الوضع المظلم
الخميس ٢٨ / مارس / ٢٠٢٤
Logo
  • واضح كالماء وسريع كالطلقة.. وعل في الغابة رياض الصالح الحسين

واضح كالماء وسريع كالطلقة.. وعل في الغابة رياض الصالح الحسين
صورة تعبيرية. أرشيف

العدالة هي أن أركض مع حبيبتي
في أزقة العالم
دون يسألني الحراس عن رقم هاتفي
أو هويتي الضائعة
العدالة هي أن آكل رغيفي بهدوء
أن أذهب إلى السينما بهدوء
أن أغني بهدوء   
أن أقبّل حبيبتي بهدوء وأموت بلا ضجة
ديوان "خراب الدورة الدموية"

ختم رياض الصالح الحسين ديوانه الرابع والأخير (وعل في الغابة) الذي صدر بعد مماته في 20/10/1982 بعبارة، (لقد اعتدت أن انتظرك أيتها الثورة). لقد علّق مقدم المجموعة الكاملة بطبعتها الأولى عام 2016 الشاعر منذر مصري في نهاية التقديم، ويالها من مصادفة، أن تكون آخر كلمة كتبها رياض: الثورة. لقد برز موضوع الحب والتمرد كمثنوية أساسية في شعر رياض، فالمعاناة من صعوبة العيش يرافقها معاناة في الحب.

نشر رياض ثلاث مجموعات شعرية في حياته ونُشر له مجموعة بعد وفاته. قصة حياة قصيرة بمحطات قليلة لشاعر ثوري مات شابا وشبه وحيد في المستفى عن عمر ناهز 28 ربيعا. عاد نجمه للسطوع بعد انطلاقة الانتفاضة السورية.

بضعة ساعات كانت كافية لقراءة إنتاج رياض الصالح الحسين. بيد إنها حتماً قراءة أولى، لكن كان لها بعد عاطفي وكذلك سيكون مع كل سوري مر على شعره بعد عام 2011. شاعر كتب للثورة في الحب والمجتمع والسياسة بطريقته متنقلا بين التفعيلة الخفيفة والنثر في تصاعد واضح لجودة شعره. عانى أثر الاعتقال والمرض وكافح ومات وحيدا في غرفته.

منذ 1976 كتب رياض الصالح الحسين في الشعر، والقصة القصيرة، والمقالة الصحفية، والنقد الأدبي في دوريات سورية. بعد خروجه من المعتقل بسبب مشاركته في إصدار "مجلة الكراس الأدبي" نشر أول مجموعة شعرية عام 1979 خراب الدورة الدمويّة عبر مطابع وزارة الثقافة. بدأ رحلته مع الشعر فنشر قصائده الأولى في مجلة «جيل الثورة» مقابل عائد مادي متواضع لينتقل بعدها إلى دمشق.

كالعادة، في أثناء التحضير لهذه المادة سأبحث في محرك البحث غوغل عن اقتباسات منشورة عن شاعرنا اليوم سواء جاءت الكلمة "اقتباسات" قبل أو بعد اسمه ستكون النتيجة صور وقصاصات لتلك المقتطفات التي تنطوي على المزاج والمجاز الثوري والرافض والمناسبة لإسقاطها على زمن الانتفاضة السورية ضد سلطة الأسد ونظام البعث الحاكم.

عبارات وسطور وجدت مكاناً لها في مداولات الشباب السوري المعارض عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولاسيما بعد عام 2013 حيث بدأت أشعاره بالانتشار لتبلغ ذروتها في عام 2017 أي بعد مرور عام من نشر المجموعة الكاملة له وقبلها تذكير ابن أخته الممثل والناشط السياسي المعارض عماد نجار بشعره عبر صفحته.

وجد الناشطون السوريون عبر الفضاء الرقمي في بعض العبارات والقطع في شعر الحسين ما يعبر عن غضبهم وآمالهم، بعض من عرفوه أعادوا التذكير بتلك النتف. برزت حاجة السوريين للبحث عن العبارات والاقتباسات خلال معركتهم الإعلامية مع النظام الحاكم بعد انطلاقة الاحتجاجات الشعبية في آذار 2011، ويكفي في عصر السوشيال ميديا أن تستمر صفحة ما بنشر قصاصات محددة لفترة حتى تنتشر طالما أنها تحمل مضمونا جيدا. كان لعماد ابن أخته دور محوري في الإضاءة على سيرته وشعره مجددا بعد الانتفاضة السورية التي انتظرها رياض وكتب عن انتظاره لها وحضر موضوع الحرية والتمرد مرافقا الحب في مثنوية واضحة في إنتاجه عموما.

بيد إنه تمنى ثورة أن تأتي بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، ولاسيما في تلك المرحلة عملية تغيير كبرى جذرية للنظم الحاكمة والاجتماعية. هذا لم يحدث للأسف وتحول المشهد من حراك وانتفاضة إلى حرب ونزاع أهلي واختلطت الأوراق الداخلية والإقليمية والدولية على الأرض السورية، يعبر رياض عن شوقه وحلمه في رسم طقس انتظاره للتغيير الكبير في سياق نشاط يومي في مجاز يعني فيه أن الأمر ضرورة وحلم دائم وأمل واجب الحضور وحتمية كم الفصول وتساقط أوراق الشجر: 

كل يوم أفتح النافذة
فأرى الأوراق تتساقط
والمطر ينهمر
والطيور تئن
ولا أراك
..
لقد اعتدت
أن أعدّ القهوة كل صباح لإثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح و المطر و الشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة

عاش الحسين في زمن نظام الأسد الأب الذي أجبر رياض ورفاقه بعد اعتقال وتعذيب أن تتكبل عبارتهم بالحذر والتورية والمجاز الكثيف، إلا إنه سيصل إلى الجمهور في نهاية المطاف، لكن شعره ولاسيما في ديوانيه الأول والثاني يزخران بالتمرد في مثنوية الحب حيث ينغمس رياض في مواجهة المجهول المعروف الظلم والعالم المتوحش بنكهة رأسمالية متوحشة كما يراه، فيصرخ انه يريد أن يبني عائلة عشا صغيرا يريد غرفة بسيطة فقط وكافية في هذا العالم له ولحبيبته.

عمل الحسين في مكتب الدراسات الفلسطينية بعد وصوله إلى دمشق، ودخل الشاعر المتمرد الذي عاش 28 ربيعاً فقط، المعتقل وتعرض للتعذيب لمشاركته في إصدار مجلة "الكراس الأدبي" مع مجموعة من الكتاب آنذاك من أمثال وائل سواح، جميل حتمل وحسان عزت، فرج بيرقدار وبشير البكر، خالد درويش وموفق سليمان وفاديا لاذقاني. هذه الحادثة حددت موقفه لاحقا من النظام حتى وفاته وهذا ما يمكن استنطاقه من شعره في مجازاته ومقارباته، يقول الحسين:

يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سورية الجميلة التعيسة كعظمة بين أسنان كلب 
يا سورية القاسية كمشرط في يد جراح
نحن أبناؤك الطيبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك 
أبدأ سنقودك إلى الينابيع 
أبدا سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدا سنشق أمامك الدروب 
ولن نتركك تضيعين يا سوريا 
كأغنية في الصحراء
"بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدَّس"

آنذاك، لاقت مجموعة الخراب تأييداً ومعارضة في الأوساط الأدبية، في 1980 وأيضا عبر وزارة "الثقافة" نشر ديوان "أساطير يومية". قبل وفاته بأشهر أصدر ديوانه الذي لاقى انتشاراً واسعاً “، بسيط كالماء واضح كطلقة مسدَّس عن دار الجرمق - دمشق 1982. أما ديوان «وعل في الغابة» أنجزه قبل وفاته وصدر لاحقاً 1983 من منشورات وزارة الثقافة و الإرشاد القومي - دمشق.

انتقل لكتابة قصيدة النثر في عام 1977م، وفي عام 1978م انتقل من مدينة حلب إلى العاصمة دمشق. عمل فيها بمكتب الدراسات الفلسطينية، وقد استمر في عمله هذا حتى تاريخ وفاته.

لا أمارس دور الناقد فلست متخصصاً، لكن سيكون هناك ما يقال في تجربة الإعادة مع شعر رياض الثوري الحزين كاملا. لقد كونت صداقة معه كقارئ له من المستقبل، كقارئ يقرأ نثر شاعر حاول أن يخترق عالم قصيدة النثر وأضناه المرض ويشعر بدنو أجله، فيكتب في آنه بشغف كأنما يتخيل نفسه طاعنا في السن يسمع شعره يتردد إلى ألسن الشباب نحن اليوم، مغمسا كلماته بزيت الحب وخبز الحرية فكان تجريبيا في شعره وكان تقليديا وثوريا كذلك.

حياته

أمامي الكثير لأعطيه
وخلفي الكثير للمقابر
أمامي النهر و رائحة الصباح و الأغاني
البشر الرائعون و السفر و العدالة
وخلفي الكثير الكثير
من الكهنة و التماثيل و المذابح
"وعل في الغابة 1983"

وُلِدَ الحسين في مدينة درعا في 10/3/1954 لأب موظف من مدينة مارع شمال حلب. تنقل والده المساعد في الجيش مع عائلته بين المدن السورية لثلاثين عاماً وله زوجتين. ترك رياض المدرسة في الصفع السابع في قدسيا بعد ثلاثة أشهر من العام الدراسي بسبب مرضه بالتهاب المجاري البولية فثقف نفسه بنفسه. لاحقا، إثر عملية في الكليتين بسبب قصور كلوي عام 1967 أصيب بالصم والبكم بشكل شبه كامل.

انتقل إلى حلب عام 1975 بعد سنة من عملية جراحية ثانية في بلغارية، عمل في عدة أشغال وتعرف من خلال  الشاعر بشير البكر إلى وسط ثقافي ناشط آنذاك في حلب وتعرف إلى الروائي نبيل سلمان والشاعر حامد بدرخان والقاص نجم الدين السمان، ثم انتقل إلى دمشق وسكن في حي الديوانية في غرفة متواضعة.

في دمشق تعرف إلى محمد الماغوط وفرج بيرقدار نزيه أبو عفش وبندر عبد الحميد وجميل حتمل ووائل سواح وخليل صويلح. صدر عن منشورات المتوسط وبالتعاون مع مؤسسة نايانيل للثقافة ورابطة الكتاب السوريين، كتاب الأعمال الكاملة للشاعر السوري رياض الصالح الحسين في 312 صفحة من القطع الوسط. ضم مقدمة وسيرة قصيرة كتبها الشاعر السوري منذر مصري ثم قصائد مجموعاته الأربعة شهادات وقصائد بخط يد الشاعر، هذه إحداها في الحب.

تضمنت الشهادات ما كتبه الشاعر السوري فرج بيرقدار والشاعرين العراقيين هاشم شفيق وعبد الكريم كاصد. وهناك شهادة لابن أخت رياض الصالح الحسين، وهو الممثل والمخرج عماد نجار والذي أشرف على الكتاب وإصداره.

توفي سريعا كالطلقة في مستشفى المواساة بدمشق عصر يوم 21 تشرين الثاني 1982بعد معاناة مع مرض الفشل الكلوي بعد أن تفاقمت حالته بسبب اعتكافه في المنزل بعد صدمة عاطفية زادت في الأمر، فتفقده صديقيه الشاعرين العراقيين هاشم شفيق ومهدي محمد علي وأسعفاه إلى مشفى المواساة في دمشق ولازماه إلى ان فارق الحياة في 21 نوفمبر 1982م.

يكتب صديقه هاشم شفيق في مجلة الرومي يناير 2015 حول أيام الحسين الأخيرة ولاسيما في مستشفى المواساة، في تلك الأيام العصيبة من معاناة الشاعر المأسوية وهو يواجه مصيره الحزين، انفض الجميع عنه، وخصوصاً الصحاب، وهم كثر ممن كان يلتقيهم يومياً في مقهى»اللاتيرنا» و «الهافانا» و «الروضة» أو في حانة «الريّس» و»فريدي» أو في غرفة الشاعر بندر عبد الحميد.

يتايع شفيق: "لقد تهرّب الكل تقريباً لحظة سقوطه بمرض الفشل الكلوي، حتى أهله لم أرَ واحداً منهم، والأصدقاء الذين كتبوا عنه فيما بعد بحس الخبير والعارف بتفاصيل تلك الأيام واللحظات الأخيرة للشاعر، حتى المرأة التي كان يحبها لم تأت لرؤيته". بعد قطعها علاقها معه (هيفاء أحمد) بسبب مرافقته الفنانة التشكيلية هالة الفيصل إلى اللاذقية اعتكف في غرفته لينهار صحياً بسبب المشروب ويسعفه صديقيه لاحقا.

كان من الممكن أن أن يعالج الحسين في إحدة دول أوربا الشرقية أو الاتحاد السوفياتي، لكن اتحاد الكتاب العرب لم يف بوعوده المتكررة لرياض ومؤسسات أخرى وهو ما أكده شفيق صديقه وخله، لكن بعد موته حضر الجميع.

"أنا الرجل السيئ
كان عليّ أن أموت صغيرًا
قبل أن أعرف المناجم والدروب
المرأة التي تغسل يديها بالعطور
والملك الذي يزيّن رأسه بالجماجم"

كُتب الكثير عن رياض ولاسيما مع انطلاق الانتفاضة السورية فعاد بعض أصدقاءه بالتذكير به من طريق اقتباسات راجت على مواقع التواصل الاجتماعي ليعود كثير من الناس ويطلعوا على تراث هذا العابر المتمرد، وبالمثل كتب عنه كتاب وصحفيين ذكّروا به في تقارير مكتوبة أو مصورة.

نحن ورياض 

نبني كقراء علاقة بالكاتب من خلال حضور شخصه في شعره، سيرته، أشعاره وموقفه من العالم وقضايا الناس ومشاغله الفكرية والحياتية. لم يصعب على السوريين تلمس صرخاته للتغير والحرية منتظراً الثورة في كثير من قصائده بينما أقرأ في خراب الدورة الدموية:

أيتها البلاد المصفحة بالقمر والرغبة والأشجار
أما آن لك أن تجيئي؟!
أيتها البلاد المعبأة بالدمار والعملت الصعبة
الممتلئة بالجثث والشحاذين
آما آن لك أن ترحلي؟!

سيكون لك مع كل قصيدة أو مقطع وقفة من حاضرك الآن كسوري عاصر خراب البلاد، عاصر خراب الدورة الدموية، بسيط دائما. عندما يسكب الشاعر روحه في قصيدة ويستحضر خيوط الزمكان من حوله وينسج نصه ملء كينونته بخصوصيتها وتعالقها مع الوجود صديقي من ماضيه سلفا أنا القارئ له بالمستقبل. 

الكاتب في صنوف العلوم والأدب يكتب للمستقبل أيضا أليس كذلك؟ والشعر موزون أو نثري، كجنس أدبي والشاعر ككاتب يمشط غرّة الحب والامتنان مع قارئه في كل زمان ومكان. هناك لحظة تمر بها وأنت تقرأ بعض القصائد كأنما كتبت لليوم ربما نريد لي عنقها لتساير الإسقاط، لسوريا الممزقة وشعبها المشرد وسلطتها ومنظومة الحكم الخبيثة والغبية في آن. 

هل يكون الشاعر تنبؤياً أكثر بالمستقبل أكثر من أهل الاختصاص في السياسة والاقتصاد؟ مرجح جدا أن تسأل هذا السؤال وأن تقرأ بعض القصائد، لكن دعنا نتذكر الفترة التي كتب فيها رياض، ووسطه الاجتماعي، كان حافظ الأسد جديدًا في الحكم مع انقلابه وكان تحول إلى دكتاتور. كان مآل الأمور في تلك الفترة يتوضح لكثيرين؛ ستكون المعركة من أجل الحرية والكرامة والعدالة والحقوق أشد صعوبة من قبل؛ أي فترة الستينيات والخمسينيات، كانت نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات تضج بالحراك السياسي السري وتصل تأثيرته لرياض عن طريق أصدقاءه، وتبقى قضية الحرية صالحة لكل زمان ومكان.

الحياة حلوة
يقول العصفور
ويرتمي ميتا قرب حذاء الصياد

الحياة حلوة 
تقول الوردة
وترتمي ميتة في يد الولد الوسيم

الحياة حلوة 
يقول 
ويطلق على رأسه النار

الحياة قبيحة، كريهة،فاسدة،شريرة
يقول طاغية
ويقضم قطعة من البسكويت

من ذلك الجو حيث حضر مع أصدقاءه من خلفيات ماركسية أو اشتراكية تيار صلاح جديد او الحزب القومي السوري، وعمله في مركز الدراسات الفلسطينية سيلتقط النفس الثوري. وفي دولة البوليس سيخفي مجازاته، لكنه كان جريئاً أيضا في هذا الجانب، وفي الإعلان عن الحب وثورة العشق. مع أنه توفي عن 28 عاماً لكنه ترك بصمة في زمنه وعادت لتحضر بعد اندلاع الثورة السورية.

اقرأ المزيد: خالد تاجا.. فنان كافح لبناء دولة القانون في غابة الذئاب

يقول صديقه ورفيقه في آخر حياته الشاعر العراقي هاشم شفيق، أن رياض حين يكون في حالة تجل، يترنّم بأغنية وحيدة، لفريد الأطرش «يا ريتني طير لأطير حواليك»، لقد طارت قصائده ومقطوعات شعريه له في الحب والثورة والحرية بين السوريين بانتظار غد مشرق آخر وثورة أخرى.

 

ليفانت نيوز _ وائل سليمان

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!