الوضع المظلم
السبت ٠٩ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
أمريكا إعادة تموضع أم انسحاب عالمي؟
عمار ديوب
هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وشاركها في ذلك الاتحاد السوفيتي، إنّ سقوط الأخير وتفككه في أواخر الثمانينات من القرن الماضي أتاح لأمريكا الهيمنة الأحادية. شكّلت الأزمة الاقتصادية في 2008 في أمريكا وأوروبا بداية السماح بالكلام عن تعددية قطبية، وبرزت الصين وألمانيا والهند واليابان وروسيا من جديد، ليتبيّن أنّ هناك قوى عظمى جديدة بدأت تفرض هيمنة عالمية. القوّة الأكثر تنافسية هي الصين، وللصين تاريخ طويل من العلاقة والمشكلات مع أمريكا، وتعود إلى سبعينات القرن العشرين.

خلال أقل من أربعة عقود أصبحت الصين الدولة الأكثر تنافسية مع النظام الرأسمالي وتحديداً أمريكا، الأخيرة، وبدءاً من تاريخ أزمتها راحت مراكز أبحاثها ومؤسساتها تجد أن الصين هي الدولة الأكثر تنافسية على الهيمنة العالمية، مع بداية عهد الرئيس أوباما رأينا أن الاستراتيجية الأمريكية حددت هدفها العالمي، وتخلّت عن أن الإرهاب هو الخطر العالمي، وبالتالي لا بد من تغيير التموضع الأمريكي العالمي لصالح مواجهة الصين ومنعها من التمدد الكوني وإجبارها على تغييرٍ كبيرٍ في سياساتها الاقتصادية، حيث لم تعد محاصرتها تنفع باسم الدفاع عن حقوق الإنسان في الصين أو طبيعة نظامها التسلّطي وسواه.

تزامنت سيطرة أمريكا على العالم مع انتشار كثيف للقواعد العسكرية، ولم تخلُ دولة متحالفة مع أمريكا من تلك القواعد. وتمركزت في منطقتنا بسبب ضمان إمدادت النفط وصيانة أمن إسرائيل، ومنع الاتحاد السوفيتي، الذي كان له حلفاء في مصر وسوريا والعراق والجزائر من أن يفكر بالوصول إلى المياه الدافئة في المتوسط أو منافسة أمريكا. مع زوال الاتحاد السوفيتي، والكلفة الهائلة للحرب على أفغانستان والعراق وصيانة القواعد العسكرية المنتشرة والأزمة الاقتصادية، وهناك التطور التقني والسيبراني الكبير، بدأت أمريكا التفكير بتغيير شكل هيمنتها على العالم. إن هذا التغيير يتيح للإدارة الأمريكية استمرار تلك الهيمنة، وبأقل قدر من التكاليف، وبما يساعد تلك الإدارة على مواجهة آثار الأزمة الاقتصادية من ناحية، والصين من ناحية أخرى. أمريكا بذلك لا تنسحب من العالم، ولا تنكفئ وكأنها دولة إقليمية أو هامشية، أو خسرت حرباً عالمية ما. كل ذلك لم يحدث؛ القضية تكمن في تغيير شكل الهيمنة على العالم، وتحميل الدول الأقوى مسؤوليات كبرى في صيانة الاستقرار العالمي، كما تراه سياساتها، وبالتالي هناك ضرورة من أجل تغيير أشكال تموضعها في العالم.

انسحبت من أفغانستان ولم تنهزم. قرار الانسحاب يعود إلى فترة أوباما، ولكنها كدولة بيروقراطية، تجد صعوبة في تغيير شكل السيطرة هناك، إضافة للتنافس السياسي بين الحزب الجمهوري والديموقراطي الذي ساهم بتأجيل الانسحاب. الأمر ذاته في العراق. في موضوع الانسحاب الأمريكي من المنطقة، هناك تحليلات كثيرة، وبالطبع لن نأخذ بفكرة أنّ أمريكا فوّضت إيران للهيمنة على منطقتنا، إضافة إلى إسرائيل وتركيا. إن المدقق في علاقات أمريكا مع هذه الدول، نجدها متأزّمة بهذا الشكل أو ذاك، ونستثني إسرائيل، حيث هناك رعاية لها وزراعة إمبريالية قبل سايكس بيكو، وهي بمثابة استطالة لتلك الإمبرياليات. إن وجود إسرائيل بالذات يبطل الحديث الكثيف عن أن أمريكا لا بد منسحبة من منطقتنا. إن وجود بعض السياسات المتعارضة بين الإدارات الأمريكية وإسرائيل لا يعني أبداً أنّ الأولى تفكر بإسرائيل كما تفكر بأية دولة في منطقتنا.

الآن يتغيّر شكل السيطرة الأمريكية، وتفسح أمريكا لدول المنطقة الأساسية بالمزيد من الهيمنة الإقليمية، ولكنها بالوقت ذاته تضع حدوداً لها، وتطالب بتنفيذها من قبل تلك الدول، وفي حال التعارض والمعاندة فهناك الحصار الاقتصادي، والعمليات العسكرية الدقيقة والتدخلات الاستخباراتية وسواه. أثار تغيير شكل السيطرة مطامع كبرى لدى إيران وتركيا خاصة، والمراقب لتمدّد هاتين الدولتين في محيطهما العربي والآسيوي يلحظ ذلك بكل وضوح ودقة. أمريكا لا تثق كثيراً بهذه الدول ولهذا أتاحت المجال واسعاً للتدخل الروسي في سوريا، وبدءاً من سوريا أصبحت روسيا تتواجد في أغلبية دول المنطقة، وتمدّ نفوذها إلى المغرب العربي، وأفريقيا. تريد أمريكا زيادة الشقاق بين روسيا والصين، وسماح أمريكا لها بالتوغل في منطقتنا هو بمثابة صفقة قوية بين الدولتين. لا نجد خلافات حقيقية بين الدولتين المذكورتين بخصوص سوريا وليبيا والعراق وغيرها.

يخفف من غلواء القائلين بالانسحاب تشكيل حلف "أوكوس" مع بريطانيا وأستراليا، وكلفته ليست بالهينة، وهذا يعني أن أمريكا لا تنسحب وإنما تعيد تموضعها. تضغط أمريكا على الدول القوية عالمياً بضرورة تلمّس الخطر الجديد على العالم من وجهة نظرها، ونقصد الصين. أمريكا، وغير حلف أوكوس، تُجدّد من أحلاف قديمة، وتستوعب فيها كل من اليابان والهند، وتنزع إلى إخماد الخلافات مع فرنسا، وجذب أوربا إلى سياساتها الجديدة، وحصار الصين، وضبط قفزتها الصناعية والعسكرية.

أشار بايدن إلى أنّ الخطر الإرهابي لم يعد في أفغانستان، وإنما هو في سوريا أكبر. وهناك مواقف أمريكية كثيرة، تؤكد أنّ الانسحاب من العراق أو سوريا لن يكون على غرار "اللهوجة" التي تمّت في أفغانستان، وعدا ذلك فهناك ظروف متباينة، بين سوريا وأفغانستان، وبالتالي تستدعي انسحاباً مختلفاً، وهو أكثر الاحتمالات ترجيحاً. يعني صاحب النصّ هنا، عدم الانجرار خلف بروباغندا تتصاعد بين وقت وآخر، وتصوّر أمريكا وكأنّها دولة مهزومة، ومنكفئة على نفسها، ولم يعد لديها القدرة في الهيمنة على العالم. هذا كلام عارٍ عن الحقيقة، وأما الحقيقة فتتمثل في أنّ هناك دول عظمى بالفعل، ومنها الصين، وتستدعي الخلافات بين الصين وتلك الدول، أحلافاً جديدة.

في سوريا ومنذ 2011، وكذلك في العالم العربي وانطلاقة الثورات، كان لأمريكا دور تخميد وتشويهي لها، وعملت على إعادة إنتاج الأنظمة الاستبدادية، ومنع انتصار الثورات، وتخريبها عبر إيصال الإسلاميين للحكم.

كان ذلك الإيصال بداية العودة للنظام القديم، وهذا ما حصل في مصر وتونس، وفي سوريا مَنعت أمريكا إسقاط النظام عبر السماح بالتدخل الإيراني أولاً والروسي ثانياً، والتركي ثالثاً، وعبر تدخلها هي في ضبط سياسات الفصائل والمعارضة وتهميشها وتحطيمها. ما هدفت إليه أمريكا منذ 2011 تحقّق، وبالتالي تفسح المجال لدول لمنطقة بضبطها، وضمن ذلك أدخلت روسيا.

أمريكا لا تنسحب من العالم، بل تعيد تموضعها فيه، وتواجه الصين وتضبط أوربا وتجذب روسيا إليها، وأما العالم فسيغرق بأزمات كبرى، ويبدو أنّ منطقتنا سائرة نحو هكذا مصير. فقط وجود مشاريع نهضوية لدي دول المنطقة يبطل ذلك، ولكن هذا خارج عن التحقق، وبالتالي، ستغرق منطقتنا بأزماتٍ شديدة، ستلعب في إشعالها الدول الثلاثة القوية: إيران وتركيا وإسرائيل وهناك الروس.

عمار ديوب

ليفانت - عمّار ديّوب

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!