الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
مِنْ بلاد العجائب
عبير نصر

بالتأكيد مَن بقي في الداخلِ السوريّ ما زال يدفعُ فاتورةَ الحرب حتّى اللحظة، فثلثا السوريين اليوم غير آمنين غذائياً، وسط معطياتٍ مرعبةٍ من التجاوزاتِ اللاإنسانية والانتهاكاتِ الجائرة، وضمن واقعٍ مأساويّ يتابعُ السوريُّ فيه وبحيادٍ تامّ هذا الجنون الذي جعل من سوريا مسرحَ الأحداث العجائبيّة المثيرةِ للدهشة بحقّ. 


وأبطاله دولُ العالم قاطبة، ولكلّ دولةٍ الحقّ في إسدالِ الستار متى تشاء، والأمثلة كثيرة على ثلّة التناقضات المُريبة التي يشهدها البلدُ المنكوب، فمثلاً وبينما تدينُ الحكومةُ السورية الاتفاقَ المُوقّع بين قوات سوريا الديمقراطية وشركة نفط أمريكية لاستثمار النفط السوري، معلّلةً ذلك باعتباره سرقةً متكاملة الأركان، واستمراراً للنهجِ العدائيّ الأمريكيّ تجاه البلاد، يبدو هذا الكلام مضحكاً بعد تصريحِ نائب وزير الخارجية الروسيّ، خلال المناقشات المكرّسة للعلاقاتِ الروسيةِ الأمريكيةِ التي نظّمها مجلسُ العلاقات الخارجية بنيويورك، حيث أكد أنّ البلدين يخوضان حواراً معمقاً عبر القنوات العسكرية، وأنّ آليةً لمنع الصدامات العرضية في سوريا تعمل، مشدّداً على اهتمامِ بلاده بتحسينِ الاتفاق الثنائي مع الولايات المتحدة الخاصّ بمنعِ وقوعِ أنشطةٍ عسكريةٍ خطيرة، بالاعتمادِ على التجربةِ السورية. 


ورغم الغزل الصريح بين حلفاء وأعداء سوريا، ما زالتِ العقوباتُ الأميركية تتصاعدُ ضمن قانون قيصر، حيث شملتْ مؤخراً نجلَ الرئيس السوري، كما ضمّتْ رجلَ الأعمال السوري (وسيم القطان)، إضافة إلى الفرقةِ الأولى من الجيش السوري، أيضاً اللواء (زهير الأسد) ونجله، و(سمية صابر حمشو)، شقيقة رجل الأعمال السوري (محمد حمشو)، التي تحملُ جنسيةً قطرية إلى جانب جنسيتها السورية، كما استهدفتِ العقوباتُ الجديدة عدّةَ كياناتٍ تجارية مثل (قاسيون مول) و(مجمّع يلبغا)، وهذه العقوبات المشدّدة لن يدفع ثمنها فعلياً سوى المواطنُ المُنهك ولا أحد غيره، وما يزيدُ الطينَ بلّة أنّ دخولَ المساعدات الإنسانية سيقتصرُ على معبرِ باب الهوى، وسط أنباء متضاربةٍ عن إغلاقِ المعبر، إثر ظهور أول إصابةٍ بفيروس كورونا فيه، ما يُرجّح أن يُحرَم ما يناهز مليون ونصف المليون سوريّ من المساعداتِ الضرورية.


وتتابع سلسلةُ العجائب في سوريا، ففي الوقت الذي يؤكد فيه الرئيسان، الروسي والإيراني، على مواصلةِ بلديهما لدعم سورية في حربها على الإرهاب، مشدّدين في الوقت ذاته على أنّه لا بديل عن الحلّ السياسيّ للأزمة فيها، كشفتْ مصادرُ عسكرية من درعا عن رغبةِ الروس في الحدّ من النفوذ الإيراني في مناطق الجنوب السوري، وأنّ التواجدَ الإيراني في درعا وأريافها وريف محافظة القنيطرة بدأ بالتراجع، نتيجة ضغوطاتٍ مارستها الشرطةُ الروسية والقواتُ المحلية المؤيدة لها على الميليشيات المحسوبةِ على طهران والمدعومةِ منها، والتي بدأتْ تضعفُ فعلياً بعد خسارة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، كما كشفتْ عن وجودِ محادثاتٍ جديّة (إسرائيلية روسية أميركية) حول دور هذه المليشيات وكيفية إنهائها، ضمن سياسةٍ جديدة يسعى من خلالها الروس لتطبيقِ إستراتيجية (الهيمنة المرحلية) عن طريقِ السيطرة على معاقلِ النفوذِ الإيراني في ريف حلب الجنوبي، وإعادةِ الانتشار في محيطِ منطقة إدلب، وتابعتِ المصادرُ أنّ المحاولات الروسية قد تستغرق وقتاً طويلاً، لكنها ستؤدّي في النهاية إلى إنهاء الميليشيات المدعومة من طهران وهو ما يبدو واضحاً الآن. 


والعجائبُ لا تنتهي بالطبع، في بلدٍ يبدو ككرةٍ تتقاذفها الأرجلُ كيفما اتفق، ففي خرقٍ سافرٍ للقوانين الدولية والاتفاقيات الثنائية، قلّصتْ تركيا من حصصِ مياه نهر الفرات المخصصة إلى سوريا، مما ينذرُ بتعطيش ملايين السوريين، لا سيما في ظلّ أشهرِ الصيف التي تمرُّ بها البلاد حالياً، كما عمدتْ تركيا إلى خفضِ كمية المياه المفترض أن تمرَّ للأراضي السورية إلى الربع، ما أدى إلى توقّفِ عملِ مولّدات الطاقةِ التي تخدمُ حلب، والمقامة على ثلاثة سدود، وتنصّ الاتفاقية السورية التركية لعام 1987، على ضخ تركيا للمياه بمعدّلِ 500 متر مكعب في الثانية، إلا أنّ التقديرات الرسمية تؤكد أنّ تدفق المياه حالياً لا يتجاوز 200 متر مكعب في الثانية، ورغم هذا التطاول السافر على حياة السوريين، أكّد الرئيسُ التركي أنّ القوات التركية ستبقى في سوريا إلى أن يتمكن شعبها من العيش في (حرية وسلام)، وذلك في أوضح إشارة على عدمِ اعتزام أنقرة مغادرة الأراضي السورية. 


ورغم ضنكِ العيشِ الذي يعيشه سوريّو الداخل، فواجبٌ عليهم التصفيق والتطبيل لكلّ تظاهرةٍ أو استحقاقٍ أو فعاليةٍ تنظّمها الحكومةُ السورية، وهناك بعضُ المسرحياتِ المُضحكة التي شغلتِ العالم، ومرّت مرور الكرام في حياة السوريين المشغولين بلقمةِ العيش ولا شيء آخر، فعلى سبيل المثال وفيما يخصُّ الانتخابات البرلمانية التي أقيمتْ مؤخراً، قدّم مرشحون مستقلّون عن محافظة درعا، لائحةً اعترضوا فيها على نتائج الانتخابات بسبب مخالفات، قالوا إنّ بينها مشاركة (قتلى ومفقودين ومهجّرين) في التصويت، كما سجّل المعترضون الانتهاكات التي حصلتْ في التصويت جنوب البلاد، مؤكدين أنّ القائمين على الانتخابات من رؤساء اللجان الانتخابية والمندوبين على صناديق الاقتراع، قد تلقّوا رشاوى مالية مقابل تزويرِ النتائج، وأشارتِ الاعتراضاتُ إلى أنّ تدخلاً أمنياً حدثَ بشكلٍ غير مباشر أدّى إلى توجيهِ العملية الانتخابية، ووسط هذا الهرج والمرج قاطعتِ المعارضةُ الانتخابات، واعتبرتها واشنطن عمليةً مزورة، كما لم يتمكن السوريون المقيمون خارج البلاد، من المشاركةِ في الاقتراع، وكذلك المقيمون في مناطق ما تزال خارجَ سيطرةِ النظام السوريّ، وكالعادة فازَ حزبُ البعث وحلفاؤه بغالبيةِ مقاعد مجلس الشعب، وفازتْ أسماءٌ مفروضةٌ عليها عقوبات أوروبية، من بينها اسم مشبوه سرّبتْ تقاريرُ عن تورّطه في عملياتٍ تجاريةٍ لبيعِ النفط أثناء سيطرةِ تنظيم داعش على حقولٍ واسعةٍ شرقي سوريا.


نعم.. يحصل كل هذا في سوريا فقط، ولا شكّ أنّ جائحةَ كورونا فاقمتْ من عوز السوريين الذين يعيشون تحت خطّ الفقر، حيث تسببتِ الإجراءاتُ التي اتخذتها الحكومةُ السورية، للتصدّي للفيروس، في إفقارِ عشراتِ الآلاف من الأسرِ السورية، لتجعلهم بلا تغطيةٍ ماليةٍ وحكوميةٍ يواجهون بها مصيرهم المرعب، وكان لهذه الإجراءات الوقائية أشدّ التأثير في بلدٍ أنهكته الحربُ لعشرِ سنواتٍ متتالية، في ظلّ غيابِ المجتمع المدنيّ والمبادراتِ الأهلية، وعجزِ نظامِ التأمينات الاجتماعية عن حمايةِ أو ضمانِ أوضاعِ هذه الفئة المنهارة أساساً، فالشعبُ السوريّ في الداخل يعيشُ كارثةً اقتصاديةً تشابه أيام الحربِ العالمية الأولى (السفر برلك)، إذ سُحقت الطبقةُ الوسطى وتغوّلتْ سلطة حيتان المال والسياسة، حتى باتتْ سوريا أقرب إلى مسمّى البلاد الأليغاركية، وفيها تكونُ السلطةُ السياسيةُ محصورةً بيدِ فئةٍ صغيرةٍ من المجتمع، تتميزُ بالمالِ أو النسبِ أو السلطةِ العسكرية، بينما لا يمكن التعويلُ على مؤسساتِ الداخل، لأنّها هياكلُ وهمية كرتونية، مرتهنة لقرارات خارجية، غير قادرة على إدارةِ وتحمّل أعباء قريةٍ من ألف شخص، لا شكّ في كل هذا أبداً، لكنّ الحقيقةَ التي تؤرّق روحَ السوريين فعلياً، تلك العجائب التي تخرج بها جهات الصراع لتتاجر بمستقبلِ شعبٍ همّشت إرادته منذ البدايةِ، وذنبه الوحيد أنّه خُلقَ في بلادٍ غدتْ كعكةً برسم سكاكين الجميع، والغلبة فيها لمن يحتفظُ بلعاب الطمع لأطول فترةٍ ممكنة.


 




ليفانت – عبير نصر 








 




العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!