-
هل وصلنا إلى حافة الجنون؟
يبدو المغني المحاط بالمعجبين والمعجبات ثورياً، حانقاً، وقادراً فعلاً على قيادة تلك الحشود في طريق التحرر من سطوة رأس المال، إلا أنه وبعد انتهاء الحفل، سوف يركب سيارته الحديثة، ويتوجه إلى مطعم ما ربما ليحتفل بنجاحه مع حبيبيته التي ترتدي فستاناً أنيقاً جداً، فيما الجمهور سيبدو وقد ارتفع لديه الأدرينالين بفعل الموسيقا الصاخبة، والأضواء المتوهجة، مستعداً للانقضاض على المسرح وتدميره.
سابين الفتاة ابنة الثالثة والعشرين أنهت قبل قليل عملها في أحد المطاعم، وهي تعمل لتكمل دراستها في الفنون الجميلة، كانت منذ يومين في جولة تأملية عميقة في متحف رودان في المنطقة الباريسية السابعة، شعرت بعدها بالامتلاء أمام الكم الهائل من الجمال الذي صنعته يدا رودان. الساعة تقترب من منتصف الليل، تترجل سابين من عربة المترو، فيما سوف يظهر شابان، كانا قبل قليل يحضران حفل مغني الراب، تسير سابين وحيدة، يتبعانها وما أن تنعطف في شارع فرعي، حتى ينقضّا عليها، يضربانها بقوة، يغتصبانها، ثم يسرقان حقيبتها الرخيصة التي اشترتها من محل يبيع الأشياء المستعملة، تسقط سابين على الأرض شبه عارية وقد تورم وجهها تماماً.
في ثلاثة من بين عشرة تفسيرات تكتب لما يحدث في سوريا، تميل تلك التفسيرات إلى اعتبار أن الثورة الشعبية كانت تسعى لنقل المجتمع السوري إلى مسيرة الحرية، وتخليصه من سلطة الاستبداد والديكتاتورية، فيما سوف تميل التفسيرات السبعة الأخرى إلى اعتبار أن ما حدث هو تخريب متعمد، ومؤامرة كونية، كانت تهدف إلى إلحاق “البلد المقاوم” بالمعسكر الإمبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، و يتبنّى هذا الطرح كتّاب وصحفيون ومثقفون، وسياسيون، واحد منهم على الأقل هو نائب برلماني منتخب، وآخر قد يكون مرشحاً رئاسياً في إحدى الدول الأوروبية.
كما أن حادثة الاعتداء على “سابين” قد يتم تسجيلها ضد مجهول، أو ربما في أحسن الأحوال قد يتم إلصاقها بإرهابيين متطرفين، خاصة إن تبين، خلال التحقيقات، أن أحدهما تلفظ بكلمة من تلك الكلمات التي صارت تستخدم كمفاتيح للاستدلال على تهمة الإرهاب، حتى أن وسائل التواصل الاجتماعي زودت أنظمة الرقابة لديها بحمل لا بأس به من المفردات، ويتم معاقبة مستخدميها بأساليب مختلفة، منها المنع من النشر، أو تعطيل الحساب.. فإن حادثة قتل مئات آلاف السوريين بدأت فعلاً بعض وسائل الإعلام العالمية التمهيد لاعتبارها نتيجة لأفعال منظمات إرهابية وحشية، هكذا حرفياً، ويتم شيئاً فشيئاً طوي صفحة النظام، والتمهيد لإعادة تأهيله ليعود إلى المجتمع الدولي، بعد أن انتصر على قوى الإرهاب.
خضت نقاشاً عقيماً مع حقوقي فرنسي يعمل رئيساً شرفياً لمنظمة تدعو إلى السلام العالمي، المحامي “الأرستقراطي” دافع دفاعاً شرساً عن النظام السوري، ولو أن مركزاً بحثياً مختصّاً أجرى استطلاع رأي موثوقاً في العديد من البلدان، لخرج بنتيجة صادمة، الناس تقريباً، نسيت أو تناست ما حدث في سوريا، وما يلمع في عيونها فقط هو ظهور تنظيم داعش وما ارتكبه من فظائع، وهذا يمكن لمسه حتى بين بعض السوريين الذين يعتقدون أن الثورة خذلتهم، فهم، ويمكن قراءة ذلك في تعليقاتهم على بعض وسائل التواصل الاجتماعي، صاروا يسمون الثورة ثورة العمشات مثلاً، نسبة إلى أحد المرتزقة الذي ظهر منذ أربع سنوات مثلاً، و يتناسون عن عمد أنها ثورة حلمت بالحرية.
يقول شاب فرنسي من أصول جزائرية: "أشعر بأني متهم، ويجب أن أدافع عن نفسي، مع أن الجميع يعلم أنني شخص صالح". وما أشبه حالته بحالتنا ونحن نحاول أن ندافع عن الثورة، حتى أمام أولئك الذين كانوا حتى وقت قريب يدّعون أنهم جزء من الثورة.
هل كان مغني الراب يريد حقاً أن يحمل مسدساً كاتماً للصوت ويطلق النار على الناس؟ وهل يمكن أن يتحمل مسؤولية تلك الجريمة التي تعرضت لها “سابين”؟ لا، هو كان يغني.
هل كان السوريون يريدون أن يموت أبناؤهم وأحبتهم وأن يهجّروا ويعيشوا في مخيمات؟ لا، هم كانوا يحلمون بالحرية، والتخلص من قبضة السفاح.
في هذه الأثناء يستقلّ السفاح سيارته المرسيدس الفارهة برفقة زوجته الأنيقة، وأولاده الذين ينعمون بصحة جيدة، ويتجوّل في شوارع دمشق، وقد تلوثت يداه بدماء مئات الآلاف، وما زال قادراً على الضحك.
أخيراً، هل ستعود “سابين” لزيارة متحف رودان؟
ليفانت - ثائر الزعزوع
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!