-
اطردوا السوريين أيها الأتراك!
بحلول ذكرى مجزرة الكيماوي السادسة، في شهر آب المقبل، سيكون قد مرّ على وجودي في تركيا ستّ سنوات بالتمام والكمال.
عبرت الحدود السورية- التركية مع مئات المهجّرين من معبر تل أبيض. دخلت مدينة أورفا مساءً وقضيت ليلتي فوق عشب مقام "إبراهيم الخليل" بالقرب من بِركة الماء في قلب المقام، حيث تعيش آلاف أسماك "السلّور" بكافة الأعمار والأحجام دون المساس بها من قبل الزائرين والمقيمين، لإيمانهم بأنها أسماك "مقدّسة" عاشت منذ آلاف السنين في مياه أخدود الملك "النمرود" الذي حاول حرق النبي إبراهيم فيه لتتحول النار إلى برد وسلام ومياه، والحطب إلى أسماكٍ تكاد تنفجر بطونها من كثرة إطعامها على يد المتفرجين وأصحاب الصور التذكارية.
عند الفجر انطلقت إلى مرسين للقاء صديقي ومضيفي. قضيت عنده أيامي الأولى التي استرجعت خلالها شيئاً من توازني الذي فقدته تحت مشاهد الدمار وأصوات القصف والأرق المزمن.
ودّعت صديقي ويممت وجهي صوب عاصمة العالم وملتقى القارات، مدينة المآذن والأمان والأمل، إسطنبول.
منذ يوم وصولي إليها في بدايات أيلول 2013 حتى هذه الساعة لم أتوقف لحظة واحدة عن العمل؛ في المدارس، والمعامل، والمطابخ، والكتابة الصحفية. تزوجت فيها ورزقت بطفليّ، وتنقّلت بين أربعة منازل، حملت خلالها أغراض بيتي التي جمعت ثمنها من مرتباتي الشهرية شهراً وراء شهر، وجهداً وراء جهد.
لم أطلب يوماً مساعدة من منظمة سورية إغاثية أو وقفٍ تركي. رفضت التسجيل على بطاقة الهلال الأحمر التركي رغم نقودها المخصصة للاجئين السوريين من المفوضية الأوروبية، وهي من حقنا.
كل ملعقة وصحن وإبرة اشتريتها من عرقي، كل ثيابي وثياب أسرتي اقتطعت قيمتها من لقمتي ولقمة أبنائي.
لم أركب يوماً حافلة بالمجّان، ولم أسجّل يوماً في دورةٍ مجانية لتعلّم اللغة. التزمت بقوانين وأعراف المجتمع التركي واحترمت خصوصيته، أجبرت أطفالي على النوم باكراً خوفاً من ضجيج يقلق راحة الجيران، أتحمّل زعل زوجتي كلما طلبت منها إخفاض صوت التلفاز كي لا أثير حساسية الأتراك من اللغة العربية.
أغلق الهاتف في وجه أصحابي كلما اتصلوا وأنا بداخل الميترو أو الباص أو محلات البقالة كي لا أتحدث بلغتي بين الأتراك. عند الضرورة أكتب على "الوتس أب" مخفياً الشاشة عن كل من يجلس بجانبي كي لا يشاهد أحرفي الغريبة عن لغته.
أدفع آجار المنزل قبل انقضاء الشهر، وأناول صاحب المنزل قيمة الفواتير قبل صدورها دون محاسبته على الباقي.
حين تعرّضت الليرة التركية للانهيار المفاجئ، حوّلت جميع مدخراتي من الاستكتاب الصحفي (350 دولار) إلى الليرة التركية لأشارك في دعمها.
أقلّد الأتراك في إطعام القطط والكلاب الشاردة الملقحة ذات الأقراط الملونة على آذانها، وأطلب من أطفالي التمسيد على ظهورها واللعب معها رغم خوفي المتجذّر منها بسبب عضةٍ تعرضت لها في صغري، ورغم ممانعة زوجتي التي ترتجف من منظر الأرنب.
أشاهد أبناء الجيران كيف يُنزلون ابني من دراجته الصغيرة كي يركبوا عليها، فينظر نحوي حزيناً لأمسح دمعته قائلاً: "معليش يا أبني.. هدول (أرقداش- صديق)" فكانت (أرقداش) أول كلمة يتعلمها في التركية، وصار ينادي جميع أبناء جيله (أرقداش) بدل مناداتهم بأسمائهم. وصار كلما خرج إلى باحة البناء يناديهم كي يركبوا دراجته ويتفرّج عليهم.
في السنوات الماضية، كنت أقضي جزءاً من الحصص الدرسية وأنا أعلّم طلابي في المدارس السورية كيف يتقبّلون المجتمع التركي ويندمجون فيه ويتعلمون لغته ويتعايشون معه.
خلال السنة الفائتة كنت أعلّم مبادئ اللغة العربية لطلبة أتراك في إحدى الثانويات. وأثناء دوامي صباح كل اثنين كنت أقف باستعداد مع الطلبة والمعلمين الأتراك أثناء تأدية تحية العلم؛ وإن صدف يوماً ووصلت متأخراً كنت أقف في الشارع باحترام إذا ما سمعت النشيد الوطني التركي صادراً من باحة المدرسة.
ولكي أريحكم من عناء السؤال عن الراتب الشهري خلال عملي سواء في تدريس السوريين أو الأتراك فهو عبارة عن بدل تطوّع تمنحه لنا منظمة اليونيسيف يكاد يكفي لسد آجار المنزل وبعض الفواتير، وليس من الحكومة التركية.
ستّ سنوات، خسرت فيها العديد من الأصدقاء الذين لجؤوا إلى دول أوروبا، نتيجة دفاعي عن تركيا والأتراك، وأحياناً عن الحكومة، وكتبت العديد من المقالات والقصص الإنسانية والسياسية في مديحهم.
ستّ سنوات رفضت خلالها اللجوء إلى كندا وألمانيا، رغم موافقة الدولة الأولى على طلبي عام 2014 وإمكانية سفري إلى الثانية بطلبٍ خاص من إحدى مؤسساتها. وآثرت البقاء في إسطنبول.
بعد كل هذا، يقولون بأن السوري عالة على تركيا ويعيش على حساب الأتراك ولا يحترم قوانينهم وعاداتهم، ويطالبون بطرده وإعادته إلى (بلده).. ذات البلد الذي بقي ملتحماً معهم طيلة 400 عام، وذات البلد الذي شارك أبناءه في الدفاع عن أرضه وأرضهم في حروب اليونان والقرم والعالمية الأولى، ذات البلد الذي تحتل أسماء شهدائه جزءاً من قوائم شهداء معركة (غاليبولي- جناق قلعة).. المعركة التي أفرزت تركيا الحديثة، والتي ما يزال يتطعّم الحلفاء بمذاق خسارتها حتى اليوم.
يقولون على السوري العودة ومحاربة (إعدائه) بدلاً عن أبنائنا الأتراك، وهم لا يعلمون بأن السوري الملتجئ إليهم لم يهرب من محاربة عدوٍ "صهيوني" أو أجنبي، وإنما هرب من محاربة أهله وأبناء وطنه ومن ظلم حاكم جائر دمّر مدنه؛ هرب من خطيئة سفك الدماء والتجأ إلى من فتح ذراعيه ونادى بنصرته على من ظلمه وهجّره.
السوري المهجّر في تركيا اليوم لا يخضع لتهديد "أمنه القومي" من قبل عدو رابض على حدوده كي يحاربه، فحدوده كلها ضاعت بين تفاهمات الدول وتحالفاتها والفصائل المتناحرة.
السوري لم يعد يعنيه سوى أمنه وأمن أبنائه، وتأمين لقمتهم بالحلال، وتعليمهم..
السوري لم يسرق راحة غيره ولا لقمته ولا عِلمه؛ والسوري يعمل في كل البلدان التي هُجّر إليها وبأقل الأجور، وأبناؤه حازوا على المراتب الأولى في المدارس والجامعات.
والسوري لا ينسى المعروف أبداً، وكذلك لا ينسى التاريخ!
فرفقاً بالسوري أيها الأتراك ولا تجرّوه لكرهكم.. صدّقوني أنتم المستفيدون.
وأعدكم بأني سأكون أول العائدين حين يرحل النظام ويسقط السلاح وتعود إليّ كامل أرضي.
اطردوا السوريين أيها الأتراك!
اطردوا السوريين أيها الأتراك!
اطردوا السوريين أيها الأتراك!
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!