ومع ذلك، فإن التدخل الصارخ بشكل مفرط من قبل جهات خارجية يمكن أن يلوث الفصيل المدعوم، كما حدث إلى حد ما في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي.

وعلى العكس من ذلك، من المرجح أن يثير رحيل بوتين آمالاً غير واقعية بالتغيير على المدى القريب في روسيا لدى البعض في الغرب. وفي حين أن درجة من التحرر والانفتاح على الغرب يمكن أن تحدث بسرعة، فإن إعادة المركزية وحتى الاتجاهات الاستبدادية يمكن أن تكون قوية بغض النظر عمن يتولى زمام الأمور. وغياب أو ضعف مؤسسات سيادة القانون الروسية مثل الهيئة التشريعية والمحاكم ووسائل الإعلام لن يساعد أبداً. ومن المحتمل أن يظل الكثير من النخبة والمجتمع في البلاد معادين للغرب حتى لو تبنت القيادة نهجاً أقل عدائية. من المرجح أن تؤدي هذه العوامل إلى خيبة أمل مبكرة من النظام الجديد.

اقرأ المزيد: الانشقاق الليبي يتعمّق.. باشاغا يغادرطرابلس والدبيبة يتوّعد

في مقاله "روسيا، قُدُماً إلى الأمام"، قال ميدفيديف إن التحول إلى روسيا المستقبل، حيث تحل حقوق الإنسان محل نزوات حكام البلاد، سيكون بطيئاً وتدريجياً. إذا كان مثل هذا التطور ممكناً على الإطلاق، فإن عودة بوتين إلى السلطة وحربه على أوكرانيا أعادته إلى الوراء وأكدت أن العلاقات بين روسيا والكثير من الغرب ستكون عدائية لسنوات عديدة.

ومع ذلك، فإن الأمور ليس مقدراً لها أن تظل على هذا النحو إلى الأبد. سيكون رحيل بوتين، متى حدث، الفرصة الحقيقية التالية لإعادة ضبط تلك العلاقات، إن لم يكن على مسار جيد على الأقل على مسار أكثر واقعية وربما أقل عدائية.

 

المصدر: معهد كارينغي للسلام الدولي

 

 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!