-
استراتيجية روسيا التوسعيّة بين استعادة المجد السوفياتي القديم والعقوبات الغربية الجديدة
بين حلم التوسّع الروسي وردود الفعل الغربية وبين صراع الطاقة وإمداداتها وارتفاع تكلفتها وبين الصعوبات التي تواجهها الدول الغربية بسبب ذلك، يتبادر للذهن ماذا بعد أوكرانيا؟ وهل ستتوقف روسيا عند أوكرانيا أم أنها ستستمر بإزاحة حلف شمال الأطلسي عن حدودها؟ وهل سيكون بحر البلطيق هو الهدف القادم بعد أن تنتهي روسيا من البحر الأسود؟ قد يكون هدفاً لها بالتأكيد، والسؤال كيف ستكون استراتيجية الروس حيال بحر البلطيق لما يمثله هذا البحر من أهمية أمنية واقتصادية لدى روسيا؟
عين الروس حالياً على أوكرانيا والبحر الأسود، ولكن بالتأكيد هنالك نظرة بعيدة على بحر البلطيق ودول الاتحاد السوفياتي المنهار، وبالتحديد إستونيا ولاتفيا، واللتان تطلان على بحر البلطيق.
عندنا تكون في نافارا بإستونيا، أحد دول حلف شمال الأطلسي، وهي ذاتها جمهورية سوفياتية سابقة، فإنك تتواجد في مدينة إستونية على حدود روسيا، الدولة العظمى، حيث تبعد نافارا الواقعة على الحدود الإستونية الروسية، قرابة ١٥٠ كيلو متر عن سانت بطرسبيرغ، المدينة الروسية الأهم بعد موسكو، والتي خلد التاريخ تجاوزهم الحصار النازي في الحرب العالمية الثانية. تلك المسافة التي تبعد مدينة روسية هامة عن الآلاف من مقاتلي حلف شمال الأطلسي، وذلك من شأنه أن يزيد القلق لدى روسيا والتي قد تضع صوب أعينها على إستونيا في مرحلة ما بعد أوكرانيا لتدعيم استراتيجيتها الأمنية، وبالتالي فإن ذلك يزيد القلق لدى إستونيا والتي تطالب حالياً حلف شمال الأطلسي بتدعيم أكبر ومستمر كي لا يكون مصير إستونيا مشابهاً لما حدث في أوكرانيا.
يتواجد حالياً عشرون ألف عسكري من حلف شمال الأطلسي في دول البلطيق وبولندا ودول شرق أوروبا التابعة لحلف شمال الأطلسي، إلا أننا عندما نمعن في التفكير ونتذكر اجتياح أوكرانيا فعلينا أن نتذكر أن روسيا حشدت أكثر من مئة ألف عسكري على الحدود الأوكرانية قبل ذلك الاجتياح. فهل العشرون ألف عسكري التابعين لحلف شمال الأطلسي ممن تفرقوا في دول وسط وشرق أوروبا مع قوات تلك الدول قادرين على وقف تلك القوة الروسية الضاربة؟ الحاجة ملحة لدى حلف شمال الأطلسي لتدعيم استراتيجيته الأمنية للحد من طموحات الرئيس فلاديمير بوتين. وفي الوقت ذاته زيادة أفراد حلف شمال الأطلسي بهذا الوقت يعتبره الروس تهديداً ضمنياً من حلف شمال الأطلسي تجاه روسيا.
إستونيا ولاتفيا دولتان تشتركان حدودياً مع روسيا، وحدودهما قريبة جداً من سانت بطرسبيرغ، المدينة الثانية من حيث الأهمية في روسيا، وتتواجد قوات حلف شمال الأطلسي في تلك الدولتين. فعندما نتذكر أن أوكرانيا دولة حدودية مع روسيا وترفض روسيا أي تواجد لحلف شمال الأطلسي على حدودها، فكيف ستراجع روسيا ذلك الشأن؟ وهل ستعيد حساباتها وتطلب من الحلف أن يقلص أو ينهي تواجده في إستونيا ولاتفيا؟ قد يكون الأمر معقداً في دولتي البلطيق، إستونيا ولاتفيا، حيث يتواجد الحلف، وهذه صعوبة لروسيا باجتياح الدولتين وإعادتهما إلى الإرث الروسي. وكذلك يصعب على حلف شمال الأطلسي زيادة تواجده كما ذكرت مسبقاً. فهل سيكون هنالك تحركات ومناوشات صوتية بين الطرفين في الفترة القادمة.
ما تزال روسيا تدعم أمنها، حيث إن منطقة البحر الأسود وإلى شماله أوكرانيا ومولدافيا، وإلى الشمال بيلاروسيا، منطقة ذات مساحة واسعة خالية من قوات حلف شمال الأطلسي، ولكن إذا اتجهنا شمالاً فهنالك لاتفيا وإستونيا، وهنا تختلف المعادلة، حيث تتواجد قوات الحلف بالآلاف في الدولتين. روسيا حالياً لديها استراتيجية أمنية تختلف عن تلك التي كانت في التسعينيات وبداية العشرية الأولى لهذا القرن. حيث انتفضت مع القائد القوي بوتين وبدأت حيث منطقة القوقاز لتأمين مناطقها الجنوبية وأعادت مراجعة حساباتها في وسط آسيا حيث جمهورياتها المستقلة. وانتهت أخيراً في وسط وشرق أوروبا منذ سنوات حيث القرم، وحالياً أوكرانيا.
كما أن روسيا تطل على بحر البلطيق، ولهذا البحر أهمية أمنية واقتصادية بالنسبة لروسيا، حيث تطل كل من إستونيا ولاتفيا، وكلتا الدولتين ضمن حلف شمال الأطلسي. كما تطل أيضاً فنلندا الحدودية مع روسيا، وهي العدو القديم في الحرب العالمية الثانية، وتعتبر فنلندا ضمن دول الاتحاد الأوروبي. كما تطل على بحر البلطيق دول غير حدودية لروسيا ولكنها ضمن دول الاتحاد الأوروبي، كالدنمارك وبولندا والسويد، والعدو القديم ألمانيا، الذي يتذكره الروس جيداً ويحذر منه كثيراً. وبما أن الأهمية الاقتصادية عالية لبحر البلطيق، حيث إمدادات الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي من خلال نورد ستريم، التي كانت الخط لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي. لذا علينا أن نترقب القادم من الأيام والصراع ما بين القوة الروسية والدول الغربية.
وكما تعلمون أنّ الدول يسيرها الاقتصاد، وأن استراتيجية روسيا الأمنية والتوسّع الذي تعمل عليه هو للحفاظ على أمنها وكذلك لزيادة مكتسباتها الاقتصادية. ونعلم أيضاً أنّ الصراعات العسكرية التي خاضتها روسيا في العشرين سنة الماضية كانت لاسترداد مكتسباتها الاقتصادية ولتدعيم استراتيجيتها الأمنية، ابتداء من القوقاز والقرم وجورجيا، وأخيراً أوكرانيا. ولن تجازف روسيا بخسارة سوريا والتي تمثل للروس أهمية أمنية للقرب السوري القوقازي، وكذلك أهمية سوريا الاقتصادية حيث إمدادات الطاقة عبر سوريا إلى البحر المتوسط. ولا يمكن أن نغفل عن تلك التداخلات الجيوسياسية والاقتصادية وأنّها هي من تحرك روسيا نحو التوسّع غرباً وجنوباً.
تلك المكتسبات في البحر الأسود وبحر آزوف والقوقاز والتواجد الروسي في سوريا أوقعت الدول الغربية في دوامة نقص إمدادات الطاقة حين أقرّت العقوبات على روسيا. الاستراتيجية الروسية والقدرة على تنفيذها من خلال فلاديمير بوتين جعلت الدول الغربية تفكر طويلاً حين تقر العقوبات ضد روسيا، إضافة إلى أن الأثر الاقتصادي مؤثر على الدول الغربية، كما هو مؤثر على روسيا. تعلم روسيا أن خطواتها المتسارعة، في العشرين سنة الماضية، ستحميها أمنياً وستدعمها اقتصادياً. وذلك ما نشاهده في الآونة الأخيرة بعد اجتياح أوكرانيا وما شاهدناه من ردة فعل غربية مرتبكة. وبالتالي فإن ما تم من خلال استراتيجية روسيا الأمنية، في السنوات الأخيرة الماضية، أدى إلى ارتباك غربي تجاه ما يمكن عمله ضد الروس. ولكن الخوف الغربي من توسّع روسي قادم جعل الغرب يطلقون النيران على قادمهم.
ليفانت - رباب
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!