الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
التعصب الضدديني وخطره الشديد على العلمانية
رسلان عامر

لا أحد يستطيع أن ينكر اليوم وجود درجات كبيرة من أشكال التعصب المختلفة في المجتمعات العربية، وسواه من المجتمعات العربية، ويدخل في عداد ذلك التعصب الديني والطائفي والقومي والعرقي والأيديولوجي والعشائري والعائلي والمناطقي وسواه، وهذه كلها أشكال خطيرة على وحدة وسلامة وتطور المجتمع.

واليوم، بما أننا في العالم العربي ما نزال مجتمعات تقليدية متدينة محافظة، ممارسة لتدينها الشديد الواسع الانتشار في ظروف من التدهور الاجتماعي الشامل، وفي ثقافة دينية يطغى عليها التسلف ومواريث عصر انحطاط وانحدار الحضارة العربية، ففي محصلة ذلك يصبح الواقع الديني هو البيئة الأكثر احتضاناً وإنتاجاً للتعصب والتطرف، ما يسهل على المستغلين المغرضين استغلالهما لإثارة النزاعات الطائفية والعنصرية التي تخدم مصالحهم ومشاريعهم، ولذلك ترتفع اليوم على الساحة العربية، أصوات كثيرة تطالب بالعلمانية، ويرى أصحابها أن العلمانية هي الحل السليم الذي يخرج المجتمعات العربية، ومن بينها المجتمع السوري، من معمعة تطريف وتسييس المعتقدات والانتماءات الدينية، ووضع هذه المجتمعات على مسار التطور الوطني الديمقراطي العصري الحديث.

هذا المشروع كأي مشروع آخر هو طرح مشروع مبدئياً، ولكنه واقعياً يجب أن يخضع للنقد المنطقي المتعدد الجوانب، وأحد أهم هذه الجوانب هو مدى عملانية هذا الطرح، أي مدى قابلته الواقعية للتطبيق الفعلي.

وبالنسبة للعلمانية، أو أي مشروع آخر يطرح كحل باﻷسلوب الديمقراطي، تقترن واقعية هذا الحل بشكل جوهري بالقاعدة الشعبية المؤيدة لهذا الحل! وهذه القاعدة بالنسبة للعلمانية يمكن تقسيمها إلى الشرائح التالية:

1- الطليعة أو النخبة العلمانية، وهي تضم بشكل رئيس المفكرين والسياسيين العلمانيين.

2- القاعدة العلمانية وهي تضم عموم مثقفي وأنصار العلمانية، الذين يتبنون العلمانية ويعتقدون بأنها الحل الصحيح.

3- الجمهور المؤيد للعلمانية، وهذه الشريحة هي شريحة عامة الشعب، التي لا تحمل بحد ذاتها فكراً علمانياً أو أيديولوجية علمانية كالشريحتين السابقتين، ولكنها يمكن أن تقبل العلمانية كحل إن هي قدمت لها في صورة مقنعة من قبل الشريحتين السابقتين، وفي المحصلة عندما بتم العمل على الحل بأسلوب ديمقراطي، فموقف هذه الشريحة هو من سيحسم الخيار، ﻷنها تمثل الأكثرية العددية الراجحة في المجتمع.

وهكذا يمكن القول إنه من المستحيل على العلمانية أن تكون حلاً عملياً واقعياً، إذا لم يحظ المشروع العلماني بالشعبية الجماهيرية الكافية، وهذا ما يقتضي العمل المكثف على تنوير القاعدة الجماهيرية بماهية العلمانية، وجعل العلمانية مفهومة ومقبولة من قبل هذه القاعدة؛ وهنا تلعب الشريحة الثانية، التي تتموضع كشريحة وسطى بين النخبة العلمانية والجمهور دوراً حاسم اﻷهمية، فهي المكلفة عملياً بجسر الفجوة بين تلك النخبة والجمهور، ﻷنها هي اﻷكثر حضوراً ووجوداً في أوساط هذا الجمهور وأكثر احتكاكاً وتماساً به، فيما النخبة بعيدة عن ذلك المستوى الشعبي، ولكنها بمقابل ذلك قريبة في الطرف اﻵخر من الشريحة الوسطى، ولذلك فهذه الشريحة الوسطى، أي القاعدة العلمانية، تغدو هي فعلياً المسؤولة عن نشر اﻷفكار العلمانية في أوساط الجمهور بشكل دقيق وصحيح ونشيط، وفشلها يعني فشل المشروع العلماني عملياً.

فماذا لدينا على الساحة العربية؟

واقعياً، هناك فكرة شائعة يفهم فيها التعريف الضيق للعلمانية كفصل بين الدولة والدين بمعنى أن العلمانية هي ضد الدين وهي تلغي دوره الاجتماعي؛ وهذه الفكرة يروجها خصوم العلمانية من إسلاميين سياسيين ودعويين ومحافظين متشددين ومصلحيين مغرضين ومهجوسين بهاجس المؤامرة بشكل كثيف، وهذا ما يؤدي إلى تكريه عامة الشعب بالعلمانية وتنفيرهم منها إلى حد كبير، ولا سيما مع تفشي حالة واسعة من الجهل المعرفي والثقافي في هذه الأوساط الشعبية، التي فعلياً تجهل ما هي العلمانية، وبالتالي يصبح من السهل عليها تصديق أية دعاية مغرضة مضادة للعلمانية.

وفي وضع كهذا يفترض بالقاعدة العلمانية التصدي لهذه الدعايات المغرضة وتفنيدها وبيان زيفها، ولكن الذي يحدث إلى حد بعيد هو العكس تماماً، فهذه القاعدة العلمانية التي تفتقر هي نفسها جداً إلى التثقيف والتنظيم والمنهجية تتصرف غالباً بشكل عشوائي وغوغائي، وتصبح هي نفسها مصدراً كبيراً من مصادر تنفير عامة الناس من العلمانية وتكريههم لها.

الكثيرون في هذه القاعدة يخلطون بشكل يدل على الإفلاس العقلاني بين العلمانية والضددينية، ولذلك يصبح شغلهم الشاغل هو مهاجمة اﻷديان والمتدينين والتهجم عليهم وازدراءهم، وقرنهم بالسخف والتخلف والتكفير والعنف والإجرام، أي أنهم باختصار يتشيطنون الدين.

وعادة ما يعتمد هؤلاء على حجج مسطحة وساذجة بل ومدلسة، وكثيراً ما يستشهدون بالتاريخ والحاضر الدينين وما فهيما من صراعات دينية الشكل كدليل على صحة مزاعمهم، ويتخذونه كحجة دامغة على صحة موقفهم، وهم قطعاً لا ينظرون إلى الدين نظرة تاريخية واقعية، تراه منتَجاً تاريخياً واقعياً يندرج بشكل تكاملي جدلي في الكلية الاجتماعية، ويلعب دورها فيها كجزء فاعل منفعل، يتأثر ويؤثر بغيره من اﻷجزاء بفاعلية متغيرة كما وكيفيا بما يتناسب مع الظروف القائمة المختلفة.

هؤلاء الضددينيين، والذين يمكن وصفهم علمانياً بأنهم "علمنجية" لا أكثر لا يسألون أنفسهم عما يريدون تحقيقه أو يسعون إليه، والمهم لديهم هو فقط الهجوم والتهجم الغوغائيان، أي الهجوم والتهجم من أجل الهجوم والتهجم وحسب.

وأي عاقل يريد فعلياً نشر الثقافة العقلانية والمعرفة العلمية في المجتمع يعي تماماً أنه لا يمكنه أن يفعل ذلك في وسط متدين بأسلوب يسيء فيه إلى عقيدة هؤلاء المتدينين ويهينهم في دينهم، وكل فعل من هذا القبيل هو حماقة صارخة، ستدفع هؤلاء المتدينين إلى اعتبار صاحب هذه الدعاية عدواً لدوداً يجب محاربته من قبلهم، وعندها سيستنفر هذا الجمهور المؤمن بكل قوته للدفاع عن دينه ضد هذا المعتدي بنظره على هذا الدين، وسيلتف هذا الجمهور حول عقيدته ويتشبث بها وبكل ما يرتبط بها من حسنات وسيئات.

وهكذا يكون شخص من ذاك النموذج الضدديني اللامسؤول الذي يقدم نفسه كعلماني، قد قدم بنفسه أكبر خدمة ﻷعداء العلمانية، ﻷنه بذلك يكون قد أكد لعامة الناس بسلوكه اﻷرعن المعادي للدين أن العلمانية هي فعلاً عدوة للدين، ما يجعلها بالتالي عدوة للمتدينين، ومحارَبة من قبلهم.

تلك الثلة من المتعصبين الضددينيين لا تدرك خطورة تصرفها هذا، ولا تعي بأنها بهذا السلوك لن تغير شيئا إلى الأفضل، بل ستزيد السوء سوءا، في وقت لا يكون فيه حالها الحقيقي إلا كجوقة صارخة على قارعة الطريق لا تؤثر قطعاً على سير القافلة السائرة.
 

ليفانت - رسلان عامر

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!