الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • أردوغان وسياسة الحشد والمناورة.. هكذا يصنع صورة مبالغة في واقعيتها

أردوغان وسياسة الحشد والمناورة.. هكذا يصنع صورة مبالغة في واقعيتها
رامي شفيق

يدخل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية، العام الثالث في إطار النظام الرئاسي الذي مثل قطيعة تاريخية مع بنية الحكم في تركيا، خلال العقود الماضية، وقد شكل من خلال ذلك ملامح تجربة سياسية مختلفة، بدت على عكس ما انتهجته سياسات أنقرة الخارجية، والتي التزمت بما عرف في أدبياتهم بـ"صفر مشاكل"، وبنفس الدرجة، كشفت خطواته عن ميل حاد للقبض على السلطة والانفراد بالحكم، ومن ثم، تصفية المعارضة المحلية وخصومه السياسيين، بهدف تأميم المجال العام والسياسي لمنع أي تهديد على استقرار نظامه.


تبرز تحركات أردوغان التوسعية، وتدخلاته المستمرة في المنطقة حجم أطماعه السياسية والإقليمية، كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا وشمال افريقيا، حيث يواصل تنفيذ استراتيجيات عديدة للسيطرة والتوغل، للحصول على النفوذ السياسي والاقتصادي، وهو ما يمكن ملاحظته في ليبيا التي يبحث عن ثرواتها النفطية في شرق المتوسط، فيتورط حتى أذنيه في الصراع العسكري ودعم الميلشيات والمرتزقة، بينما في سوريا، يكاد لا يختلف الوضع كثيراً، حيث يؤدي أدواراً وظيفية لحساب أطراف خارجية، ويشكل في المنطقة الحدودية تواجداً ميدانياً وعسكرياً، ومن خلال آلته العسكرية يمارس القمع والتهجير ونهب الثروات في عفرين وغيرها.


جاءت شهور العام الحالي لتكشف عن تسارع وتيرة الأطماع التركية في ليبيا على خلفية اتفاقية الحدود البحرية التي أبرمت مع حكومة الوفاق خلال تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي؛ ومنذ تلك اللحظة بدت رؤى أردوغان تستقر نحو تسخين وعسكرة الأزمة الليبية، وكذا السعي نحو جر الأطراف الإقليمية والدولية داخل الفضاء الليبي، في محاولة منه لاستكمال المناورة على هامش تناقضات مواقف اللاعبين السياسيين من الأوضاع وبخاصة فيما يخص ثرواتها النفطية.


بيد أن الموقف الإقليمي، وتحديداً، الموقف المصري، يأتي على الطرف المواجه للأطماع التوسعية لأردوغان، ويتصدى لمغامراته أو بالأحرى مقامراته السياسية بالإقليم، مما يهدد الأمن والاستقرار بالمنطقة، وذلك استنادا الى جملة من الاعتبارات الجيوسياسية التي لا يمكن إغفالها عند تدقيق النظر في الأزمة الليبية، وأهميتها للقاهرة من عدة نواح، سياسية وأمنية واستراتيجية.


التماس الجغرافي بين القاهرة وطرابلس، وذاكرة الأعمال الإرهابية التي خلدتها المناطق المتاخمة للحدود المشتركة، تفرض على مصر ضرورة التحرك والنشاط السياسي والميداني، من أجل استقرار ليبيا ونزعها بعيداً عن مغامرات الرئيس التركي الذي تحرك نحو مسرح الأحداث الليبي وهو يبتعد عنه بألف ومائتي ميل، بينما يدرك جيداً أنه يتحرك من اجل التحرش بالاتفاق الثلاثي الذي وقعته القاهرة وقبرص واليونان.


قضت ضربات الطيران التي استهدفت قاعدة الوطية، غرب ليبيا، على الهدف الاستراتيجي لأنقرة وميلشيات حكومة الوفاق في الاستناد عليها نحو اتخاذ  قرار المضي قدما نحو الشرق ومناطق الهلال النفطي، كما وضعتها تحت ضغط عامل الوقت في تنفيذ خطتها لتطويق القاهرة، والاقتراب من حدودها المباشرة خاصة بعد تحذير الرئيس المصري، عبدالقتاح السيسي، بأن سرت والحفرة "خط أحمر".


ومن خلال ذلك، تمارس أنقرة مناورات عددية بواسطة جملة من التصريحات السياسية التي تذهب نحو حتمية اقتحام سرت والجفرة من قبل حكومة الوفاق، واعتبار أن الحل السياسي، والجلوس على مائدة المفاوضات لن يضحى واقعاً إلا بعد تلك المعركة، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، منتصف الشهر الحالي تموز (يوليو) بأن: "حكومة الوفاق تصر على انسحاب الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر من سرت والجفرة وضرورة تسليم المدينتين قبل التوصل إلى هدنة، وأن ذلك يتوافق مع رؤية تركيا التي ترى أن أي هدنة في ليبيا هي ضد مصلحة حكومة الوفاق".


على وقع جملة من التطورات التي جرت خلال سنوات حكم أردوغان، فإنه من الواضح أنه كان يتحرى سحب السياسة الخارجية التركية نحو بؤر التوتر في الشرق الأوسط، وقد سال لعابه أمام إغراءات التوسع السياسي والإقليمي، ما حدا به إلى وضع تأويلات أيدولوجية وأخلاقية تمنحه الشرعية، وتكون بمثابة ورقة يمرر من خلالها نشاطه المحموم خارجياً، فعمد إلى تديين وأدلجة خطابه السياسي، حشد مقولات "العثمانية الجديدة" في لقاءاته المختلفة، وهو ما ترافق مع تحالفه وتيارات الإسلام السياسي والقوميين الأتراك، وتوظيف الآلة الإعلامية لتكريس ذلك.


ليس ثمة شك أن الصورة الذهنية التي سعى أردوغان إلى تكريسها في أعقاب ماعرف بـ"الربيع العربي"، باعتباره مدافعاً عن مطالب الشعوب في تحركاتها الشعبية، تتعرض لتناقضات جمة، خاصة، في ظل انخفاض شعبيته وما ترتب على سياساته المحلية والإقليمية من مشاكل اقتصادية صعبة ومزمنة؛ إذ تداخل بقوة في الوضع السوري، وانتقل من حليف لـ"الأسد" إلى خصم، كما دعم الإخوان في القاهرة أثناء فترة حكمهم، والذين بدورهم بلغت ذروة التحالف بينهما عندما قرر محمد مرسي بملء فمه أن يحرض على ما أسماه "الجهاد" في سوريا، وفتح الباب أمام تسلل العناصر المسلحة والجهاديين الإسلاميين للانخراط وسط الميلشيات الدينية.


تبدو شخصية الرئيس التركي من الشخصيات التي تعرف في عالم السياسة بــ"العناد" الشديد، والقدرة على مواصلة دفع الأمور نحو أقصى مدى على أكثر من محور،  دون الاعتناء بكثرة الخصوم والأعداء والمنافسين، وبالتالي، تهتز بوصلته أحياناً في تقدير مدى عواقب ردود الفعل المتوقعة على ذلك، داخلياً وإقليمياً ودولياً؛ إذ يعتمد على سياسته الشعبوية، وخطاباته التي تتنقل بخفة لتلوين مواقفه، والحديث بأكثر من لغة، حينما يخاطب الجماهير مرتكزاً على دغدغة المشاعر، وحشد عواطفها القومية الدينية.


على خلفية ذلك يمكننا فحص القرار التركي، مثلاً، بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، والذي يحفل سجل أردوغان في هذا الشأن بتناقضات جمة، وقد سبق ورفض تحويله لمسجد، بل يفضح لنا السياق والتوقيت اللذين جاء فيهما الحديث عن هذا الأمر جملة الأهداف التي يسعى لحصدها من الناحية السياسية، وبخاصة، الأوضاع الانتخابية، وترميم الكتلة الشعبية التي فقدها.


فصل جديد من البراغماتية يديره الرئيس التركي من خلال تناقضات التصريحات، بحسب هوية المتلقي، بينما يحسب أن ذلك سيمنحه الرصيد المطلوب لمواجهة أعبائه في الداخل أو أنه سيضع ستاراً على المكشوف من سياساته في ليبيا، وكذا أطماعه في ثروات شرق المتوسط.


ولئن تبدو الأوضاع في ليبيا تتاخم الحرب، بل وتبدو كافة المظاهر تمهد للصراع العسكري، وذلك منذ قصف قاعدة الوطية، لكن كلفة الصراع ومواجهة أنقرة للقاهرة سيكون عنيفاً بما لا طاقة له به. ولذلك، تلتزم أنقرة حتى اللحظة حرب التصريحات التي تصف أن انفجار البارود أضحى قريباً، وأن الاقدام على مهد الانزلاق، بيد أن ملامح الصورة الحقيقية تكشف أننا في عمق سياسة تعتمد مغازلة الرأي العام، والضغط للاستفادة من كافة حدود هامش المناورة، داخلياً وإقليمياً ودولياً.


نسق ممتد في سياسات أردوغان وحزب العدالة والتنمية لا تستطيع أن تفقده، بل سيتطور ويتشابك مع أخريات في عدد من مناطق الجغرافيا التي يتوطن فيها الإسلام السياسي. يفعل ذلك بعين، بينما الأخرى ترقب على مهمل وبحذر مشوب بمخاوف شديدة انتخابات 2023 في الداخل التركي.


رامي شفيق

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!