الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
مجتمع ما قبل الدولة
مصطفى سعد
كان المستعمرون الأوروبيون مسيحيين والفاشيون إيطاليين والنازيون ألماناً، وحالياً المتطرفون الجهاديون الإسلاميون التكفيريون سنة والشبيحة علويين.

ربما تحمل هذه الوقائع شيئاً من الصحة، لكنها تضلل تماماً من لا يقرأها في سياقها التاريخي والاجتماعي، إذ إنّ الصحيح أيضاً -بل الأكثر صواباً- أّن المسيحيين لم يكونوا استعماريين ولا كان الإيطاليون فاشيين والألمان نازيين، وليس العلويون شبيحة ولا السنة متطرفين جهاديين تكفيريين.

فلا يمكن مقاربة ظواهر الاستعمار والفاشية والنازية والتطرّف والتشبيح والإجرام وفهمها وعلاجها انطلاقاً من مفهوم هوياتيّ ديني أو عرقي أو مذهبي، أي أنّ السبب لا يمكن حصره في الانتماء تحديداً وإنما في مجموعة أسباب سياسية واقتصادية اجتماعية وثقافية وفكرية متداخلة ومتشابكة.

ولا يسعنا إغفال أنّ في بلدنا مشكلة طائفية تنتج جرائم كارثية. ولكن الجريمة لا تعالج بأي شكل من أشكال الإقصاء الفكري أو المادي للمجموعات التي ينتمي إليها "الشرير" في السردية التاريخية، بل بمنع أسباب إنتاجها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً تاريخياً إلخ...
صدّر النظام السوري نفسه على أنّه النظام "العلماني" الذي يحتضن مجتمعاً "فسيفسائياً" بإسكات أدوات التعبير دون الدينية، وكأن إمكانية تعايش طوائف كثيرة ضمن مظلة دولاتية ومجتمعية واحدة يقترب من مستوى الإعجاز العلمي المسجّل باسم هذه السلطة، غير أنّ ما كان النظام يحجبه تماماً ويقمع القائلين به حتى في مقاربات منطقية هو أننا مجتمع متعدد الانتماءات والاتجاهات والمصالح، ولم يتم احتواء هذه الاتجاهات يوماً تحت مظلة دولة المواطنة -التي قد تكون الحل الأسلم للحالة السورية- بل بنفس الطريقة التي تعامل بها النظام على مدار عقود مع كل ما يتعارض مع سردية نظام الحزب الواحد القائد الصمد.

وقد استعان بنفس منطق خطاب النظام السوري من نصبوا أنفسهم أو نصبتهم المنابر الإعلامية قادة للثورة السورية فراحوا يزعقون ويصرخون ويشتمون النظام السوري باعتباره نظام أقلية علوية -نصيرية كافرة في تشدق البعض- تقمع "الاكثرية"، أي أهل السنة، في رد على سردية النظام حول الطائفية. بالنسبة للثوار ومثقفيهم وداعميهم المجتمع السوري متعدد الطوائف ولكن أكثريته هم من السنة. يكفي أن تجري انتفاضة الأكثرية للإطاحة بحكم الأقلية فكانت النتيجة الإطاحة بالمجتمع السوري وبقاء النظام.

بلى، النظام السوري نظام أوليغارشي لكن الأقلية الحاكمة هي أقلية سياسية تحتكر السلطة والدولة والسياسة والاقتصاد والثروة والثقافة والإعلام والمجتمع بأسره. هذا الاحتكار هو الذي يخلق مفهوماً وحشياً للسياسة يقوم على الاستئثار بكل شيء وليس على التنافس الشرعي والمشروع بتعددية المصالح المتبادلة.

وهذا الاحتكار نفسه هو الذي يشحن المجتمع بكل ما هو عنفي فيصبح الخوف من الآخر والتربص به وتحيّن الفرص لإلغائه هو أساس العلاقات وأولوية المهام، لذلك حين تخفّ قبضة السلطة الاستبدادية أو تنهار ينطلق العنف الوحشي الكامن والمختبئ ليدمر الجميع. لذلك يصح القول إنّ انهيار النظام السوري الذي رفض كل الحلول السياسية لو تم وفق سيناريو شبيه بالسيناريو الليبي في الأعوام الأولى من الأزمة كان سيجلب عواقب وخيمة على المجتمع الذي يعيش مع "الآخر" وفق متخيّل خاص بكل فئة وكان على الأرجح سيخلق حالة تشبه لبنان 1976 أو أيَّ حرب أهلية أخرى بمعناها الكلاسيكي، تلك هي طبيعة المجتمعات التي تحكمها أنظمة استبدادية. ظاهرة الشبيحة نشأت في هذا السياق، وانطلاق حراك سرعان ما تشوّه وعانى ما عاناه من قصور وحمل خصائص وسمات الظروف التي نشأ فيها في السياق ذاته فعجز أن يتحوّل لثورة تكون توحيدية وجامعة وحيوية في نفس السياق أيضاً وظاهرة بروز وانتشار عصابات القتل والإجرام والتشبيح داخل صفوف "الثورة" في هذا السياق أيضاً.

فالمشكلة الطائفية والحروب الطائفية هي نتائج لأسباب أخرى تخفيها مصالح المستفيدين من سفك الدماء. والمشكلة الطائفية ليست أكثر خطراً من مشكلة الفقر والجهل والمرض -الذي يفتك بأكثر مما تفتك به الحروب- وضعف التنمية والتخلف الزراعي والصناعي والعلمي والتكنولوجي وسوء توزيع الثروة إلخ... إنّ المشكلة تكمن في الشكل المشوّه لظهور الدولة الوطنية العربية الحديثة. وهو شكل استبدادي "من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر"، حسب شعارات الخمسينات والستينات.

عسى أن يتعلّم السوريون، هكذا السوريون بدون طوائف، ويطلقون ثورتهم الحيوية الإنسانية لتطيح بالثورة الحالية -التي أخذت شكل ثورة مضادة- والنظام. تطيحهما معاً استناداً إلى قواها الذاتية الصرفة وليس باتكاء على مساعدة "الآخر"، إن كان "الآخر" دولاً وأنظمة لا يختلف جوهرها عن طبيعة النظام السوري، أم كان "الآخر" هو الله.

مصطفى سعد

ليفانت - مصطفى سعد

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!