-
ابن رشد يا خلق هُوُ
مر على تاريخنا مجددون وفلاسفة ومفكرون، قدموا لنا رؤى جديدة، وأفكارا مختلفة، ولكنهم حوربوا وتم اغتيالهم معنويا، ولم يكن الفيلسوف ابن رشد الذي اشتهر بابن رشد الحفيد بمنأى عن التنكيل، بل إن أتباع التطرف والتسلف والإرهاب تلاميذ ابن تيمية، لا يزالون ينكلون به إلى الآن! ويحاربون كل مفكر مجدد يسير على خطاه وإن اختلفت الأزمنة!.
كان زمن ابن رشد غير زمننا، فأهل تلك الأزمنة القديمة كانوا موسوعيين، لذلك كان ابن رشد طبيبا وفيزيائيا وفلكيا وفقيها وفيلسوفا وقاضيا، وكان له بالمختصر باع طويل في كل علم من علوم زمنه، إلا أنه اشتهر بالفقيه الفيلسوف، ورغم أنه بدأ حياته على المذهب الأشعري إلا أنه عندما استقام عوده، أخذ يوجه الانتقادات للأشاعرة ومذهبهم، ثم أنه تخرج في الفقه على المذهب المالكي الذي كانت له سطوته في بلاد الأندلس، إلا أنه تحرر من المذهبية وانطلق فكريا ليؤسس مذهب الفكر الحر، ثم قرأ ابن رشد لأرسطو ثم أفلاطون، وشغف بهما، فقام بترجمة معظم ما وصل إليه من فلسفة أرسطو ومن كتب أفلاطون، ثم انتهى إلى أنك تستطيع أن تصل إلى الله عن طريقين، إما النصوص، وإما الفلسفة، فكلاهما عنده يكملان بعضهما، ولكن مشكلة الرافضين لابن رشد أنهم لم يفهموا منهجه القائم على أنه لا إمام للإنسان إلا العقل، وان العقل مقدم على النص عند التعارض، ثم يرفع ابن رشد من قدر الفلسفة فيقول:"الفلسفة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة" لا تعارض إذن بين هذا وذاك، ولكن فقهاء عصر ابن رشد يمقتون الفلسفة، كما أنهم يضيقون ضيقا شديدا من إعمال العقل، فهم فلا يعرفون غير النقل مع تحييد العقل وإبعاده عن الاجتهاد في النص، لم يعرف هؤلاء أنه كلما استعمل الإنسان عقله وارتقى به كلما ارتقى في مدارج الإنسانية.
والعقل عند ابن رشد ليس مجرد آلة للحفظ، ولكنه آلة قادرة على إدراك الموجودات بأسبابها، وأن معرفة المسببات بتمامها لا تكون إلا بمعرفة أسبابها، وهو الأمر الذي نعرفه في المنطق بارتباط النتائج بمقدماتها، فلا شيء في الكون يأتي بغتة دون أن يكون له مُسبب، فالنار لا تشتعل إلا إذا كان هناك مُشعل لها، سواء كان إنسانا أو ظاهرة كونية، ويبدو أن أعداء ابن رشد حاولوا النكاية به أكثر من مرة، ففشلوا في أول الأمر لأن الخليفة الاندلسي المنصور كان في بداية عهده محبا للفلسفة، وكان ابن رشد عنده مقربا، فهو الذي قام بشرح فلسفة أرسطو، حتى أن ابن رشد عُرف بالشارح، وذلك لأنه عكف على شرح ما وصل إليه من فلسفة أرسطو، ولكن النفس البشرية تتقلب من حالٍ إلى حال، فسرعان ما أصاب الملل المنصور من الفلسفة والفلاسفة واتجهت نفسه إلى الصوفيين والصوفية، وكان بين ابن رشد والصوفيين ما صنع الحداد، فإذا بهم ينشطون ويقدمون الوشايات للخليفة ضده، ويتهمونه بمعاداة الشريعة وتغليب العقل عليها، وكان ابن رشد حينها قد اقترب من السبعين، وتمكن الاعداء من قراءة بعض فقرات من مؤلفات ابن رشد في مجلس الخليفة، وتمكنوا من إخراجها من سياقها وتأويلها ضد مقصدها، فغضب الخليفة عليه، وانعقدت المحاكمات له وجماعة من أصحابه، فكان أن أصدر القاضي حكمه ضدهم بالنفي بعد التعذير والتعنيف والتجريس.
وبدأ أعداء ابن رشد في تأليب العامة عليه، ويا لهف قلبي عليك يابن رشد والناس كالخراف تسير أمام من يسوقها، حتى أن ابن رشد وولده دخلا مسجدا في قرطبة فثار الناس ضده وطردوهما من المسجد بعد أن كادا يفتكا بهما، والرجل يجري وولده يمسك يده، فقد بلغ ابن رشد من الكبر عتيا، والناس لا توقر كبيرا تم اتهامه بالهرطقة والكفر، وصدق شوقي أمير الشعراء حينما قال عن العامة: يا له من ببغاء عقله في أذنيه، وهؤلاء الببغاوات قاموا بحرق كتب ابن رشد وهم يكادون يطيرون فرحا وكأنهم تخلصوا من شر مستطير، ولم يشفع لابن رشد أن الخليفة عفا عنه بعد ذلك، بل ظل صاحبنا مكروها متهما في دينه حتى مات.
وتمر الأجيال ويكتب علماء المسلمين الكتب والتشنيعات على ابن رشد، ويتهمه ابن تيمية بالكفر تارة وبالزندقة تارة أخرى، وتنتقل فلسفة ابن رشد وترجماته لأرسطو وأفلاطون إلى أوروبا، وتلقى أفكاره رفضا من رجال الدين، حتى أن أسقف باريس عام 1277 ميلادية حظر أفكار ابن رشد بعد أن كان قد أدانها، وقام دانتي بوضع صورة ابن رشد في الجحيم في تحفته "الكوميديا الإلهية" ولكن هذا لم يجعل العقل الغربي مستهجنا لأفكار ابن رشد، بل أخذها وجعل منها "اليقظة الكبرى للعقل الغربي" وظلت فلسفة ابن رشد تقود العقل الغربي لأربعمائة عام حتى سميت تلك الفترة بالفترة "الرشدية" في حين أخذ العقل العربي يتجرع أفكار ابن تيمية ويغلق أبواب العقل ومساراته، فهل سيعود ابن رشد إلى الحياة من جديد ليضع لنا حجر الأساس لفترة رشدية نمر بها لكي نستطيع الدخول إلى الحضارة الإنسانية مبدعين لا ناقلين، أقول لكم الحق: كلنا يجب أن يكون ابن رشد.
ثروت الخرباوي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!