-
الانخراط الصيني في الصراع بجنوب السودان .. الدوافع والأدوات
في السادس من يوليو/تموز المنقضي، تناقلت وسائل إعلام صينية بيانًا صادر عن السفارة الصينية في جنوب السودان. وقد ورد في البيان أنَّ السفير الصيني في جوبا "هوا نينغ" قد وقَّع مع وكيل وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بجنوب السودان "باك وول" حزمة من الاتفاقيات ابتغاء دعم إدارة المرحلة التمهيدية السابقة على الفترة الانتقالية المنصوص عليها في اتفاق السلام الموقَّع من قِبل الفرقاء بجنوب السودان في سبتمبر/أيلول 2018 بفضل جهود الوساطة السودانية-الأوغندية.
وهذه الاتفاقيات التي جرى توقيعها بين الجانبيْن تمثِّل في جوهرها مساعدات إنسانية عينية لضحايا الصراع من النازحين وغيرهم ممن باتوا يقاسون ظروفًا إنسانية متردية، وهذه الاتفاقيات سالفة الذكر وغيرها من المبادرات والجهود الصينية لتسوية الصراع تثير تساؤلات عدة حول دوافع الانخراط الصيني في الصراع بجنوب السودان منذ اندلاعه في ديسمبر/كانون الأول لعام 2013 حتى اللحظة الراهنة، ويُقْصد بالانخراط هنا الأدوات التي تعمد الصين إلى استخدامها في التعاطي مع الصراع في محاولة منها لإدارة الصراع بما يحمي مصالح بكين ويمكِّنها من الظهور بمظهر القوة الداعمة للاستقرار والفاعل الدولي المؤثر في ديناميات الصراع بجنوب السودان.
النفط كمحدد رئيسي للانخراط الصيني في الصراع بجنوب السودان
تمثِّل الاستثمارات في القطاع النفطي دافعًا رئيسًا لمزيد من الانخراط الصيني في الصراع بجنوب السودان؛ إذ إنه لطالما كان هذا النوع من الاستثمارات محددًا رئيسيًا للسياسة الخارجية الصينية تجاه السودان قبيْل انفصال الجنوب؛ فقد انخرطت الصين في الصناعة النفطية لأول مرة منذ عام 1995، أي قبل نحو 16 عامًا من انفصال الجنوب؛ إذ أفسحت العقوبات الاقتصادية الأمريكية، التي فُرِضت على السودان لدعم نظام "البشير" للجماعات الإرهابية واتهامه بارتكاب جرائم حرب في دارفور، المجال واسعًا أمام انتشار الشركات الصينية العاملة في مجال النفط بالسودان، الذي كان ينتج قبيْل انفصال الجنوب قرابة النصف مليون برميل نفط يوميًا بما يعادل 8% من إجمالي الواردات الصينية من النفط وقتئذ، وقدِّرت الاستثمارات الصينية المباشرة الموجَّهة من قِبل شركة النفط الوطنية الصينية China National Petroleum Company (CNPC) إلى قطاع النفط بالسودان منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي بنحو 15 مليار دولار.
وعقب انفصال جنوب السودان، أدركت الصين أنَّ عليها إيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للدولة الناشئة حديثًا؛ ذلك لأنَّ معظم احتياطات النفط السودانية باتت تتمركز في تلك الدولة، ويكفي أنْ نشير في هذا السياق أنَّ عائدات النفط تمثِّل نحو 98% من إيرادات الدولة؛ إذ أضحت قرابة الـ75% من الآبار النفطية السودانية مملوكة لجوبا، ولعل هذا الأمر يفسِّر إسراع بكين إلى الاعتراف بدولة جنوب السودان وإقامة علاقات دبلوماسية معها فور إعلان الانفصال رسميًا عن الشمال، وليس هذا فحسب، بل اتجهت شركة النفط الوطنية الصينية إلى افتتاح مقر لها بالعاصمة أبوجا قبل أنْ تضطر إلى إغلاقه في عام 2013 إثر اندلاع الصراع بجنوب السودان لتستأنف الشركة نشاطها مجددًا في العام التالي.
وبالإضافة إلى النفط، ثمة محددات أخرى تؤدي دورًا مهمًا في دفع السياسة الخارجية الصينية لمزيد من الانخراط في الصراع بجنوب السودان لعل أبرزها أن المشاركة الصينية الفاعلة في مفاوضات السلام ودعم عملية التسوية يضيف كثيرًا إلى رصيد الصين كـقوة دولية
أدوات صينية لإدارة الصراع بجنوب السودان
وظَّفت الصين جملة من الأدوات لإدارة الصراع بجنوب السودان والمشاركِة بفاعلية في جهود إعادة الإعمار، نذكر من هذه الأدوات ما يلي:
القروض والاستثمارات الصينية المباشرة:
يتجه القسم الأكبر من القروض والاستثمارات الصينية المباشرة إلى قطاعي النفط والبنية الأساسية في جنوب السودان؛ إذ دعَّمت الصين دولة الجنوب بقرض قيمته نحو 8 مليارات دولار قبيْل اندلاع الصراع، وتحديدًا في أبريل/نيسان عام 2012، موجَّهة لمشروعات الطرق وتوليد الطاقة الكهرومائية والزراعة، وتتراوح أعداد المؤسسات الصينية العاملة في مجال الاستثمار بجنوب السودان بين 100 و140 مؤسسة استثمارية في مختلف النشاطات أكبرها شركة النفط الوطنية الصينية، وفي أبريل ٢٠١٩ وقَّع الجانبان اتفاقيتيْن لتطوير البنية التحتية؛ إذ ستقوم الصين بتقديم منحة للجنوب لإعادة تأهيل جسر نهر جور وبناء طريق طوله 1.48 كم يربط الجسر بمدينة واو، ومنحة صينية أخرى للبدء بالمرحلة الثانية من خطة لتطوير وتحديث مستشفى جوبا التعليمي، أكبر مرفق للصحة العامة في البلاد. وكنتاج لتلك الاستثمارات، أعلنت جوبا مضاعفة كميات النفط التي تقدِّمها لبنك التصدير والاستيراد الصيني بنحو 3 مرات (نحو 30 ألف برميل نفط يوميًا بعدما 10 آلاف برميل) بما يعادل سُدس إنتاج جنوب السودان من النفط لدعم مشروعات إنشاء طرق تربط بين العاصمة ومدن أخرى.
المساعدات الإنسانية والطبية:
قدَّمت الصين مساعدات إنسانية لجنوب السودان بنحو 49 مليون دولار منذ اندلاع الصراع، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وقَّع الجانبان في فبراير/شباط عام 2017 اتفاقية لتطوير المستشفى مستشفى جوبا، وترميم مستشفى كير مايارديت للنساء في مدينة رمبيك بجنوب السودان، وهذه الاتفاقية تُعَد جزءا من مساعدات طبية بقيمة 33 مليون دولار كانت الحكومة الصينية قد تعهَّدت بتقديمها لتحسين أداء قطاع الصحة بجنوب السودان، كما منحت الصين في أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٨ نحو مليون ونصف المليون دولار للجنوب مخصَّصة لجهود مكافحة فيروس إيبولا.
تقديم المبادرات ودعم التسوية السياسية بين الفرقاء:
نلاحظ منذ بدء الصراع بجنوب السودان انخراط الصين في جهود تسويته؛ إذ لم يكد يمضي عام على اندلاعه حتى بادرت الصين بالدعوة لاجتماع لجنة سداسية مكوّنة من السودان وجنوب السودان والصين وإثيوبيا و"إيجاد"، بالإضافة إلى ممثل عن فصيل "رياك مشار" بالخرطوم لبحث تسوية شاملة للحرب المشتعلة في الدولة لأكثر من عام، ولعل أبرز المواقف التي تدلِّل على مشاركة الصين في أي ترتيب يستهدف الوصول لتسوية بين أطراف الصراع، توقيع بكين في ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٨ كـ"ضامن" لاتفاق السلام النهائي الموقَّع من قِبل الأطراف في سبتمبر/أيلول ٢٠١٨.
المشاركة في قوات حفظ السلم التابعة للأمم المتحدة:
بنهاية عام 2016، أرسلت الصين تعزيزات عسكرية قُدْرت بنحو 120 جنديًا إلى جنوب السودان في إطار قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ويبلغ إجمالي عدد القوات الصينية المشاركة ضمن البعثة الأممية بنحو 700 جنديًا من إجمالي 12 ألف جندي يمثلون قوام البعثة الأممية، وتجدر الإشارة إلى أن الصين تُعَد أكبر مساهم في قوات حفظ السلم الأممية مقارنةً ببقية الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن؛ إذ تصل أعداد الجنود الصينين إلى أكثر من ٢٠٠٠ في ١٠ بعثات مختلفة حول العالم.
وختامًا، يبقى التأكيد على أنَّ للصين مصالح وارتباطات عميقة بجنوب السودان، ومن ثم ستظل حاضرة وبقوة في المشهد السياسي. ويكفي الإشارة إلى تصريح ورد عن وزير الخارجية الصيني "وانج يي" إبَّان زيارته لأديس أبابا، العاصمة الإثيوبية، للمشاركة في جهود الوساطة مطلع عام 2014 ومفاده أنَّ للصين مصالح نفطية بجنوب السودان، وأكَّد آنذاك استعداده لإجراء محادثات مباشرة مع أطراف الصراع، لكن اللافت أن "وانج يي" صرَّح بأنَّ ذلك يُعَد "مسئوليته". إذن الصين تنظر إلى التوصل إلى تسوية نهائية وشاملة للصراع وتنفيذها على أرض الواقع باعتبار ذلك يمثِّل مسؤوليةً تقع على عاتقها، هذا الأمر قد يكون مفيدًا لأنَّه سيمثِّل ضغوطًا على أطراف الصراع للالتزام ببنود الاتفاق النهائي الموقَّع في سبتمبر/أيلول 2018، فالصين عليها أنْ تدفع في الاتجاه نحو استقرار الأوضاع ضمانًا لمصالحها.
الانخراط الصيني في الصراع بجنوب السودان .. الدوافع والأدوات الانخراط الصيني في الصراع بجنوب السودان .. الدوافع والأدوات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
قطر تغلق مكاتب حماس
- November 11, 2024
قطر تغلق مكاتب حماس
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!