-
الاستثناء السوري وشيرين أبو عاقلة
لم يعد بالإمكان وصف المشهد السوري بلغة أو مناهج اعتيادية معروفة، فقد بلغت شدة الفظائع فيه حالة تعجز عنه الكلمات بالوصف. وربما توجب اختراع لغة جديدة تعادل مستوى الحال ومكنونه ومعناه. فحيث يبلغ العنف الممارس في أغراضه ومستوياته فوق أي تفسير سياسي حينها تسقط السياسة والسلطة التي تمارسها، حسب تحديد "حنة أرندت" في كتابها "في العنف". تسقط الدولة ويسقط عنها مفهوم السياسية من حيث كونها سيادة وقيماً وأعرافاً وفضائل تصونها الحقوق أولاً، وممارسة السلطة والسياسية وإدارة والمجتمع بالطرق والأدوات السياسية التي تحفظ وتصون الأولى ثانياً.
لقد سجل التاريخ لليوم، وعلى مدى سبعة عقود، مقتل ما يزيد عن 80 صحفياً نقلوا الحقيقة من داخل الأرض الفلسطينية مباشرة وعبر وكالات الأنباء وتحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، وشيرين أبو عاقلة منهم. لكن النموذج السوري يكاد لا يشبه نموذجاً آخر في الكون، إذ صنفت سوريا الأخطر على حياة الصحفيين، حسب مراسلون بلا حدود، فما يزيد عن 500 صحفي، بين أجنبي وعربي وسوري، لاقوا حتفهم خلال عقد واحد فقط. حيث لا حرية صحافة ولا قانون ولا قيم للإنسان بالأساس. فحسب النص الدستوري المعمول فيه، يُمنع محاكمة الأجهزة الأمنية، ويمنع نقل الأخبار سوى عبر القنوات والأشخاص التي تعينها ذات الأجهزة لتكييف المشاهد التي تريد توظيفها محلياً ودولياً، كتلك التي شاهدناها لمراسلة الإخبارية السورية في مجزرة داريا عام 2012 تقف بين الجثث وتسأل الناجين منهم عمن فعل بهم هذا؟ في مشهد وُصف بأنه الأشد إجراماً من الفعل ذاته. ما حذا بالشباب السوري للتبرع بنقل الأخبار كهواة عبر كاميراتهم وهواتفهم المحمولة وهم يدركون الخطر الذي يحيق بهم، سواء بالملاحقات الأمنية والاعتقال في زنازين الموت السورية، أو القتل المباشر كخالد العيسى، ابن كفر نبل، البلدة التي اشتهرت بلافتاتها المدهشة خلال مسيرة الثورة السورية القتيلة تحفر في الذاكرة.
غرابة المسألة السورية وانكفاء الكلمات عن وصف مشاهدها ذلك نظراً لتراكم العنف والمجازر فيها، فرغم ما شاهدناه من فظائع نقلها الشباب السوري من مجازر وحشية فردية وجماعية بحق السوريين، يأتي الكشف عن مجزرة التضامن عبر الغارديان ليكشف اللثام عن آلاف المجازر التي لم تنقل على الإعلام لعدم بقاء شاهد حي على نقلها. وما يجب فعله هو البحث عن الدوافع النفسية التي قادت مرتكبي الجريمة لتوثيقها بأنفسهم، ما هي طريقة تفكيرهم، ما هي خصائصهم النفسية ليقوموا بهذا الفعل، وكيف لهم أن يمارسوا حياتهم الاعتيادية اليوم؟ والأدهى كيف سيتعامل معهم الناس العاديون بعد أن كشفت المجزرة وجوههم وأسماءهم؟ وهل سيأمن أبناؤهم وأهلهم منهم في حياتهم العادية؟ حكماً هي أسئلة لا تجيب عليها السياسة ولا أعلم إن كان علم النفس قادراً على تفسيرها وفق تعريفاته ومناهجه الحالية.
السادية، مرض نفسي اشتقّ في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، وينسب إلى الماركيز الفرنسي دي ساد الذي ألف رواياته في فترة الثورة الفرنسية، وكان أبطالها يستمتعون بتعذيب ضحاياهم جسدياً في الممارسات الجنسية، ليصبح نموذجاً في التحليل النفسي للمرضى النفسانيين الذين يتلذذون بالفعل الجنسي عبر التعذيب الجسدي، فما هو المرض النفسي الذي يمكن أن يصف ويحلل مشاهد المذيعة التي كانت تقف بين الجثث في داريا؟ أو التي يمكنها أن تحلل وتصف فعل من قاموا بالمجزرة في حي التضامن وغيرها من الأماكن التي لم نشاهدها لليوم؟ فالمعروف أن الحيوانات الشرسة والمفترسة إذا ما أكلت وشبعت تتوقف عن الصيد، لكن أن يتحول القتل لمجرد هواية يتلذذ بها أصحابها ويوثقون مشاهده، ولا يكتفون من تكراره، فهذا ما يصعب تفسيره بأنه حدث طبيعي في الحروب أو زمن العنف. فهل تكفي مصطلحات الانتقام والكراهية والحقد الطائفي للوصف والتحليل؟ حتى شهوة القتل هل تفكي للتحليل؟
حين يصبح التحليل السياسي عبئاً وكلاماً نظرياً، ليس لأنه فائضاً عن الحاجة، بل لكونه غير قادر على معاينة الحقائق بمعطيات واضحة، والبحث عن إمكانيات الفعل والفاعلية. حينها نحتاج لأدوات عمل ومناهج مختلفة في التحليل والتوصيف، خاصة وأن مستوى الجرائم المدونة في تاريخ سلطات القمع والاستبداد، لم يعد يكفيه التحليل السياسي بقدر النفسي والاجتماعي. فهذا الحجم من الدمار والقتل لا ينتجه عاقل، بقدر مضطرب، ومضطربون ومرضى نفسانيون يحكمون شعوب هذه المنطقة برمتها.
ليس لأنني سوري فقط، أو لأنني مما يحاولون النحت في روحهم قبل ورقهم، صور الحدث السوري والفاجعة السورية، بل لأن ما تمر به هذه البلاد وقد عَجفت سنونها وتجردت جبالها، وتكاد تتصحر كلماتها كما سياستها، قد فاق حدود الكلمة ومشتقاتها وصفاً وتصويراً، فبين هذه الـ "قد" وتلك، انجرار نحو الهواية، قيماً وحضارة وتفككاً وتشظياً، وسيل من الممارسات التي لا يمكن تحديد ماهيتها أو وصفها أمام مئات وآلاف المشاهد من صور الكارثة السورية: حرق الأحياء، قتلهم بدم بارد، تعذيب حتى الموت، اغتصاب وتعذيب المعتقلات، تصوير مباشر وموثّق للضحايا من مرتكبي الجريمة ذاتها وكأنهم يتلذذون بما فعلوا. والأغرب والأكثر مدعاة للمفاجآت والدهشة أن من بين اللاجئين السوريين يتم الكشف بين الفينة والأخرى عن قادة ميليشيا وضباط قد هاجروا لأوروبا وأخذوا اللجوء فيها، مثلهم مثل ضحاياهم أنفسهم، ما يجعل معايير اللجوء الأوروبية موضوع تساؤل وإعادة تقييم.
مقتل شيرين أبو عاقلة، مراسلة الجزيرة لأعوام طويلة من الأرض الفلسطينية، أثار ضجة إعلامية كبرى، تناقلتها كافة وكالات الأنباء، فيما لم تغب عن الذاكرة بعد ما أسميناه بمشهد القتل العمد، الحقد المظلم، السادية والفصام النفسي في ممارسة السياسة والحكم، النفوس الكارهة للحياة، حين قتل محمد الدرة، ابن الأعوام الاثني عشر، أثناء انتفاضة الأقصى عام 2000 في غزة، بين يدي والده الذي حاول أن يحميه من رصاص الاحتلال، والذي اعتبر من أكثر المشاهد قسوة والتي لا يمكن تبريرها سياسياً سوى بممارسة العنف والقتل لأجل العنف والقتل وحسب. بماذا يمكن وصف المشاهد السورية التي ما زالت تمارس لليوم وأكثر من طريقة ووسيلة وعلى أيدي عصابات القتل السلب والنهب، والمرعية من ذات الأجهزة، المنتشرة في كل الجغرافيا السورية.
حمل الفلسطيني مفتاح داره معه، كناية عن حق العودة، فيما غالبية السوريين الذين هُجّروا من بيوتهم، نادراً ما تمكنوا من حمل ثيابهم، أو تفقد أبنائهم وأطفالهم. لكنهم يقيناً تركوا مسماراً معلقاً في بيوتهم وجدرانها. علّه مسمار عودة. مسمار يعرف تماماً قبعة صاحبه، رائحة عرقه، اتساع دائرة عقله وصدره إن شاء، فيما بقي المسمار الأشد ألما ذلك الذي علق في القلوب يحمل ذكرياتهم وتاريخيهم وهم عاجزون عن وصف ما حدث لهم وما جرى، خاصة وأن سلطات بلادهم هي من مارست بحقهم ما لا يتخيله عقل أو يخطر على قلب بشر، فهل هذا ما يفسر عجز اللغة عن وصفه وطرائق علم النفس والسياسة لليوم؟
ليفانت - جمال الشوفي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!