الوضع المظلم
السبت ٢٧ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
اعترفوا.. ليس للصحافة حُرية
إبراهيم جلال فضلون (1)

في اليوم العالمي لحرية الصحافة، انتقلت إلى رحمة الله من مهنيتها إلى عبودية السياسة في بعض الدول وأنظمتها، فجون غيزنيل الصحفي الفرنسي ومؤلف كتاب "التاريخ السياسي للأجهزة السرية الفرنسية" (La Decouverte 2010) يقول: "كلما ذهب الصحفي بعيدًا، وكلما كان أهلًا للحصول على معلومات في المناطق الأكثر غليانًا بالعالم، جَذَب اهتمام الأجهزة" (الاستخبارات).

وتواترت تلك النماذج منذ الحرب العالمية الأولى، وعشية اجتياح الاتحاد السوفياتي لأفغانستان عام 1979، قد اعتمدت الأجهزة الفرنسية على المراسلين الصحفيين، ولن يكون الإسرائيلي الأمريكي "إيلان تشايم جرابيل" آخر جاسوس مُتخفٍ في صفة صحافي، حيث توصلت أجهزة المخابرات العالمية أن القناع الصحفي هو أفضل حل بأقل الأضرار، كما رأيناه في الحرب الباردة عام 1976 في أميركا ومن خلال تقرير لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأميركي بأن أكثر من 50 صحفيًا خدموا سرًا كعُملاء تلك الفترة، والتي يسمح قانون الاستخبارات الأميركي للوكالة وأجهزتها باستخدام الصحافيين كعُملاء بترخيص رئاسي وشرط إشعار الكونجرس الأمريكي..

وأنقرة تستخدم وكالة الاستخبارات التركية بلاط صاحبة الجلالة كغطاء للتسلل وجمع المعلومات الاستخباراتية في دول أخرى أكثر من الداخل في وسائل الإعلام المُعارضة لهم لإدارة حملات النفوذ والتحكم في طريقة وأسلوب النقاش الوطني حول قضايا معينة، وذلك لسهولة جمع الصحافي المعلومات الاستخباراتية واختراقهم وفق طبيعة عملهم وتواجدهم في المؤسسات الحكومية الأجنبية والوصول لمصادرهم من المسؤولين وغيرهم في الكيانات والشركات غير الحكومية والقطاعات غير الربحية، بل ووصل الأمر إلى تحويل قسم صحفي منخفض المستوى إلى جزء من قسم العمليات النفسية والتأثير، وفي بعض الحالات يُطلب من الصحافيين الذين يرغبون في التسجيل في البلدان المضيفة أو لدى المنظمات الدولية تقديم أوراق اعتماد من الأقسام الصحفية بالسفارة التركية، والتي تعد مفيدة لإدارة عمليات المخابرات وتنسيقها وهي طريقة لإخفاء العمليات السرية في البلدان المضيفة، وبالتالي وتعيِّن عملاءها كملحقين صحافيين في السفارات التركية بأوراق اعتماد دبلوماسية، ثُم رفع التقارير بانتظام والتنسيق مع المسؤولين عنهم.

وهُنا يحضُرني سجل لباتريك دونو "الاعترافات" المتضمنة في سير الصحفي الذي سخّر مهنته واجهة للقيام "بمهامّ قذرة" كعميل خلال مدة ثماني سنوات، فيقول دونو: "كنت صحفياً.. كانت مهنتي، وأصبحت غطائي"، بالفعل غطى عام 1980ساحات النزاع في أفغانستان ولبنان والعراق وليبيا وتشاد وأميركا الجنوبية لحساب TF1 وCBS News. وعمل لحساب المخابرات الفرنسية بين عامي 1994 و2002، حتى خرج بتأليف كتابه الصادر عام 2012 بعنوان "الصمت سيحرسك.. شهادة صحفي عميل سري".

وهناك عدد من القنوات كالجزيرة والشرق والشعوب ومكملين سقط العديد من مراسليهم في مصر وغيرها، وكذلك الصحفى المتنكر الإسرائيلى جرابيل، لم يترك شبراً إلا وزاره في مصر، وعميل المخابرات التركية الذي قُبض عليه في أوكرانيا في عام 2019 عندما كان تنكر كصحافي لمراقبة إجراءات تسليم نوري جوخان بوزكير، وهو ضابط عسكري سابق ومهرب أسلحة قدم الأسلحة للجهاديين في سوريا نيابة عن حكومة رجب طيب أردوغان، وقبلها بعام كشف المدّعون السويسريون عن توقيف ملحق صحفي بالسفارة التركية في بيرن لاختطاف رجل أعمال كان من منتقدي الرئيس التركي لكنه هرب.. كما هرب ضابط جهاز الأمن الخارجي الفرنسي جون مارك كادولي وفق كتابه "عميل سري" وكيف مكنته هوية "الصحفي" من الانفلات من قبضة الصرب أثناء حرب يوغسلافيا سابقا.

وقد تعددت عوامل تلك الطامة على المهنة ما بين انحراف فعلي للرسالة الإعلامية متجهة ببُصلتها نحو السياسة والمصالح الاستخباراتية بل وللضغط على الصحافة معنويًّا وجعلها تحت تهديد يُدمرها، ولعل هُناك "بؤر استيطانية" في تركيا تُرسل أسبوعياً تقاريرها حنى أن التوجيهات إلى غرف الأخبار لوكالة رويترز "من صُنع أردوغان" أي تأتي من مسؤولين في مديرية الاتصالات الحكومية التي تبلغ ميزانيتها السنوية حوالي 680 مليون ليرة (38 مليون دولار)، ويعمل بها حوالي 1500 شخص ومقرها برج في أنقرة يرأسها الأكاديمي السابق فخرالدين ألتون، ناهيكم عن جيشها المُكون من 48 مكتبًا أجنبيًا في 43 دولة حول العالم.. كانت سبباً في تأليف عدد صحافيين كتابًا في ديسمبر 2018 عن مقتل "خاشقجي" بمعلومات مقدمة من المخابرات.. ولا ننسي ما كشفت عنه رسائل البريد الإلكتروني المسربة لصهر الرئيس أردوغان "بيرات البيرق" قبلها بعامين في 2016 من أن المخابرات التركية كانت تزود عملاءها بالمعلومات، ولم يتم الكشف إلا عن جزء ضئيل فقط من عملاء المخابرات التركية وجواسيسها.

لقد تحولت صاحبة الجلالة إلى صحافة الحرب تحديدًا، وليس الأمر في تركيا فقط، فموضوع كهذا سيظل بلا مأوى له ولا ضفاف يرسو عليها لاعتبارات كثيرة منها الضمير المهني للصحفي، يقابلها الأنظمة والسياسات وفق أهوائها ومصالحها، وكُلها مسوغ للاستهداف والتنكيل بحرية الصحافة. فمن المسؤول عن الصراع الحيوي للأفكار الإعلامية والأقلام الصحفية في يوم حرتها، وهناك دول بأجهزتها تُسيطر على العناوين الرئيسية والصفحات الأولى وموضوعات النقاش التلفزيوني التي توافق عليها الحكومة.

ليفانت - إبراهيم جلال فضلون

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!