-
الأنثى والجندر: التمايز والحقوق والتشويه
يقول المبدأ الكوني في الوجود: الأكثر تمايزاً أكثر عمقاً في التكامل. فكلما كان التمايز أقل كلما تراجع التكامل لدرجة التراتب وفقدان حيوية الحركة والإنتاج والازدهار. فيما تصبح الرابطة الحيوية قابلة على إكمال صير الحياة عند تحديد التمايزات والتعمق في فرد خاصياتها. فالماء سرّ الحياة، واكتماله من شدة تمايز الأوكسجين عن الهيدروجين وقدرة الرابطة على تحويلهما لمكون حياة؛ فيما كل منهما منفرداً له خاصية مختلفة، فالأول للتنفس كما لازدياد الحرائق، فيما الثاني للانفجار وللاندماج الطاقي النووي وغير هذا الكثير.
في موضوع الأنوثة وحقوق المرأة، وما يطلق عليه اليوم الجندر، بات من الضرورة الخروج من الاختلاط والتشويه إلى الكونية ومبدأ الوجود، وهذا ليس قول فلسفي بل شأن في الحياة والشأن العام. ففي المبدأ، الأنثى نصف المجتمع عددياً، لكنها الأكثر حضوراً في القيمة والوجود. الأنثى وحقوقها الإنسانية والسياسية ضرورة حياة، ومعيار عمار وحضارة حين تصبح الحقوق العامة متساوية الفرص أمام جميع المواطنين وهذه سياج الدولة في الاستقرار والازدهار. الأنثى وتمايزها عن الرجل قضية حياتية تقتضي تحديد التمايزات المولدة لأكثر درجات التكامل. فتحقيق الحب والمسؤولية الأسرية، إنتاج الأطفال، تربيتهم رعايتهم، يحدث من هذا التكامل، بل من التداخل البناء بين متمايزين ذوي خصوصيات مختلفة لتحقيق سر المجتمع في الاستمرار والديمومة، في النماء والتجديد. وحيث أنه يمكن أن المجادلة اليوم في حالات مثلي الجنس أو الجندر bigender أو عدميه non-binary، أو في إمكانية الإنجاب دون هذا التمايز والتكامل، كما يحدث في عمليات التلقيح خارج الرحم من نطفة ما، أو زراعة النطفة، لكن الجيل الناتج وخصائصه النفسية والسلوكية التالية، لم تحضَ بالدراسات النفسية والاجتماعية الكافية بعد، حين تصبح نتيجة تربية ورعاية مفردة الاتجاه وحسب، ما يخالف قانون الطبيعة والوجود والكون، لا بل ذو معان اقتصادية مادية محضة ودون مستوى الحياة الاجتماعية والنفسية والحياتية عامة.
أتيقن بالمبدأ أن الحديث في الجندر سيقيم عداوات جمة مع الكثير من الأصدقاء والجمعيات. إذ تبدو حساسية القول الإيجابي أو السلبي فيها، ليست محط تباين وتمايز في الرؤية والحوار، بل باتت ذات صلة وثيقة في الاستعداء والإنكار، وكأنه ذات التنافر القائم بين موجودات متماثلة الخصائص طبيعياً تزيد من أنتروبيا ودينامية قوانين التباعد. هذا في الطبيعة وجود عام غير بناء، لكنه في المجتمعات والعلاقات الإنسانية يسمى حدة الاستقطاب السياسي وحيد الاتجاه الذي يؤدي إلى التباين الحاد دون البحث عن أرضية مشتركة في بناء التوافقات العامة الحقوقية والمادية. التوافق والتعاقد رغم الاختلاف، أساس العقد الاجتماعي، القائم بين المختلفين في بناء الدولة الحديثة والحقوق المتساوية وتحقيق الحريات العامة والخاصة في دولة أساسها المواطنة. والمواطنة ليست ذكورة أو أنوثة بسبب حرف التاء المربوطة لغوياً، بل لأنها موضوع انتماء وفعل ترويض للسكن والألفة والتوطين. وغرابة المشهد أن المتشددين في الجندر في عوالم الشرق قلما يدركون ذلك الفارق بين فعل الوجود الطبيعي في تمايزه البناء، وبين إقامة التباينات السياسية الموجهة وتفتيت الحقوق وجعلها احتكارية لجهة خلاف غيرها، فيما المواطنة لم تلغِ التمايزات الطبيعية بل عمقت المشاركة في تحقيق الحقوق السياسية وهذا شأن عام تشاركي وتفاعلي.
الحقوق السياسية المتساوية في الرأي والعمل والقول لا تفترض التفريق بين ذكر وأنثى، ولا تشكل حالة استلابيه لإحداهما ضد الأخرى، ولا تعني أبداً سياسة الإنكار المتبادل بينهما، بقدر التعبير عنها بمفردة حق المواطنة Citizenship الكلمة التي تعني تماماً العلاقات المدنية، والتي هي جملة الحقوق والواجبات التي يمارسها الفرد تعبيراً عن فرديته الذاتية ضمن إطار الجماعة، وفي سياق إقامة العلاقات المتبادلة والمتساوية بغض النظر عن ذكر أو أنثى عندما تتحقق في حالة وضعية تسمى دولة حق وقانون. هذا التساوي تساوٍ قانوني في الحقوق والواجبات لا يلغي أبداً تلك الاختلافات الطبيعية المكونة لكليهما كحالات تفرد واختلاف هي أصل الوجود وشرط تكامله ونموه وتناميه.
بين الأنوثة والنسوية ترابط واختلاف، فحيث أن الأنوثة امتداد واسع، فرادة طبيعية، قدرة على الاحتواء والانفتاح، تحقيق الجمال وعضويته الإنسانية في تكامل وتناغم خلاق مع الوجه الآخر لها. تكون الحركة النسوية المبنية محددة الجهة والوجهة، تتجاوز الحدود الطبيعية المتشكلة بحكم الموروث والعلاقات الأهلية باتجاه الحقوق السياسية المدنية والعصرية، حين يصبح المجتمع أكثر تنوعاً وأشد تمايزاً في الاختصاص والعمل والشؤون العامة، ما يجعل تكامله الحقوقي عودة لقانون الكون في نموذج حياة عصرية. وهذا ليس تناقضاً، بل تطور واكتمال في لوحة الكون. فالأسرة التي يخرج فيها الرجل للزراعة فيما المرأة تعتني بالأطفال وشؤون المنزل، تغيرت معطياتها، وبات كليهما عامل تقني أو إداري أو قانوني، فيما الدولة بمؤسساتها التربوية ترعى الأطفال وتحميهم، وتبقى النزهة والرحلة وممارسة الهوايات والحياة خلاف هذا، منوط بالأسرة، منوط بتكامل الرجل والمرأة. فمن حيث المبدأ تبدو النسوية حالة امتداد للأنوثة ولكنها ليست نكران لها، حالة تفاعل في تحقيق الحقوق السياسية للفرد ذكراً أم أنثى، وليست حالة نزاع بينهما ذات اتجاه وحيد مستقطب، كضد، "أنتي"، ذكورية، أو أنوثة مشوهة كما هي الذكورة أو الفحولة المشوهة للعقد الاجتماعي من حيث الحقوق. والغرابة أن تصبح الذكورة، هي عدو الأنوثة في واقع ومجتمع يسحق كليهما معاً، ويشرد أهله قاطبة، وحين الحديث عن الحقوق السياسية تتصدر الجندر الموضوع ويتم التعمية عن الحقوق العامة السياسية التي يرزح الجميع تحتها، بحيث يختفي مفهوم العموم ويظهر مفهوم الخصوص بشكل متفوق على أي مفهوم. والسؤال الذي أكرره مراراً: لنفترض حصلت، وهي تحصل، المرأة على كامل حقوقها النسوية مجتمعياً، هل سنحصل على حقوقنا السياسية والمدنية في مجتمع يسوده الاستبداد وتغول القوة وهيمنتها؟ أم ثمة تشارك في الحصول على الحقوق العامة أولاً، ليأتي حق المرأة وغيرها من الحقوق الأخرى كحالة حوار مجتمعي يبتغي الإنصاف والعدالة؟
تحديد السمات والخصائص من حيث الترابط والاختلاف بين الأنوثة والذكورة شرط أولي لبناء الحقوق وإنصافها. فحيث أن الأنوثة لا ترتبط بالحالة العضوية والجسدية وحسب والتي هي اختلاف واضح ومحدد بين الذكر والأنثى، بل ترتبط بالعواطف والمشاعر والوجود الداخلي للإنسان. وهنا هي ليست حكراً على المرأة بل حالة طافية عندها بنسبة عن الرجل، فيما تكون السمات الذكورية متنحية أمامها. والعكس صحيح. الأنوثة والذكورة صفات شعورية وحسية ومادية موجودة لدى الطرفين، ولكنها تتمايز عند احداهما بشكل أكثر وضوحاً ما يجعلها سائدة، وهذا الاختلاف منتج ويدعو للترابط والتكامل لا للنكران والبحث المجافي للطبيعة بالأضداد والنتيجة تشويه المعطيات وحالات الوجود!
العقد الماضي، اجتاحت السوريين حمّى التحرر والانفتاح بكل صنوفه، ومن كل القيود التاريخية التي عانوا منها. وحيث إن التحرر والانفتاح هو الوجه الناصع للتعبير عن "الأنا" الفردية وحقوقها الطبيعية والمكتسبة أيضاً، بدا التعبير عن النسوية كحركة سياسية تعددت طرقها وأدواتها وأشكال التعبير عنها واضحة جليّة تباينت بين حدّين عريضين: الأول: المساهمة في الوصول لحقوق سياسية متساوية مع الرجل سواء في التمثيل الشعبي أو اتخاذ القرار والمسؤولية ومثلها العمل وحريته، فيما تباعد الحد الثاني باتجاه التصعيد بالحركة كحالة مناقضة تماماً للذكورية، وليس فقط، بل جعلها حالة عداء واستنفار دائم وكأنهما عدوين لدودين!
إجابة شريحة واسعة من الحركة النسوية اليوم، تقوم على النزاع حول هذا الحق بالمبدأ، إذ لطالما عانت الأنثى شتى ظروف القهر والنكران لهذا الحق رغم أنها حققت ومارست حقوق العمل والسياسة في اتساع. لكن المثير للغرابة هو تلك الإجابة التي أقامت ردة فعل عالية اتجاه الأنوثة والذكورة بآن، بحيث يتم التنكر للأنوثة كونها مصدر العار المجتمعي وأداة التحكم والهيمنة الذكورية، بحيث أنها تعتبر حالة انتقاص يجب تعويضها بالحقوق النسوية المضاعفة، واعتبار هذه الحقوق هي الحق الأسمى والأكثر إخلاصاً للعمل من أجله، لدرجة أن نسبة عالية من تمويلات المجتمع المدني استقدمت على الجندر والحقوق النسوية، وكأنه الحق الذي إن تحقق تحققت الحرية العامة لكل السوريين! وغرابة المشهد تزداد اكتمالاً ودهشة حين تكون سلطات الشرق الغارقة في الاستبداد واستنقاعاته الفجة في التغول في كافة صنوف الحقوق بدءاً من الطبيعية بحق الحياة إلى السياسية وحق التعبير عن الرأي، تستقبل بترحيب كل طروحات الجندر والحركة النسوية وتتيح لها فرص واسعة للممارسة، بينما تلاحق كل صاحب رأي مخالف سياسي عام وتكيل له، حتى وإن كان أنثوياً، تهم العمالة والخيانة والإرهاب وغيرها.
الحرية تبدأ بالحرية الفردية نعم، ولكنها تعتبر قاصرة وعاجزة عن التحقق ما لم تتشكل لها بيئة الممارسة والحياة والتغير في شؤون الدولة والسياسة. فحرية الكل تعني تحقيق شروط ومناخ التحرر للجميع ذكراً وأنثى، جماعات وأحزاباً، فرقاً ومللاً، منظمات مدنية وحركات مدنية وسياسية. واقتصارها على جانب وحيد منها يعني الاستلاب المكافئ لأطر الاستبداد ذاتها، إن لم تكن أشد شراسة منها. هنا تصبح حقوق المواطنة السياسية حقوق يجب العمل المشترك والتفاعلي عليها بين كلا الطرفين ذكورة وأنوثة لأجل تحقيق البيئة العامة في الدولة والمجتمع، وأبداً هي ليست حالة تنكر كأنتي ذكورة!
المثير للتحفز وضرورة البحث اللغوي هو جندرة اللغة والنصوص الدستورية، فهذه وإن تحققت في المجتمع وبقيت الحركة السياسية العامة أسيرة الاستبداد القهري العام، ستكون مجرد حالة استقطاب موجه لتجزئة قضية المواطنة من محتواها الكلي والعام لخصائص وفرديات يسهل التلاعب بها وإبرازها على نحو أنه مجتمع متقدم وحضاري يحارب الإرهاب والتخلف وهذا مجاف للحقيقة. فيما يجب أن تكون الحركة النسوية مشاركة في تحقيق المفهوم العام في المواطنة وقوانينها الوضعية في دولة. وهذا ليس تنكراً للأنوثة بل تثبيت لوجودها العام وتحقيق اختلافها احتراماً وتثميناً، فالأنوثة والنسوية شرطان متتابعان في التحقق ولا يمكن أن تكون هدامة كحالة "أنتي" ذكورية إلا إن كانت ذات أهداف ذاتية لا ترتقي لمستوى الكلية العامة، وهذا موضوع دراسات وأبحاث يحتاج للتعميق والحوار. لتبق جندرة اللغة لليوم محط استهجان وعدم تدقيق منهجي، واختزال لمفهوم المواطنة الذي يجب أن يحدد في المبدأ دستورياً وتعاقدياً وهنا المعترك الشاق، وليست تلك الإضافات السهلة على النصوص اللغوية التي لا تحقق سوى الاستسهال والاختزال وتفريغ المحتوى. ومع هذا تبقى محط دراسات بحثية يمكن أن تدلي بدلوها فيها حين الاستقرار والتغيير المطلوب.
ليفانت - جمال الشوفي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!