-
الاحتلال الحنون والسيادة الوطنية القاتلة
يبدو أن الحكايات التي لم يعشها جيلنا عن الاحتلال، بل سمعها مروية من أهالينا، واكتفى برؤية نشوة " الاستقلال" والانتصار على الاحتلال والنضال ضده في شاشات السينما والتلفزيون، ليست واقعية.
فنحن لم نرَ في هذه المسلسلات المُبالغ في شيطنة المُستعمر خلالها، مدناً تُهدم ،وعمارات تسقط فوق سكانها ويُطمر البشر تحت أنقاضها، ولم يروِ لنا أهالينا عن مشاهداتهم لتعذيب المعارضين للاحتلال حتى الموت، ولا كل هذه القصص التي نشهدها نحن أبناء المنطقة، في عهد الحكومات " الوطنية" من تدمير وتشريد وقتل وتعذيب وتجويع وإذلال...
بل لا تزال آثاء الاحتلال الفرنسي مثلاً موجودة في المناطق التي تركها، لقد درّسونا في كتب التاريح" الوطني" عن مطبعة نابليون، وفن الطباعة الذي ظهر في مصر في عهد الحملة الفرنسية، وفك رموز حجر رشيد من قبل شامبليون الذي اكتشف أسرار اللغة المصرية القديمة، ولا تزال الكثير من الحدائق والمقابر الأثرية والمباني في بلادنا التي غادرها الاحتلال، شاهدة على قيامه بالبناء والتنمية لا على الهدم والتدمير.
كيف نصدق اليوم هذه المرويات عن الاستعمار، بينما نرى على الأرض حكايات تحدث أمامنا بشكل مختلف؟ رأينا كيف وصل الرئيس الفرنسي في اليوم التالي لتفجير مرفأ بيروت، وظهر مشمّراً عن كمّي قميصه، متفقّداً آثار الدمار.
من المؤكد أن الاحتفاء الذي اُستقبل به الرئيس ماكرون في بيروت، لم يحظ بمثيله في أي مكان آخر، وخاصة في فرنسا، حيث كيفما تحرك الرئيس الفرنسي في شوارع باريس، قوبل بالاحتجاج غالباً، وبالتركيز على مطالبته بإبعاد قوات حفظ النظام عن المتظاهرين. ماكرون الذي تربّى في بيئة ديمقراطية تجبره على الحوار مع المختلفين معه، والتوقف للرد بأعصاب باردة وبابتسامة و احترام، وجد بيئة دافئة واستقبال حار من قبل اللبنانيين الذين خذلتهم حكومتهم.
من الإجحاف المقارنة بين ماكرون وعون، بين رئيس ديمقراطي يصغي لمطالب الناس، لأن هذا من واجبه، ولأنه سيخسر أصوات هؤلاء الناس بجدية في الانتخابات المقبلة، حيث تحدد هذه الأصوات بدقة ومصداقية استحقاق أي مرشّح لمنصب الرئاسة، بينما بدا عون، لامبالياً، منزوياً عن المشهد، وكأن الكارثة لم تقع في بيروت، بل في بلد آخر.
مشهد اعتداء قوات الأمن على الشابة التي ركلت عجلة سيارة سعد الحريري، نموذج مصغّر على ردود السياسيين اللبنانيين على احتجاجات الشعب.. من هنا تبدو المفارقة مؤلمة: هذا الماكرون، الذي تنخفض يوماً تلو الآخر، مؤشرات شعبيته في فرنسا، يظهر كبطل منقذ ومخلّص للشعب اللبناني، وهذا صحيح وليس مجرد انفعال.
حتى إن كان الأمر هو انفعال غير عاقل ومنفصل عن المصالح السياسية للرئيس الفرنسي، فإنه محقّ وعادل، حيث الخزي والشعور بالتخلي والظلم وفقدان الأمل وكل المشاعر المؤلمة التي تعرض لها اللبنانيون، الذين عاشوا مرارات الحروب الداخلية والاقتتال الطائفي من جهة، والحرب مع إسرائيل من جهة أخرى، يجعل تشبث الشباب والشابات الذين أحاطوا بماكرون، يتحدثون إليه بحرقة قلب ورجاء ، أمراً مفهوماً.
حتى تلك المطالب والأصوات التي بلغت قرابة خمسين ألف توقيعاً، والتي تطالب بعودة الانتداب الفرنسي، تبدو محقّة ومشروعة، أمام اليأس من قدرة الحكومات الداخلية من تحقيق الأمان والعدالة للشعب، وأمام الفشل الذريع للسياسيين في قيادة البلد، حيث يفضّل كل منهم مصلحته الشخصية والطائفية على مصلحة الدولة والشعب..
الساسة اللبنانيون، راحوا يدافعون عن السيادة الوطنية، وهم لم يتحركوا من بيوتهم ليتفقدوا أحوال المواطنين، ففي الوقت الذي لم يتحرك فيه أعضاء الحكومة اللبنانية من بيوتهم، كان ماكرون سبّاقاً إلى زيارة بيروت، والتجول بين الناس للإطلاع على مشاهد الخراب، والنقاش مع المواطنين حول ما يمكن لفرنسا تقديمها من خدمات ومساعدات، فراح يحصي على أصابع يده، محاوراً رجال الإنقاذ ، ما يحتاجونه فوراً : غواصّون، مساعدات طبية ، تأمين سكن... ولم يمنع نفسه حتى، هذا الرجل العقلاني الأوربي، من الانفعال، لتجاوز القواعد الصحية ليعانق الناس ويشدّ على أيديهم نازعاً كمامته عن وجهه...
الرئيس اللبناني وخزته السيادة ليقول في تغريدة له على تويتر : إذا لم نتمكن من حكم أنفسنا، فلا يمكن لأحد أن يحكمنا.. والسيادة اللبنانية لن تمس في عهدي.
هل يعتقد الرئيس عون وباقي أعضاء الحكومة بأنهم فعلا قادرون على حكم لبنان؟ حيث ظهرت فوراً الاتهامات والخلافات وتراشق تحميل المسؤولية، الأمر الذي يُظهر أية قضية في بلادنا، مهما كانت عادلة وإنسانية وواضحة ،بأنها ستضيع في حلقة الاتهامات التي تميّع الحقيقة، وتأخذ القضية إلى اتجاه آخر.
هذه هي الصورة الواقعية للسيادة الوطنية : حكومات أغرقت شعوبها في الحروب وأوقفت نموها وتسببت بتخلف شعوب المنطقة وانتشار التشدد الديني والإرهاب والفقر والظلم والتشرد في المنافي.. هذا ما قدمته الأنظمة التي أخذت البلاد من قبضة الاستعمار!
تفجير مرفأ بيروت، وآثار الخراب في كل مكان، في مشهد يعيد صورة الحرب إلى أذهاننا، ويحطّم فكرة الأمل، ليحلّ اليأس بديلاً قاتلاً. هذه بيروت، بيروتنا جميعاً، بيروت التي نحبها، رئة الحرية في المشرق وبوابة الديمقراطية.
لكنهم الشباب، يردون لنا الأمل بالشعوب لا بالأنظمة، وهم يصرخون " ثورة ، ثورة" فنحن نحتاج بشدة لثورة تسقط هذه الأنظمة التي حولت بلادنا إلى كوابيس، وصارت بلاد الآخرين وجهتنا صوب الأمان. نحن نحتاج اليوم إلى استقلال حقيقي عن الأنظمة التي لا تمثل شعوبها، إلى نضال أشرس من ذلك الذي قام به أجدادنا ضد الاحتلال الأجنبي، فهذا الاحتلال الوطني " اللاوطني في العمق" هو الأخطر، حيث لا يمكن مجدداً بين احتلال أجنبي حنون، وسيادة وطنية قاتلة.
مها حسن
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!