الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الأميرُ السوري ومرضُ الكرسي
عبير نصر

يُعتبر كتاب الأمير لنيكولو ميكافيلي واحداً من أكثر كتب الأدبيات السياسية تأثيراً عبر التاريخ، وهو شهادة حيّة تسجِّل لمكيافيلي نضجه المبكر في العلوم السياسية، وقدرته على تقديمها في إطار مبسط ومتقدّم في آن معاً. وفي الحقيقة قرأ هذا الكتاب العديد من الحكام والسياسيين والمستبدين المعروفين، مثل هتلر، وموسوليني، كذلك ريتشارد نيكسون، هنري كسينجر، وجمال عبد الناصر، ويفتخر الرئيس السابق للولايات المتحدة باراك أوباما بامتلاكه نسخة من الكتاب، وكذلك يفعل ديكتاتور كوريا الشمالية كيم يونغ لي.

ويُقال إن كتاب "الأمير" هو المفضل لكلّ من الرئيس الروسي بوتين، ورئيس الوزراء الياباني الأسبق شينزو آبي، ومن غير المستبعد أنّ من استلم حكم مصر بعد الانقلاب العسكري في 2013، يضع الكتاب في جيبه مثل كتيب إرشادات لا يفارقه لحظة. في المقابل، وفي مقارنةٍ بسيطة بين ما سطّره ميكافيلي في كتابه الشهير وبين سلوكيات أشهر المستبدين، نكتشف أنه أنبل، بكثير، من سائر الحكّام الذين تتلمذوا على أفكاره، والذين لم يتبنّوا سوى نصيحته الأساسية، التي تقوم عليها فلسفته كلها، وهي محافظة الحاكم على كرسيه بشتّى السبل القذرة في حال الاضطرار، بينما الطرق النبيلة، في نظرهم، لا تعدو كونها أموراً ثانوية، بل ربّما عدّها بعضهم، نوعاً من الترف الممجوج، وشذوذاً غير مقبول في أدغال السياسة الشائكة. لن نبتعد كثيراً.. بشار الأسد، على سبيل المثال، تلبّس شخصية "الأمير السوري"، بعدما تبّنى أشهر مقولات الكتاب: "يجب على الأمير أن يعرف كيف يقلّد الثعلب والأسد معاً". جملة شيطانية برّرت له عمل كلّ شيء في طريقه لتثبيت الحكم حتّى الأبدية.

بطبيعة الحال، ينتشر "مرض الكرسي" في الأنظمة الديكتاتورية العربية، بشكل خاص، فالعرب يتنفسون الاستبداد من رئة واحدة، وإذا حصل تحرّك سياسي في بلد، تداعت له سائر البلدان بالثورة والحراك، ما يستدعي مثال أحجار الدومينو في هذه الحالة. بينما يقلّ، هذا "المرض العضال" في البلاد الديمقراطية، ويصل إلى أقلّ معدلاته فى السويد والدنمارك. ومضاعفاته، لا شك، خطيرة بل ومدمرة حين يستمر تدهور "مريض الكرسي"، فيتحول من النفاق إلى تبرير الجرائم، ثم التواطؤ مع إجرام السلطة حتّى ينتهي إلى ارتكاب الجرائم بنفسه. وأصحاب الفساد والمستفيدون من "الكرسي" لا يلتزمون بالمعايير الأخلاقية، ولا تردعهم القوانين المعلنة، لأنّ معظم الصفقات والتجاوزات التي تتمّ تكون سرية الطابع بذريعة الحفاظ على مصالح وأسرار الدولة. وحينما يُكتشف أمرها في بعض الأحيان، تُبذل الجهود سريعاً للتغطية عليها، وإبعادها عن دائرة الضوء. وفي سوريا هناك أمثلة كثيرة في هذا الميدان حول صفقات بين شركات غربية مع النظام الحاكم، وحتى مع جماعات مصنفة إرهابياً وفق اللوائح المعتمدة في الدول التي تتبعها تلك الشركات، وكلّ ذلك يثير الكثير من التساؤلات والشكوك، ويعزّز مكانة أصحاب نظرية المؤامرة الذين يرون أنّ الأمور هي محددة ومقررة سلفاً، ليس على مستوى كلّ دولة فحسب، بل على المستوى الكوني بأسره.

ونستطيع الجزم باطمئنان أنّ العبارة الميكيافيلية الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة" تحتل دوراً أساسياً في وصف السياسة الواقعية، والنفعية البراغماتية الحديثة، ويمكن القول إن تعاليم ميكافيلي، وبرغم بساطتها، باتت حجر الأساس للسياسة السورية اليوم. وعليه يباغتنا سؤال جوهري عن مصير المجازر التي ارتكبت بحقّ السوريين الأبرياء، بينما لم يتوانَ النظام وأعوانه عن تبريرها، متجاوزين ثقافة "الاعتذار عن الخطأ"، التي اعتبرها ميكافيلي ليست مجرّد فضيلة، إنما مظهر من مظاهر الشجاعة الأدبية، أمّا المكابرة، وإنكار الخطأ بحذلقات كلامية، واتّهام الآخرين بأن لديهم أخطاء مثل خطئه، وأكبر منه، هذا كله لا يزيد صاحبه، في نظر الناس، إلاّ سقوطاً، ويؤكد كيف للشرّ أن يكون ساحقاً ماحقاً، وكيف يكون الخير بالقطارة.

تأكيداً على ما سبق.. الضغط الإعلامي الدولي والمحلي الذي أحدثته مذبحة التضامن المروّعة، أجبر بشار الأسد على التعليق على المجزرة، بعدما تحركت نزعته المتوحشة باتجاه المحافظة على كرسيه مهما كلف الثمن. وبالطبع ليس على طريقة الدول الحضارية، وإنما على طريقته المعروفة كعصابة وميليشيات، مستعيناً هذه المرة بأحد أقربائه، المدعوّ رفعت علي الأسد، الذي ورغم اعترافه بالمذبحة وبشاعتها، إلا أنه برّرها بالتهديد والوعيد خلال بث فيسبوكي مصوّر، تحت عنوان "تلميحات". بدأه باتهام كلّ من خرج بالثورة، بأنهم خونة وعملاء لإسرائيل، لأنهم يفرحون بقصفها لقوات الأسد وحلفائه.
في نفس الوقت أراد رفعت الأسد، إيصال رسالة، كان في بعضها تلميحاً أقرب للتصريح، وهي أنّ النظام كان مضطراً للمجازر لحماية الكرسي. ولم يكتفِ بذلك بل استشهد بإسقاطاتٍ تاريخية وحالية، ليخفف من هول فظاعات النظام ضد شعبه الأعزل. وعليه كيف سيصدق السوريون أن قريب بشار الأسد يرفض الجريمة ويدينها وأنه لا يتحمل ذنبها، وهو مستفيد مباشر من استمرار الحكم الفاشي؟. ولهذا السبب لم يطالب بمحاسبة الشخص الذي ارتكبها، وقطع الحديث حتى دون ذكر اسمه. هكذا وبصفاقة غير معهودة، غضّ النظر عن شخص متطرف قتل (42) مدنياً بريئاً، وصوّر فعلته من باب التفاخر، قبل أن تصل هذه "المفاخرة الدموية" لكلّ العالم. جديرٌ ذكره أن "رفعت الغاضب" كتب منشوراً سابقاً عن كرسي الحكم في سوريا، وأنّ الصراع عليه مكلف على مدار التاريخ البشري، حيث سُفك من أجله الكثير من الدماء بدءاً من الأمويين إلى الزنكيين، وكأنة يقول "على زمان الأمويين قُتل صحابة وتابعون ما وقفت ع العشرات أو المئات بالتضامن". وفي النهاية وجّه تهديداً مبطناً للسوريين بالفوضى وبالعودة إلى ارتكاب الفظائع، في حال أصروا على ملاحقة بشار بـ"ديباجة" المجازر والمطالبة بالإصلاح والتغيير.

لا يخفى على أحد أنّ تجاوزات رأس النظام السوري وأعوانه جسدت أفظع فساد مالي في تاريخ ‏العالم، تجلّى بنهب خزينة الدولة، من خلال عقود فساد شبه وهمية ‏استنزفت المال العام، لدرجة أنّ الحكومة عجزت حتّى عن دفع الرواتب والنفقات الثابتة، ‏ما اضطرها للقيام بسلسلة طباعات أوراق نقدية بلا غطاء قانوني ورصيد ذهبي مُعادل، وهو ما أدى ‏لانخفاض سعر الليرة إلى مستويات غير مسبوقة، ما تسبب بنتائج كارثية معيشية تجلّت في غلاء فاحش متصاعد، ومجاعةٍ دقّت أبواب السوريين دون استثناء. ولم يتوقف الأمر هنا إذ كشفت قناة "سي بي إس نيوز" الأميركية عن تهريب أكثر من (900) ألف وثيقة حكومية، قامت بأرشفتها لجنة العدل والمساءلة الدولية، تحتوي على أدلة قوية على تورط بشار الأسد في جرائم ضد الشعب السوري، وتأتي هذه الوثائق لتؤكد المؤكد ولتضاف إلى ما نُشر سابقاً من أدلة عن ارتكابات النظام السوري، ومنها الصور التي سرّبها قيصر عن التعذيب في سجون الأسد. وبالعودة إلى ذي بدء، لا يسعنا إلا التأكيد، وبعد حرب دموية طحنت البلاد والعباد، أنه آن للسوريين أن يعودوا إلى خطابهم الجامع، فالمشتركات أكثر من الخلافات، والاختلاف ليس فقط حقاً مشروعاً، إنما بحر غنى وإلهام لا مستنقع تخوين وانقسام. وكي تنهض الثورة من سباتها لا بدّ من أن تنتعش أخلاقياً، فبديل الأسد يجب أن لا يكون بأيّ شكل من الأشكال نسخة عنه، أو حتّى شبيهاً له.

ليفانت - عبير نصر
 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!