الوضع المظلم
الأحد ٢٢ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
البقع العمياء في التاريخ الدبلوماسي
صورة تعبيرية. وكيبيديا. تيودور روزفلت و ستالين و وينستون تشرشل في لقاء بعد الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء في 1945

  ترجمات ليفانت
وائل سليمان
فادي حسن

War on the Rocks
Aroop Mukharji


* قد لا يكون النقاش في المنهجية موضوعاً شيقاً ولكن برأيي يجب أن يكون كذلك.

* الأسلوب الجيد في سرد دقائق التاريخ الدبلوماسي هو الأهم. فطريقة السرد الجيدة تجيب عما يتعلق بواقعة حدثت من كيف ولماذا حدثت.   

* بالنسبة للمستفيدين من التاريخ الدبلوماسي فإن معرفة هذه الأساليب مهمة جداً. فالقارئ قد يصدق كلّما يقرأ إن لم يميز الأسلوب الضعيف ويتجنبه. من الجدير بك ألا تصدق كلّما تقرأ، اقرأ أولاً وحلل ثم قرر التصديق من عدمه.


ابتلي التاريخ الدبلوماسي بنقاط ضعف منهجية تؤدي إلى رواية ناقصة للماضي ونشر الأساطير. قد تنطبق بعض هذه النقاط العمياء على فروع أخرى للتاريخ لكن بصفتي مؤرخاً دبلوماسياً سأعالج مجال تخصصي وهو تحديداً العصر الذهبي والعصر التقدمي، لذلك سأدعم معظم انتقاداتي بأمثلة من التاريخ الدبلوماسي لتلك الحقبة.

(هذه الانتقادات ستقتصر على أعمال من سبقني من كبار العلماء والمؤرخين المشهورين، الذين قلما تُنتقد حياتهم المهنية).

البقعة العمياء الأولى: الاستدلال السببي

قال المؤرخ والصحفي والدبلوماسي الإنجليزي إي. إتش كار: “دراسة التاريخ هي دراسة للأسباب”. فالتاريخ يشرح ما حدث في الماضي ولماذا. والأعمال التاريخية ليست مجرد روايات جافة للأحداث بل تقدم أيضاً حججاً سببية.

يمكن تلخيص الحُجة السببية (أو الادعاء السببي) كما يلي: بعض X تسبب بعض Y. الأمر أكثر تعقيداً من ذلك ولكن هذه هي الفكرة الأساسية. عادة ما يحتوي كتاب ما على حجة سببية رئيسة تدعمها المئات من الحجج السببية الأصغر لتكون للأولى هيكلاً ومنطلقاً.

على كل مؤرخ دبلوماسي فهم الاستدلال السببي أي نظام إثبات الادعاءات السببية، ولكن هذا الجانب مهمل. فقليل من أقسام التاريخ العليا، إن وجدت، تدرّس دورات على مستوى الدراسات العليا في الاستدلال السببي. في الاجتماعات السنوية الأخيرة لثلاث منظمات مهنية رئيسة للمؤرخين، بين مئات الألواح وآلاف العروض التقديمية ركز عرضان فقط على الاستدلال السببي. وقد بذل بعض العلماء جهوداً لحل هذه الثغرة، مع أنهم أصلاً علماء اجتماع يدرسون أصلاً الاستدلال السببي. والفجوة بين علماء العلاقات الدولية والمؤرخين الدبلوماسيين، التي لم تكن موجودة في الماضي، في اتساع مستمر.

ليس الأمر أن المؤرخين الدبلوماسيين لا يفكرون في السببية، كما يظهر اقتباس كار. ولكن يتم التعامل مع المفهوم بشكل غير رسمي في أثناء كتابة التاريخ الدبلوماسي. وجدت سببين لذلك. أحدهما هو أن بعض المؤرخين الدبلوماسيين يفترضون أن الاستدلال السببي هو للإحصائيين وعلماء الاجتماع، متناسين أن الأساليب الإحصائية لها منطق نوعي أساسي. والسبب الآخر هو أن بعض المؤرخين الدبلوماسيين يعتقدون أن الأعمال التي تؤكد بشكل أكبر على الحجج السببية ستفقد فوضى ومبدأ المصادفة في التاريخ الدبلوماسي. كنت سأدعو هؤلاء العلماء لقراءة بعض العلوم الاجتماعية. إنها فوضوية جداً.

الإجابة الثالثة هي استحالة تحديد “متغير مستقل” لأن جميع المتغيرات تعتمد على متغيرات أخرى وهذا منطقي. وبما أن الحياة معقدة لذلك لا يمكننا فصل كل سمة من سمات الوجود بشكل مستقل عند شرح التاريخ. لكن هذا ينم على سوء فهم حول قيمة منهجية الدراسة إذ يسهل شطب التطرف. يمكن للمرء طبعاً دراسة السببية مع الاعتراف بالعوامل المعقدة.

يحتوي الاستدلال السببي على مفردات كاملة للقيام بذلك. والأكثر من ذلك أن المؤرخين الدبلوماسيين يحددون المتغيرات المستقلة طوال الوقت. فالمؤرخ جون لويس جاديس مثلاً يحدد المتغيرات المستقلة في كثير من الأحيان لتقديم الحجج السببية، على الرغم من القول إن المتغيرات المستقلة غير موجودة. كمثال واحد في أشهر أعماله، استراتيجيات الاحتواء، قال: “لقد كان هذا التحول في تصور علاقات القوة هو الذي تسبب في الشعور بالضعف في الغرب …” (التأكيد أصلي). وهذا ليس سوى ادعاء سببي يحدد متغيراً مستقلاً وتابعاً. لماذا لا تُدرس مفاهيم الاستدلال السببي هذه؟

عواقب هذا الإهمال كبيرة. فأساليب العلماء في الإثبات ناقصة، ولا يدركون الادعاءات السببية ولا تذكر في الحواشي (لذا الإثبات ضعيف)، سببان يؤديان إلى تاريخ دبلوماسي مبهم. يمكن للقراء تصفح كتبهم المفضلة والعثور على ادعاءات سببية في كل صفحة تقريباً. القضية هي معرفة كيفية اكتشافها والتمييز بينها وبين أقوال الحقيقة. ربما لا يضيف العلماء أدلة لدعم الادعاءات السببية غير المعترف بها ليجعل القراء أكثر عرضة لتصديقها. (هذه الجملة الأخيرة مثلاً تحتوي على ادعاءين سببيين لم أثبت أياً منها بعد).

فيما يلي بعض الأمثلة على قيام المؤرخين بتقديم ادعاءات سببية دون إثباتها. في عام 1898 قرر الرئيس الأمريكي ويليام ماكينلي ضم الفلبين بعد حرب عام 1898 عندما هزمت الولايات المتحدة إسبانيا التي كانت تتخذ الفلبين مستعمرة. هذه هي الحقيقة. في كتابه المنشور عام 2020، يشرح المؤرخ كريستوفر كابوزولا السبب فقال: “كان هدف ماكينلي مواجهة القوة السياسية الواضحة للثوار وإخفاء الضعف الأمريكي”. هذه ليست حقيقة بل ادعاء سببي: اعتراف ماكينلي بالقوة الفلبينية والرغبة في إخفاء ضعف الولايات المتحدة تسبب في قراره بضم الفلبين. من الصعب المبالغة في مدى أهمية هذه الحجة. كان ضم الولايات المتحدة للفلبين أحد أكثر السياسات ذات الأهمية تجاه آسيا في تاريخ الولايات المتحدة.

لم يُستشهد بجملة كابوزولا ولم يسبقها ولا يتبعها أي شيء يناقش عملية صنع القرار لدى ماكينلي. إنه ادعاء سببي غير مدعوم. (وهو أيضاً بعيد من الواقع كل البعد). نشرت مطبعة تجارية كتاب كابوزولا (يعتقد كثيرون أنها تشجع على التقليل من استخدام الحواشي)، لكن المطابع الأكاديمية أقل اهتماماً أيضاً بقضايا الاستدلال السببي. شاهد شرح مايكل جرين للقرار نفسه، عندما أكد جرين على دور مستشار ماكينلي جون هاي في اتخاذ القرار النهائي بالضم. بينما يستشهد جرين بالعديد من الحقائق المحيطة بالقضية، فإنه يترك ماكينلي خارج تفسير قرار ماكينلي نفسه.

يشير غرين إلى أن هاي هو من غير رأيه وقدم المطلب الأخير بضم الفلبين. لكن هاي، مع أنّه مستشار مهم، كان حذراً بشأن ضم الأرخبيل كُلََّه. استخدم ماكينلي هاي لتوصيل مطالبه بمستشارين آخرين – لم تكن هذه فكرة هاي. تركيز جرين على هاي لن ينجح إلا إذا ضُمّ ماكينلي في النهاية إلى حلقة الجدل، لكنه لم يفعل ذلك.

لم يكن قرار ماكينلي محور التركيز لكتابي كابوزولا أو غرين. لذا فإنّ اختيارهم عدم إثبات سبب ذلك مفهوم ولكنه خطر. الحجج الشاملة للكتاب مدعومة بمئات من الحجج الصغيرة طوال الوقت. صحيح أنه لا ينبغي للمرء أن يتوقع بعقلانية أن يُشرح كل ادعاء سببي بالكامل دون التضحية بالقراء (أو بملايين الأشجار الأخرى)، لكننا بعيدون تماماً عن تلك الحقائق. ولم يكن قرار ماكينلي قراراً صغيراً.

من الطبيعي أن يشجع التركيز الأكبر على الاستدلال السببي في التاريخ العلماء على تحديد (وإثبات) الادعاءات السببية التي يقدمونها فعلاً. وهذا بدوره ينتج وضوحاً أكبر للقارئ وتاريخاً أفضل.

فائدة أخرى هي التعرض للمفاهيم والتقنيات وطرق الإثبات. تعد المصادمات وحالات الارتباك والتحليل المطابق من بين عدد من الأفكار التي تشحذ حدة الحدس حول التحليل السببي. ولكل منها منطق ورؤى أساسية تنطبق على التحليل التاريخي النوعي.

البقعة العمياء الثانية: إغفال الصفة المشتركة

يوجه المؤرخون انتقاداً شكلياً لعلماء السياسة بأنهم انتقائيون أحياناً بخصوص البيانات والحالات التاريخية لدعم نظرياتهم. يمكن أن يكون انتقاداً عادلاً، لكن المؤرخين أنفسهم انتقائيون عن غير قصد، وإن كانوا أمهر بواسطة “إغفال الصفة المشتركة” (أي الحكم على البيانات دون الحكم على الطابع التمثيلي للبيانات). وخير مثال على ذلك هو الاستخدام الشائع لمقالات الصحف التاريخية كدليل على الرأي العام.

نسي والتر لافيبر، أحد المؤرخين الدبلوماسيين الأكثر نفوذاً، القاسم في كتابه الرائد، الإمبراطورية الجديدة. قال لافيبير إن أبرز المنشورات المالية الدورية دعمت ضمنياً الحرب ضد إسبانيا في عام 1898، وأن هذا الدعم ساعد في إقناع ماكينلي بمواصلة الحرب. يؤكد لافيبير على عدد صغير من مقتطفات الصحف ما يدفع القارئ إلى الاعتقاد بأن هذا الموقف كان واسع الانتشار ما يعكس الصفة المشتركة لدى المجتمع المالي. وبعد سنوات، اجتهد جوناثان كيرشنر ليثبت أن المجتمع المالي كان في الواقع يعارض الحرب عموماً وثابت. قدم لافيبر صفة مشتركة. بدلاً من ذلك، لم يجد سوى بسط صغير.

نشر لافيبير كتابه عام 1963، لكن نسيان الصفة المشتركة ما يزال يمثل مشكلة. كما نسيت جيل ليبور، في تاريخها الرئيس للولايات المتحدة، الصفة المشتركة عندما أشارت ضمناً إلى أن الصحافة الترويجية، المسماة بالصحافة “الصفراء”، تعكس الرأي الأمريكي وتسببت في حرب عام 1898. (في الواقع، لم تكن معظم الصحف في الولايات المتحدة صفراء.)

البقعة العمياء الثالثة: إهمال “التاريخ السلبي”

يميل المؤرخون الدبلوماسيون إلى تحليل “التاريخ الإيجابي” أو الأحداث التي وقعت وهم يتفاوتون بذلك. نحن نقضي وقتاً أقل في تقدير “التاريخ السلبي”، وهي أحداث لم تقع ولكن كان من الممكن حدوثها بسهولة. بقدر ما تحدد المساحة الإيجابية والسلبية ملامح بيئتنا البصرية، كذلك يحدد التاريخ الإيجابي والسلبي معالم تجربة ما.

على سبيل المثال، قرأنا كثيراً عن حالة “اللاحرب” مع تشيلي عام 1891. في ذلك العام كادت الولايات المتحدة وتشيلي أن تخوضا حرباً بسبب شجار في الشارع بين السكارى في فالبارايسو. خارج حانة “ترو بلو سالون” أدت مشادة بين البحارة الأمريكيين والتشيليين في النهاية إلى مقتل اثنين من البحارة الأمريكيين وسجن عشرات آخرين، وألقى كل بلد باللوم على الآخر.

رفضت تشيلي الاعتذار ودفع تعويضات للأسر الأمريكية الثكلى. بعد توجيه بعض التهديدات التي لم يُرد عليها، طلب الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون من الكونغرس في النهاية “اتخاذ إجراء قاسٍ يراه مناسباً”. اعتبر المؤرخون أن إعلان الحرب تهديد وإن لم يكن طلباً رسمياً. ولابد أن التشيليين ردوا بالمثل. في غضون يوم واحد، اعتذر وزير الخارجية التشيلي ووافق في النهاية على دفع 75 ألف دولار للعائلات الأمريكية.

كانت الحرب (أو في الأقل بعض أشكال القوة) أن تقع. كانت السفن الحربية الأمريكية متمركزة فعلاً في الموانئ التشيلية كإجراء احترازي رداً على عدم الاستقرار السياسي في البلاد. بدأ الجيش الأمريكي في نقل المزيد من السفن إلى المحيط الهادئ، واشترى أسلحة وذخيرة إضافية، وخطط لحصار الموانئ الرئيسة في تشيلي.

قلة من الكتب، خاصةً حول العلاقات بين الولايات المتحدة وتشيلي، تحلل هذا الخطأ الوشيك. لو نشبت الحرب، لتغير تاريخ الولايات المتحدة جداً سواء في حالة انتصار تشيلي أو الولايات المتحدة. لكن هذا الحكم أوضح حقيقة أن وقوع حرب من عدمه له نفس الأثر على تاريخ الولايات المتحدة. هذا هو التاريخ السلبي. إنه يدرس تأثير غياب الحرب (حدث غير واقعي)، وليس مجرد دراسة ما حدث في فالبارايسو (حدث إيجابي)، أو ما كان سيحدث لو اندلعت الحرب (تحليل معاكس للواقع).

يساعدنا فهم التاريخ السلبي على فهم الأسباب الكامنة وراء الأحداث المستقبلية. ولكن، مثل “عدم الحرب” مع تشيلي، قد يكون من الصعب تحديدها. (على الرغم من ذلك، يدرسها بعض العلماء). وقد يكون من الصعب تحديدها لأن قائمة الأحداث غير الواقعية لا حصر لها. ولا نعرف من أين نبدأ. لكن لا ينبغي لهذه الصعوبة أن تثنينا عن محاولة فهم الأحداث المهمة التي لم تقع في تاريخ الولايات المتحدة. من شأن ذلك أن يساعدنا على فهم سبب ظهور العالم على ما عليه.

البقعة العمياء الرابعة: الوقوع فريسة “للعبة الهاتف الأكاديمية”

“الهاتف” هي لعبة للأطفال يقوم فيها اللاعبون بتشكيل دائرة ينقلون عبرها رسالة واحدة بالهمس بها في أذني بعضهم البعض. عندما تصل للاعب الأخير تُقارن الرسالة الأولى بالأخيرة. على الرغم من النوايا الحسنة، غالباً ما تتغير الرسالة خلال رحلتها بين اللاعبين فيضحكون على ذلك.

تطبيق ذلك في مجال التاريخ خطر كبير. قد يقتبس الباحث الراغب في الاستشهاد باقتباس أصلي مصدراً ثانوياً يقرأ فيه الاقتباس. ثم يأتي نفس الاقتباس الثانوي في مصدر ثانوي آخر وهكذا دواليك. ولو أن كل باحث أخذ نفس الاقتباس من المصدر الثانوي نفسه لما وقعت مشكلة. لكن هذا لا يحدث دائماً، كما هو الحال في لعبة الهاتف. وهكذا تتشوه الرسالة مما يؤدي في بعض الحالات إلى حقيقة ملفقة.

تأمل حالة توماس براكيت ريد، رئيس مجلس النواب، ورأيه حول ضم هاواي عام 1898. عارضه ريد. في عام 2017، كتب ستيفن كينزر أن ريد “أخبر صديقاً أن الولايات المتحدة قد” تضم القمر أيضاً”.

لكن في الحقيقة لم يقل ريد هذا أبداً. كيف ارتكب كينزر هذا الخطأ؟ تساعدنا لعبة “الهاتف” على فهم السبب.

من الواضح أن خطأ كينزر لم يكن مقصوداً. فهو يستشهد بكتاب لجيمس جرانت نُشر عام 2011. وفي الوقت نفسه، يستشهد جرانت بكتاب آخر من تأليف والتر ميليس نُشر عام 1931. ويستشهد ميليس بسيرة ذاتية كتبها صمويل ماكول عام 1914، وهنا ينتهي الأمر.

لم يقتبس ماكول من ريد. وبدلاً من ذلك، تكهن بأن ريد ربما اعتقد بعدم ضرورة ضم هاواي أكثر من ضم القمر. يقتبس ميليس من ماكول لكنه لم يذكره بالاسم، مما دفع جرانت (بعد قراءة ميليس وليس ماكول) للاعتقاد بأن ريد قال هذه الكلمات فعلا. سار كينزر خطوة أبعد إلى الأمام من خلال تخيله أن ريد أخبر صديقه أنه شعر بهذه الطريقة.

وهكذا بعد مئة عام، أصبح رأي ماكول كلمات ريد.

لم توجد مخاطر تُذكر في حالة ريد. لكنها تلفت الانتباه إلى القواعد غير الرسمية حول ضرورة وضع المصادر في حاشية وخطر انتشار الأساطير. غالباً ما يستشهد العلماء باقتباسات من مصادر ثانوية. وطالما يمكنهم إظهار أنهم حصلوا على اقتباسهم من مكان ما، فلا يهم ما إذا كان مزيفاً. ويوجد احتمال ضئيل بأن يقوم المحرر بالتحقق ثانية من المصدر.

الحل سهل وهو مطالبة الباحثين، إذا لم يتمكنوا من الاستشهاد بمصدر أساسي، ذكر بالمصدر الثانوي الأول حيث يظهر الاقتباس، ما سيؤدي إلى تقليل مخاطر لعبة “الهاتف الأكاديمي” إلى الحد الأدنى عن طريق تقصير دائرة التأويل.

النقطة العمياء الخامسة: تحيز التفسير

من الصعب سرد التاريخ. وذلك لمعرفتنا بالماضي.

التحيز بعد فوات الأوان أو التحيز المتأخر مفهوم معروف جيداً يشير إلى المبالغة، عندما نتأخر في إدراك العواقب. وفيه على سبيل المثال، قد يقول الشخص إنه كان يعرف أن دونالد ترامب سيفوز في انتخابات 2016، في حين اعتقد في ذلك الوقت أنه لا فرصة له تقريباً في الفوز.

قبل عامين، وضعنا أنا وريتشارد زكهاوزر نظرية تحيز آخر ينبع من الإدراك المتأخر تتعلق بتفسير التاريخ. أطلقنا عليها “تحيز التفسير”. تقول النظرية أن جميع الناس، ومنهم خبراء المؤرخون، قد يبالغون في تفسيرٍ لأحداث محددة لأنهم يعرفون ما حدث. “معرفة النتائج”، كما يطلق عليها في علم القرار، تشوه التفسير التاريخي بتصعيب تخيل الماضي كما كان في ذلك الوقت، مع كل ما يصاحبه من شكوك. بناءً على الحقائق التاريخية التي نتعلمها، فإننا نتشبث بتفسيرات معقولة للأحداث التاريخية، ونتعامل خطأً مع هذه التفسيرات على أنها محتملة.

على سبيل المثال، قد تكون عناصر مؤثرة محددة والتي أصبحت بارزة في الذاكرة التاريخية بمثابة تفسيرات معقولة للأحداث التي لا علاقة لها بها. ولأن “مسار ما حدث كان شديد الوضوح”، فإننا نبالغ في تقدير الدور السببي لتلك العناصر والأحداث خلاله. على سبيل المثال، لأننا نعلم أن ثيودور روزفلت أصبح رئيساً، فمن المرجح أن نبالغ في تأثيره قبل أن يتمتع بالسلطة. وقع إيريك هوبسباوم، مؤرخ غزير الإنتاج من القرن العشرين، فريسة لهذا الفخ في كتابه عصر الإمبراطورية. ففيه كتب هوبسباوم عن “النخبة الحاكمة” بقيادة روزفلت التي حشدت الدعم للحرب ضد إسبانيا في عام 1898. وكان وليام ماكينلي، الذي كان رئيساً في ذلك الوقت، ليصاب بالصدمة لمعرفته أن صاحب منصب فرعي، روزفلت (الذي لم يصبح حاكماً لنيويورك بعد)، قاد “النخبة الحاكمة” في عام 1898.

يعج التحليل التاريخي بهذا النوع من التحيز. فقد بالغ العديد من المؤرخين في تقدير دور روزفلت على حساب ماكينلي.

الحل بسيط وهو المزيد من الحواشي والمزيد من الاستدلال السببي

يمكن تفادي العديد من هذه النقاط العمياء بتحسين الحواشي وزيادة الوعي بالاستدلال السببي. قد تقول: “كيف نستخدم الحواشي بأفضل طريقة؟! المؤرخون الدبلوماسيون هم الأقدر على ذلك! ” هذا صحيح جزئياً. وهذا رأيي، لكنهم أيضاً يستخدمون الحاشية السفلية بشكل مختلف. فهم لا يجيدون الإشارة إلى الادعاءات السببية بنفس براعتهم في إشارتهم إلى الحقائق التاريخية.

معايير الانضباط حول الاستشهاد بالحقائق التاريخية قوية. نحتاج إلى نفس المعايير للاستشهاد بالادعاءات السببية، والقيام بذلك من شأنه أن يوقف انتشار الأساطير السببية التي تغزو مجالنا هذا، كما سيؤدي إلى مزيد من الشفافية للقراء. يمكن أن تفلت الادعاءات السببية من الحواشي لعدم التعامل معها بجدية. وبالضرورة، يتضمن جزء من هذه العملية تدريباً أكبر على الاستدلال السببي. إن إدراج الحدس ضمن الاستدلال السببي لن يؤدي إلا إلى تقوية المنهجية، نظراً لأن السببية أمر بالغ الأهمية للهدف التوجيهي للتاريخ الدبلوماسي. قد يساعد القيام بذلك الباحثين أيضاً على تذكر الصفة المشتركة وإعادة التفكير في التاريخ السلبي. العينات التمثيلية والمجموعات السكانية هي مفاهيم أساسية في الاستدلال السببي، كما تلفت الانتباه إلى تأثير المتغيرات غير المحددة وغير المقاسة.

من جهة أخرى، ستساعد التعليقات السفلية الأكثر حزماً أيضاً في حل مشكلات لعبة الهاتف الأكاديمي وتحيز التفسير. فمن شأن تغيير بسيط في عادة استخدام الحواشي السفلية (المبين أعلاه) للاقتباسات المباشرة أن يقلل بشكل كبير من مخاطر سوء التفسير. وأمر المطالبة بذلك يقع على عاتق الناشرين والمحررين وغيرهم من الأمناء على المعلومات. (وأسارع هنا بالقول إنه يجب على المحررين تنفيذ أولوية التعليقات الختامية على الحواشي السفلية، بما أنه يجب تقديم الدليل في أقرب وقت ممكن من الاستدلالات، وعدم حذف 300 صفحة). يمكن أيضاً أن تخفف الحواشي السفلية والتدريب على الاستدلال السببي من تحيز التفسير من خلال تشجيع بداية أقوى من الإثبات للتفسيرات التي قد تتشوه بفعل الإدراك المتأخر.

لقد تغيرت أساليب التاريخ الدبلوماسي بشكل كبير خلال القرن الماضي. ولكن ما يزال هناك مجال لتطويرها. إن حل العديد من القضايا الموضحة أعلاه لن يفيد المؤرخين والقراء اليوم فقط. من خلال تطوير المنهجية، سنساعد أيضاً المؤرخين الدبلوماسيين المستقبليين على سرد تواريخ الماضي الذي لم يحدث بعد.
 

إعداد وترجمة: وائل سليمان

 

 

 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!