-
هل ألقى بوتين بثقله في إدلب من أجل "صفقة قرن" روسية يحلم بها؟
أثار دعم الكرملين الواسع لعمليات النظام السوري في إدلب وريف حلب تساؤلات عدة حول الأسباب التي تقف خلف هذا الموقف، رغم أنه يهدد بخسارة موسكو علاقاتها مع أنقرة، ويزيد حالة الإستياء العالمية من سياستها في سوريا. التساؤلات التي تتكرر تتعلق بتوقيت المعركة، والهدف الحقيقي منها، إذ لا يمكن أن يدخل بوتين مغامرة بنتائج خطيرة، إن لم يكن يأمل الحصول منها على "مكافأة كبرى". ولأنه صاحب مفاجآت غير متوقعة، وبالنظر إلى معطياتٍ ساهم شخصياً بتراكمها خلال الفترة الماضية، يتولد انطباع بأن بوتين يسعى لاختراق "تاريخي" في الشرق الأوسط، قد يكون على شكل مبادرة روسية لاستئناف مفاوضات التسوية بين دمشق وتل أبيب. صفقة قرن
ولأن انتهاء حكم نظام الأسد في سوريا قد يضيع على الكرملين فرصة تاريخية كهذه، يقدم بوتين له كل هذا الدعم العسكري والسياسي، ولا شك بأنه سيتمسك به أكثر وسيعمل على تعزيز موقفه، إن تمكن نتنياهو من حصد أصوات في الانتخابات تخوله تشكيل حكومة جديدة، يواصل معها مسيرة تطبيعه مع الدول العربية. صفقة قرن
فوز نتنياهو في الانتخابات ، مسألة سيأخذها الكرملين بالحسبان، وسيحاول لا شك جني ثمارها، لاسيما بعد كرم لامحدود من بوتين في تقديم "هدايا سورية" لنتنياهو، لا تقتصر على ضمان أمن "إسرائيل" من جهة حدودها مع سوريا، بل وشملت "هدايا من دمشق" بينها دبابة وبقايا جثمان وألبسة ضابط من جيش الاحتلال، وحتى ساعة الجاسوس كوهين. وكلها "هدايا" لم يحلم أحد قبل نتنياهو بالحصول عليها. لكن بوتين فعلها. ولا شك بأنها تحمل في طياتها رسائل من "قصر المهاجرين" لمكتب "رئيس وزراء العدو". ذلك أن التصرف بالدبابة والعثور على جثمان قتلى إسرائيليين في مقبرة في دمشق، مسائل "سيادية"، أكيد تم التعامل معها بموافقة وعلم رأس النظام، ولذلك هي ليست هدايا طبيعية، بل "رسائل سلام" حملها بوتين من دمشق إلى تل أبيب، وربما تكون بدفعٍ منه، حين لمس أن فرصة تاريخية برزت أمامه، لتحقيق حلم سوفياتي وروسي قديم، بلعب دور رئيسي في تسوية النزاع العربي-الإسرائيلي، يكون ضمن الظرف الراهن من خلال إطلاق مفاوضات سلام بين نتنياهو والأسد، برعاية روسية.
هذه الفرصة لم تأت من تلقاء ذاتها، إذ تمكن بوتين من استثمار التدخل العسكري في سوريا لتوفير شروط مناسبة لظهورها، وستكون، إن أصابت التوقعات بشأنها، بمثابة "صفقة قرن تاريخية روسية"، و"مكافأة تاريخية" يجنيها بوتين مستغلاً دوره في سوريا، تفتح أمامه جميع ملفات الشرق الأوسط ليتحكم بها، برضى ورغبة من قادة المنطقة.
الأسد الذي منح الروس والإيرانيين امتيازات تتخطى "السيادة السورية" ثمنا لبقائه في السلطة، مستعد لا شك لخطوة كهذه، طالما أنها تصب في خدمة مصلحته السلطوية. وفضلا عن ذلك ربما يشكل انخراطه في مفاوضات سلام بقيادة روسية فرصة لإعادة تأهيله عربياً، لاسيما بعد التحول الخطير في سياسات "القصور" العربية نحو تل أبيب، واستعدادها للتطبيع مع الكيان الصهيوني. رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان، عبر بوضوح عن قراءة القوى العربية الحاكمة لطبيعة العلاقة مع إسرائيل، حين قال أن لقاءه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا أتى "في إطار بحث السودان عن مصالحه الوطنية والأمنية"، مؤكداً وجود دور إسرائيلي في قضية رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب. ما الذي يمنع الأسد إذاً عن التعويل على هذا "الدور الإسرائيلي" في إعادة تأهيل نظام حكمه، والأهم من سيمنعه من توقيع اتفاقية سلام مع نتنياهو، في "دولة" يختفي فيها المواطن حتى لو تنفس على عكس ما تريده "القيادة الحكيمة". صفقة قرن
أما نتنياهو، الذي أعلن فور فوزه في الانتخابات أن "هذا النصر فاق كل التوقعات "، وأكد "نحن حوًّلنا إسرائيل إلى دولة عظيمة، قمنا بتنمية علاقات دولية لم تكن موجودة مع دول عربية وإسلامية، ومع زعماء دوليين بينهم من دول عربية هم أكثر مما تتخيلون"، وأضاف بيقين "عندما أقول أننا سنعقد معاهدات سلام مع دول عربية فأنا لا أتحدث لغواً، فوراء الأكمة ما وراءها. نحن فقط القادرون وليس سوانا"، فإن كلامه واضح، ومع أنه شمل الدول العربية في حديثه عن "اتفاقيات سلام"، فإن توصله لاتفاق سلام مع دمشق، يبدو ملحا وأكثر أهمية من أي اتفاقيات مع دول عربية أخرى، لأنه يتوافق تماما مع طموحه بلقب "الزعيم الذي وفر السلام لإسرائيل". ذلك أن تسوية النزاع مع سوريا، ستجعله يعلن أنه صاحب الفضل في إنهاء مصادر تهديد "الكيان" عبر الحدود الشمالية، بعد أن ضمنت معاهدات السلام السابقة مع مصر والأردن أمنه عبر الحدود الشرقية والجنوبية الشرقية. صفقة قرن
وهنا لا بد من العودة مجددا لرد الفعل العربي على هذه "الصفقة التاريخية" التي يُعتقد، وفق ما تشير المعطيات، أن موسكو ربما تسعى لإنجازها. لا شك بأن الدول العربية الرئيسية سترحب بالسلام بين تل أبيب ودمشق، لأنه يشكل المسافة الأقصر في تحقيق هدف الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة. إذ من الطبيعي أن تنتهي الحاجة بالوجود الإيراني في سوريا، وتتراجع بشكل كبير في لبنان، بعد السلام مع سوريا. قد يسأل البعض، وهل سيوافق الأسد على تخريب العلاقة مع طهران من أجل السلام؟. تجربة السنوات الماضية تؤكد أنه مستعد لأي شيء من أجل بقاء نظام حكمه، وسيكون أكثر سخاء حين يدور الحديث عن اتفاق يستعيد له مقعده إلى جانب نظرائه "الزعماء" العرب، وسيزيد الأمر عن ذلك بأن يحصل منهم على تمويل لإعادة تأهيل اقتصاد نظام حكمه وإعادة بناء المدن التي دمرتها قواته في معركته ضد المعارضة. وهذه مسألة بالمناسبة، لا شك أن الروس، إن صحت التوقعات بعزمهم إطلاق مفاوضات بين دمشق وتل ابيب، يأخذونها بالحسبان، ويدركون أنهم بهذا الشكل سيحصلون على الحصة الأكبر من مشروعات إعادة الإعمار، نظرا لطبيعة علاقتهم مع النظام السوري من جانب ومع دول عربية من جانب آخر.
إلى جانب ما سبق سيكون للاتفاق الإسرائيلي مع الأسد تأثيره لا شك على الوضع في لبنان، لأنه سيسحب من يد حزب الله وغيره من قوى إيرانية هناك ذريعة "المقاومة"، التي يستغلونها في الحفاظ على كيان بمثابة "دولة في دولة"، وسيدفع الرأي العام اللبناني لموقف أكثر تشددا تجاه "سلاح حزب الله"، بعد أن تزول مبررات الاحتفاظ به، وهذا يتوافق أيضاً مع رغبات عدد كبير من العواصم العربية "المؤثرة".
بوتين يمتلك إذاً جميع الأوراق التي تشجعه للمضي نحو تحصيل "صفقة قرن" روسية. إذ لا يتوقع أن يعارض النظام السوري أي خطوات يتبناها الروس. والعواصم العربية سترحب بالفكرة هذه المرة. وعلاقته مع تل ابيب الآن، ليست كما كانت في 2005، حين رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي، أرئييل شارون، دعوة بوتين لعقد مؤتمر دولي في موسكو، حول التسوية في الشرق الأوسط. وأغلب الظن، سيسارع نتنياهو للترحيب بالفكرة، وليس من باب "رد الجميل" لبوتين، الذي كان حريصا على دعمه عبر "الهدايا السورية"، بل ولأن اتفاقية كهذه ستمنحه الكثير، بما في ذلك ستساعده للتعويض عن فشله في تحقيق تقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين. والأهم أن الفشل الأميركي الذريع في تسويق جميع خطط التسوية التي طرحها قادة البيت الأبيض، وآخرهم دونالد ترمب، الذي نسف عملياً الدور الأميركي في التسوية - هذا ما يبدو عليه الأمر على الأقل- حين طرح "صفقة القرن"، تشكل تربة خصبة تحفز الكرملين على المضي في محاولة جديدة للعب دور القوة الرئيسية في التسوية، والبداية تكون عبر "المسار السوري".
لكن يبدو أن بقاء مناطق واسعة في سوريا تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية، تشكل العقبة الأخيرة التي تفصل بوتين عن "المكافأة السورية الكبرى". جلوس رأس النظام على طاولة مفاوضات لتوقيع معاهدة دولية، كما ستبدو عليه اتفاقية السلام مع الإسرائيليين، يتطلب على أقل تقدير، أن يكون الوحيد صاحب القرار في البلاد ومسيطر على معظم أراضيها، باستثناء المناطق التي تسيطر عليها قوات أجنبية، قد يصنفها النظام أنها "أراضي خاضعة لاحتلال أجنبي"، لن تؤثر على "آهليته" لتوقيع معاهدة سلام. أي أن المطلوب استئصال آخر بؤر كبرى للمعارضة، في مدن وأرياف منطقة إدلب لخفض التصعيد. إذ لا يوجد حتى الآن أي تفسير منطقي للأسباب التي دفعت روسيا للانخراط في هذه المعركة التي تختلف عن سابقاتها، وعلى الرغم من أنها تهدد العلاقات مع أنقرة، بعد جهود روسية كبيرة خلال العامين الماضيين لتعزيزها في شتى المجالات. ولا يمكن أن يضحي بوتين بهذه العلاقة فقط من أجل "بقاء الأسد"، واضح أنه انخرط في معركة إدلب، لأنه يريد "تمديد صلاحيته"، أي "صلاحية" الأسد، لـ "غاية في قلب يعقوب".
وكان بوتين على وشك إزالة "العقبة" التي قد تعرقل مبادرة تسوية يطلقها ويقودها بين نظام الأسد وحكومة نتنياهو، حين ألقى بكامل ثقل قواته العسكرية في سوريا لاستعادة محافظة إدلب وريف حلب للنظام السوري. لكن رد الفعل التركي الذي يبدو أنه لم يكن متوقعا بالنسبة للروس، حال دون استكمال الخطوة التي ترمي إلى تعزيز موقف الأسد ميدانيا، بغية تحسين موقفه في المفاوضات السياسية لتسوية الأزمة السورية، على أمل إحداث تغيير سريع في المشهد السياسي السوري، حتى يتمكن الأسد من الانخراط في مفاوضاتٍ برعاية الوسيط الروسي مع الإسرائيليين، حيث لن يكون مكان هناك لدور أميركي فعال، طالما تمسك موسكو جميع الأوراق، وتبدو جميع الأطراف المعنية ميالة للموافقة على اقتراح كهذا.
ليفانت - طه عبدالواحد
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!