الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
هيروشيما سوريا
عبير نصر

حين وضع عالمُ النفس الشهير، أبراهام ماسلو، هرمَ الاحتياجات الأساسية للإنسان، خلال ورقته البحثية التي قدمها عام 1943، وضع في قاعدة الهرم الحاجات الفزيولوجية، كالطعام والشراب والمسكن، وجعلها سبّاقة على غيرها من الاحتياجات الأخرى، كالأمن والمكانة الاجتماعية. باعتبارها جدار الإنسان الحامي من الموت، والقاعدة الأولى التي بُنيت عليها كلّ العلوم الإنسانية، التي وضعت الجوع وتهديد الأمن الغذائي على قائمة المخاطر التي يجب التصدّي لها.

حقيقةٌ أدركتها الأنظمة الاستبدادية مبكراً، وكلّ ما لم تستطع أن تحققه بسلاحها وعتادها وجبروتها حققته بـ"كسرة خبز". وعليه كان إغراق الدول المستهدفة في دوامة الديون والحروب الأهلية والمجاعات الاستراتيجية الأبرز حضوراً على قائمة الخطط الاستعمارية الجديدة، وهو ما يمكن قراءته في سياسة الحصار التي تتبعها القوى الكبرى ضدّ بعض الدول بهدف التركيع، وبالطبع الأنظمة المستبِدّة ضدّ شعوبها، العربية منها خاصة. فما حدث في الجمعية العامة عام 2017 أدلّ مثال على ذلك، حين هددت أمريكا و"إسرائيل" بقطع المساعدات عن الدول التي ستصوت ضد قرار اعتبار القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، ليتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ المنح والمساعدات التي تقدمها تلك الدول لغيرها ليست إلا رشوة سياسية ذات مقابل، وليست من قبيل إنساني كما يعزف إعلام وساسة تلك الدول.

ولعلّ في المشهد السوري الدليل الأبرز على هذه الحالة الفجّة. فمعروف للجميع أنّ بنية النظام السوري في أصلها وجوهرها بنية طائفية مصلحية قائمة على الوثنية العقائدية والسياسية، متمركزة حول عبادة القائد والتماهي فيه، والقمع الوحشي لكلّ من يخالفه، تغطيها طبقة مكياج رقيقة من العلمانية المصطنعة من ماركة حزب البعث السوري .لذا لم يكن من المستبعد أن يختار "رأس الهرم" أكثر السبل توحشاً وتطرفاً للحفاظ على كرسيه، ما يُعرف بطبيعة الحال بـسياسة "الأرض المحروقة"، ليس بداية بـ"سلاح التجويع حتى التركيع"، مروراً بانعدام الكهرباء والغاز والوقود، وليس نهاية، بالطبع، بالحرائق التي أتت على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية.

البداية كانت منتصف مارس/ آذار عام 2011 حين حاصرت قوات الأسد مدينة درعا، وقطعت عنها إمدادات الغذاء والمياه، ولعلّ "بيان الحليب" الذي أصدرته مجموعة من الفنانين، وطالب بإيصال المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء وحليب لأطفال درعا المحاصرة، أبرز الأدلة التي توثق همجية التلاعب بغذاء الإنسان للحصول على مكاسب سياسية. القطط والكلاب، أو الحشائش وأوراق الأشجار، أو الماء الدافئ مع الليمون والبهارات، أصبح كلّ ذلك طعام المجوَّعين في المناطق المحاصرة. كان الثمن فيها غالياً، بالتأكيد، بينما تخرج المستشارة الخاصة لـلأسد، لونا الشبل، لتصرّح بصفاقةٍ مستفزّة أنّ "الشعب السوري لن يموت لا جوعاً ولا برداً". سيدة الصمود والتصدي ذاتها التي افتتحت مطعماً روسياً في العاصمة السورية، تحت مسمّى "ناش كراي" Nashkray ويعني باللغة الروسية "بلدنا"، وذلك بكلفةٍ باهظة تقدر بملايين الدولارات الأمريكية، وتبلغ قيمة أرخص وجبة فيه مئة ألف ليرة سورية، ما يعادل نحو راتب كاملٍ للموظف الحكومي داخل مناطق سيطرة النظام السوري.

سلاح التجويع، لا شك، أثبت نجاعته بينما كان النظام السوري يحاول أن يرسم نهاية مرضية لأزمته، ويترك للزمن مهمّة طيّ الملفات المعلقة. واليوم، بدوره، لا يجد رئيس القطاع الغذائي في حكومة الأسد حرجاً وهو يصرّح بثقةٍ عجيبة، بينما سوريّو الداخل لا يجدون ما يسدّون به الرمق، أنّ سوريا باتت تصدّر الكثير من المنتجات الغذائية مثل الكونسروة بأنواعها وكافة الخضروات والحبوب والزيتون وزيت الزيتون والمخللات والبسكويت والبن، كذلك الأجبان والألبان..إلخ. مؤكداً "أنّ هناك أكثر من /100/ دولة تستورد المواد الغذائية من سوريا، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول أوروبا والوطن العربي". ولفت إلى أنّ "سوريا التي كانت تعتمد على الاستيراد استطاعت ورغم الحصار، تصنيع أغلبية هذه المواد من خلال إنشاء مئات المعامل، لتصبح المنتجات المحلية منافساً قوياً للصناعات الأوروبية والآسيوية".

لم يتوقف الأمر عند "التجويع المتعمد"، ففي الوقت الذي يعاني فيه السوريون من انقطاع التيار الكهربائي  لمدة تصل إلى أكثر من عشرين ساعة يومياً، كانت "حكومة الأسد" تزود لبنان بالكهرباء وتقبض مقابل ذلك بالدولار، إضافة إلى انقطاع الغاز والوقود. فعلياً لا توجد دراسات علمية دقيقة ومستقلة تماماً عما تملكه سوريا من موارد طاقة، خصوصاً أنّ نظام الأسد سبق أن أخفى أسماء العديد من آبار النفط خلال السنوات التي سبقت الثورة السورية، ليكتشف السوريون أنّ هناك آباراً مختلفة عن التي ذُكرت في الكتب المدرسية والإعلام الرسمي، عُرفت بعد أن سيطر عليها تنظيم داعش. في المقابل لدى النظام السوري حقول غاز في المنطقة الوسطى بحمص وحماة والبادية السورية، وجميعها تقع تحت سيطرته. وذكرت وكالة "سبوتنيك" الروسية عن وزارة النفط التابعة للنظام السوري عام 2017، أنّ سوريا تمتلك احتياطياً بحرياً من الغاز يُقدّر بـ 250 مليار متر مكعب.

زاد الطين بلّة الحرائق التي لم توفّر مناطق النفوذ الثلاث (المعارضة والنظام والإدارة الذاتية)، بينما حرق الأراضي الزراعية أثناء النزاعات محظور بموجب المادة 54 من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977. وبحسب مصادر محلية مطلعة قالت إنّ قوات النظام وحلفاءها تحرق الأراضي التي تتمركز قربها، وتقصفها بالقذائف الحارقة والقنابل المضيئة في معظم مناطق ريف حماة الشمالي والغربي وريف إدلب الشرقي والجنوبي، كذلك الأراضي في الجزيرة السورية بين الرقة والقامشلي. وأما عن بعض المناطق في شمال غرب سوريا رأى مراقبون أنّ روسيا دفعت الفيلق الخامس لتمرير هذا الفعل في مناطق تقع بالقرب من الخط الدولي، في محاولة لإجبار الأهالي على بيع تلك الأراضي، بهدف إقامة الطرق والبنية التحتية هناك، ما قد يدفع بعجلة الحل السياسي وفق رؤية ثلاثي أستانا. وحقيقة لم يوفّر النظام السوري حتى مناطق سيطرته، حيث اندلعت حرائق ضخمة في محافظات اللاذقية وطرطوس في الغرب وحمص في الوسط. ولم تصدر السلطات حصيلةً رسمية لحجم الخسائر، إلا أنّ تقديرات أوردها مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا)، أفادت عن تدمير أكثر من تسعة آلاف هكتار من الأراضي الزراعية والغابات والبساتين وأشجار الزيتون .

لا شكّ أن النظام السوري أثبت، وبجدارةٍ مستحقة، أنه طالبٌ نجيب عند حليفه الأبرز. فروسيا من بين الدول التي انتهجت سياسة "الأرض المحروقة" ونجحت فيها مرتين. أول مرة عندما غزاها نابليون بونابرت فقامت بحرق كلّ شيء تقريباً، كذلك سمّموا المياه، لينهار الجيش الفرنسي ويموت منه الكثير. المرة الثانية عندما هجم الألمان على روسيا إبان الحرب العالمية الثانية، فأمر ستالين الفلاحين بالنزوح وحرق كلّ شيء خلفهم، فوجد جيش هتلر نفسه في الجليد بدون حتى أخشاب ليشعل بها النيران للتدفئة. نعم لم يمتلك النظام السوري بوصلة أخلاقية يوماً، التي طالما تشدّق بها خاصة في المحافل الدولية، لتسقط الأقنعة المزيفة عن حكومته التي لم تتورع عن التلاعب بحياة شعبها لأجل أهداف ومكاسب سياسية زائلة. والنتيجة أنّ مدناً بأكملها كانت تصافح الشمسَ باسمة كلَّ مطلعِ يومٍ مفعمٍ بالحياة والأمل، تحولت إلى "هيروشيما" سوريّة، ليسيرَ العدمُ بين ربوعها، مختالاً، كأن لم تَغْنَ بالأمس، كأنها لم تكنْ.

ليفانت - عبير نصر

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!