الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
أقفال جديدة في الفضاء الأيديولوجي الأسدي
سميرة مبيض

لا بد أن العقد الماضي شهد تحولاً جذرياً فيما استند عليه حكم الاسد خلال العقود الأربعة السابقة لإحكام الهيمنة الفكرية على المجتمع السوري، فالمرتكزات الأيديولوجية التي طالما سخّرها للتحكّم بالعقول وحدّ التفكير ضَعِفت بالتتالي، لكن أي حكم استبدادي لا يُسيّر دون تحكم كامل بالفضاء الفكري والأيديولوجي فكان لا بد من أقفال جديدة تُصنّع من قبل منظومة الأسد الابن وتطبق على السوريين لإدخالهم في متاهات جديدة بعيداً عن نوافذ فُتحت في جدران القمع، اختراقات فكرية كانت قد تتسع لتسقط هذه الجدران كاملة نحو مدى سوري أرحب، لكن حواجز جديدة تبقى بالمرصاد للحرية المنشودة.


لا بد من موقع خارج تأثير هذه الهيمنة ليسمح بتمييز أدواتها الجديدة، خارج إطار إعلامي ملوَّث وخارج نطاق مكاني متشنج. وقد بدت جلسات اللجنة الدستورية الموّسعة في جنيف كفضاءً حر يُظهر الاستجابة الناجمة عن التيارات الشرطية الموجهة للبيئة الفكرية في المناطق الخاضعة لحكم الأسد، والمرتبطة بالإعلام المُسيَّر والشائعات من جهة، وبثنائية المكافئة والعقاب من جهة أخرى.


هذه العوامل المُستمرة بالتأثير دون انقطاع على الفضاء الأيديولوجي في هذه المناطق تستند على عدّة نقاط محرّكة، يبدو أكثرها تأثيراً واستخداماً هو ثنائية الجيش مقابل الإرهاب فمعظم الاستجابات، الإيجابية كما السلبية، كانت تتعلق بحالة تقديس للجيش الحكومي، مقابل محاربة الإرهاب، في انكار مستمر لوجود مطالب مُحقّة انطلق بها الحراك السوري في عام 2011 مطالب غائبة كُليّاً عن الإعلام السوري الداخلي وعن السردية المعتمدة والمتداولة لما جرى في العقد المنصرم.


في ظل حُكم يعتمد على سياسة خلق العدو، فان كل ما هو تحت مسمى الإرهاب هو نقطة الاستقطاب الجديدة اليوم لحشد الرأي العام السوري حول بشار الأسد الذي وإن لم يظهر كشخص مقدس، ولا يُمكن اعتباره نقطة مُحرِّكة، لكنه يحتفظ برمزية (السيد الرئيس) التي يتفادى كثيرون المساس بها مما يؤدي لتغييب كامل لحقيقة أن الشباب السوري على طرفي الصراع هم ضحايا لتمسكه بكرسي السلطة وسياساته المنحرفة في التعامل مع حراك شعبي سلمي بالنار والحديد مؤدياً بذلك لدفع الشباب السوري للموت، ليس ذلك فحسب بل تعامي إعلامي وعلمي عن منشأ هذا الظواهر المتطرفة التي شهدتها سوريا وعن امتدادها فلا يمكن إلا لمن يخضع باستمرار لهذه المعتقل الفكري المُتعمد أن يُتجاوز البحث عنها بمنطق ذو منطلق ذاتي، لكن أنّى بالوعي الذاتي أن يتفعّل في صندوق مغلق على الأكاذيب.


من هذا المنطلق كان طرح محاربة الإرهاب ضمن سياق الدستور المستقبلي مطلبٌ للوفد المرشح من قبل الحكومة، هذا المطلب الذي لم يجد تجاوباً كبيراً من طرف المعارضة رغم أنه مطلب صحيح في جوهره، لكنه قابل للتحريف باتجاهات خاطئة إن لم يكن مُحدداً ومُفصلاً ومُعرِّفاً للإرهاب بكافة وجوهه وأشكاله. فالوصف الفضفاض للإرهاب الذي قد يُفضي لقمع أي حراك سلمي مطالب بالحقوق المشروعة والحريات الأساسية هو مطبٌ حقيقي يجب ألا يقع به السوريون لكن التوجس من ذكر محاربة الإرهاب ليس اختياراً سليماً، فالسوريون جميعهم دون استثناء عانوا من وجه من وجوه الإرهاب والترهيب خلال العقود الماضية.


لذلك فان اعتماد تعريف واضح للإرهاب بكونه أي فكر أيديولوجي يتبنى الإكراه والعنف واستخدام السلاح لفرض أفكاره وايديولوجيته عبر ترهيب المختلفين عنه في الرأي والرؤية أو في المنطلقات الأيديولوجية واعتبارهم أعداء والقيام بعمليات إرهابية ضدهم، وعبر اعتبار أي عمليات مسلحة تطال المدنيين وأماكن إقامتهم والبنى التحتية المدنية كالمشافي والمدراس والمنازل وغيرها، عمليات إرهابية لا لبس بتعريفها، يوصلنا لصياغة تشمل كافة وجوه الإرهاب التي عانى منها السوريون من إرهاب دولة وإرهاب تطرف ديني أو تطرف قومي أو أي فكر منحرف ظهر أو سيظهر مستقبلاً ويتيح ذلك سنّ القوانين التي تمنع حصول أي من الانتهاكات الإنسانية وتناهض العنف الممنهج بكافة أشكاله.


من النقاط الأخرى المُحرّكة للفضاء الأيديولوجي في مناطق الأسد، نجد استمرارية لرواسب الفكر البعثي المعادي للغرب، الذي ظهر بمواقف عدَّة أبرزها محاولة جرّ العملية الدستورية إلى دمشق بعيداً عن أي تأثير دولي، بما يسمح بإعادة تحكم إيران والأسد بها بشكل كامل لمصلحته. هذه الرواسب البعثية، والتي ادعي البعض انتهاءها من سوريا اليوم، لم تقتصر على هذا الجانب بل ظهرت عبر الفيديو الذي سربّه الوفد المُرشح من قبل الحكومة لمداخلة إحدى عضواته وهي عضو قيادة فرع الحسكة لحزب البعث، والتي ظهر بخطابها بوضوح استمرارية تداول مفاهيم منحرفة تتهم كل سوري مختلف عنها بالعمالة للغرب حيث ذكرت، في الفيديو المسرّب عن مداخلتها، كونها ترفض التساوي مع ما سمته الأقليات والعرقيات، في مضامين أقل ما يُقال بها أنها تحريضية نحو تعميق شروخات مجتمعية يُصفق لها حشد سوري لا زال يسقط عند أول امتحان في المبادئ الوطنية والإنسانية متأثراً بشمولية الفكر الذي طغى على كل مساحة للتفكير التعددي لعقود، وعليه فقد تكون إحدى أهم مهمات الدستور المستقبلي في هذا السياق هو تحقيق التغيير جذري بالانتقال من الشمولية إلى التعددية فكراً ومنهجاً متحدياً الأقفال الجديدة للفضاء الأيديولوجي بنوافذ ستسمح بمرور التنوع السوري وتواجده على كافة الصعد.


عضو اللجنة الدستورية السورية، باحثة في الانثروبولوجيا

العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!