الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
إحياء سوريتنا
جمال الشوفي

رغم مساراتها الكثيفة أحياناً والمتباعدة في فترات، لكن لم تتوقف الحركة السياسية المتعلقة بسوريا، عربياً أو دولياً، منذ 12 عاماً لليوم، ومع هذا لم تأتِ بعد بنتائج مفعلة على أرض الواقع. وها هي اليوم، تتكاثف بمبادرات متعددة الأطراف، منها عربية بقيادة سعودية واضحة، وإقليمية تركية ورعاية روسية في أخرى. لدرجة يمكن القول إن ثمة ما جعل لسوريا أهمية قصوى بعد طول فتور في ملفاتها السياسية والاقتصادية.

مؤشرات المبادرات لليوم غير مكتملة الوضوح في أبعادها وخططها، لكن دلالتها ومؤشراتها الأولية تترسم يوماً بعد يوم في سؤال محوري تسأله الدول العربية والإقليمية: إلى متى ستبقى نتائج الفوضى والكارثة السورية عقدة المنشار أمام مصالحها في تحقيق استقرارها والخروج من معادلات وكوارث تبعات الحالة السورية عليها وكل دولة تشير إلى ما بات يفيض لديها من هذا وذاك؟ فيما السؤال السوري الواجب اليوم، وكل يوم، هل يمكن استعادة المشروع الوطني في خضم هذا البحر المتلاطم والمتضارب من المصالح الإقليمية والدولية؟ وهل علينا البحث عن مصالحنا كما بقية الدول؟ وكيف نحققها مع التمسك بالثوابت في الحرية والعدالة والتغيير السياسي؟

في المبدأ، لم يكن الربيع العربي، ولا الثورة السورية خاصة، ضرباً من ترفٍ أراده مجموعة من "النخب" أو "المتآمرين" أو "المغامرين"، بل كان روح أمة بقدرات شبابها وإمكاناتها الحبيسة لعقود خلت في توقها لوجودها العصري وحضورها العام، في دولة ووطن يحترم التفرد ويقر بالإمكانية والحقوق والحريات وحكم الحالة الدستورية متضمنة العقد الاجتماعي في الهوية العامة وعمومية الشخصية. ولكن كان كل ما جرى لليوم مجازفة ومخاطرة حياة كبرى، هكذا تقول النتائج.

فبعد 12 عاماً، النتيجة البينة لم تكن على قدر أحلام الشباب السوري الذي ملأ الساحات والمدن بشكل سلمي ومدني، فقد تم إجهاض السلمية ومورست علينا وفينا كل ويلات الحرب والتغوّل العالمي، وتوقف مشروع التغيير السياسي عند متطلبات جيوسياسية تتقاسمها قوى النفوذ الدولية، فيما المشروع الوطني المفترض فقد جلّ حوامله على المتابعة في مسيرته السياسية والوطنية.

تبدو النقطة الأخيرة هي الأصعب والأقسى، حيث تشير المعطيات الأولى المطروحة في الجوانب السياسية الراهنة لمقولة "قدر الله وما شاء فعل"، بينما إشارة المشروع الوطني ما زالت ممكنة وتحتاج العقلانية والمسؤولية بذات الشأن. وقد يبدو ما سيطرح في متن هذه السطور القليلة، على قدر مقالة رأي، صادماً وجزافياً في عالم السياسة الحالية، عالم التشنج والمشاريع الدولية التي تهدد بكارثة عالمية من جهة، ودون الوطنية التي تهدد بهدر كل الأعوام التي خلت من جهة أخرى.

ما لم تنتجه بعد السياسة السورية بمعارضتها على أقل تقدير هو إمكانية القراءة الواقعية للمرحلة الحالية، وإن تمكنت من ذلك لم تستطع بعد إقناع الشارع المحلي به، أو حتى مصارحتها علناً به بوثوقية ومنهجية تحليلية متكاملة، أو تتمكن من الولوج للملفات الدولية المحيطة في سوريا. الواقعية السياسية ليست انسياقاً منغمساً في الواقع دون رؤية، بل هي رؤية وتحليل عقلي أولاً، وتحليل سياق من حيث الممكنات والمعطيات، الفرص والتهديدات ثانياً، وتحديد المراحل الزمنية الممكنة للعمل السياسي بحيث تعيد إنتاج المسألة السورية بحلم مشروع الدولة الوطنية بنهايتها لا بمقدمتها. وهذا مختلف كلية عن الخلاف على الدولة وأليات الحكم قبل البدء في التغيير الممكن.

اليوم التهديدات فاقت حدود المألوف، وتشي بتقسيم سوريا أو تركها على حالها جثة هامدة، وقد تثبت إحدى المبادرات وضعها السياسي دون تفير في بنيتها، فيما الفرص الممكنة تكاد تنحسر في القدرة على إحداث الفارق في معادلات المنطقة، وهذا مرهون جزئياً بقدرة الوطنية السورية على قراءتها بواقعية وعقلانية. ففي التاريخ السابق ثمة مأثرة للعقلانية السياسية التي حاولت وتحاول التأسيس لسياسة بلا وهم أو أيديولوجية بلا انتفاعية محظ، المحطات الثلاث التي تصر على هزيمة الصيغة الحديثة للمشروع الوطني والثوري معاً، يقول ياسين الحافظ في كتابه (الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة): "في المشروع الثوري، مهما بلغ من عقلانية وواقعية، ثمة لحسة أيديولوجيا، أو شيء من حلم، يهدد في حال تضخمه وحجبه تضاريس الواقع، إلى تحويل الأخير إلى طوباوية مبتورة الجذور عن الواقع العياني"، وهو ما نحاول إلقاء الضوء عليه فكرياً وسياسياً في المقدمة والمتن المتاح.

ثمة ضرورة اليوم أن يعلن استئخار المشروع الوطني السوري في تحقيق حلم الدولة الوطنية ونقطة إسناد ثورتها، هذه الضرورة قد لا تلقى كل الرضا عند ملايين المظلومين السوريين، وستجد الكم الهائل من الرفض عند الأيديولوجيين والحالمين في تحقيق الكل الفكري في الواقع دفعة واحدة، على مبدأ "كن فيكون"، دون التدقيق في معادلات الواقع وإمكانياته، ومسارات الزمن الحالي ومراحله، وما من عاقل يقول إن أحلام البشر ورغباتها ليست حقاً، بل هي أصل التنوع والتقدم وفتح الممكن السياسي لكنها اليوم باتت حق مؤجل سياسياً!

تأخير المشروع الوطني السوري يعني:

بناء التوافقات الوطنية حول المرحلة الحالية، محلياً ودولياً.

بناء جسور الثقة والانفتاح على المصلحة السورية العامة.

العمل المتوازي على تحييد الأيديولوجيا والشرعيات الثورية في مقابل تقديم الرؤى العقلانية.

الانفتاح المرن على المبادرات السياسية المتعلقة بسوريا، دون الانجراف في أي منها بقدر التمسك بثوابت التغيير السياسي حتى وإن كان جزئياً ومرحلياً والدخول في مرحلة انتقالية.

تأخير المشروع الوطني ليس حالة مستدامة، بل حالة مؤقتة تستهدف البنية السورية في عمقها الاجتماعي والوطني بعيداً عن شبهة المشاريع السياسية الجزافية سلطوية ومعارضة. وانفتاح عقلاني وواقعي على متغيرات المنطقة بعمومها، والعمل على درء المشاريع دون الوطنية.

السوريون وقد ابتلوا بكل صنوف الموت والتأخر التاريخي المكثف في سياسيهم وآلاف من أحزابها ومنصاتها ومحاورها وكل يحاول أن يقول إنه "حلم الشعب"! والشعب كان في كارثة أخرى ومسار آخر، مطالبون اليوم بإحياء سوريتهم مجدداً بكل مسؤولية وجرأة، والبحث بين طياتها عن مقدمات أخرى ممكنة وواجبة، بعيداً عن أية مشاريع جزافية سياسية ضيقة لن تحمد عقباها، فلم يعد بالإمكان أكثر مما كان وإحياء سوريتنا من جديد هدف أولي لأي عمل اليوم وغدا شأن آخر.

ليفانت - جمال الشوفي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!