-
الحرب الأوكرانيّة وفشل الأدوات الأمريكية
شكلت الحرب الروسية الأوكرانية من وجهة النظر الأمريكية فرصة مهمة لكبح جماح الصعود الروسي في هرم النظام العالمي الجديد.
حيث استعادت الولايات المتحدة أدوات الحرب الباردة لكبح جماح الصعود الروسي، فتعاملت بالورقة الاقتصادية، والتي تعد من أهم أدوات الحرب الباردة، التي مكنت أمريكا من أن تنجح في تضييق الخناق على الاتحاد السوفياتي، ما أدى إلى تفاقم مأزق الاقتصاد السوفياتي بسبب الحصار التكنولوجي، واستخدام سلاح الغذاء، وتصعيد سباق التسليح، من جانب الدول الغربية، هذا بالإضافة إلى تخصيص الاتحاد السوفياتي لموارده العلمية والتكنولوجية والمالية والبشرية وغيرها للأغراض العسكرية على حساب حاجات الاقتصاد، وهو ما أدى إلى تدهور القدرة الاقتصادية النسبية للاتحاد السوفياتي على الصعيد العالمي، وبالتالي ما قاد لتفكك الاتحاد السوفياتي وخروجه من معادلة القوة الدولية وولادة نظام عالمي جديد يتسم بالأحادية القطبية والقيادة الأمريكية للنظام العالمي.
بالرغم من أن التسويق الأمريكي لأهمية العقوبات الاقتصادية بأنها ستدمر الاقتصاد الروسي في نهاية المطاف، إلا أن المؤشرات على الواقع تؤكد بأن هذه التصريحات ليست إلا مجرد "حرب نفسية فاشلة" لأن نتائج العقوبات في الحرب الروسية الأوكرانية لم تأتِ على نفس النتائج التي جاءت بها الحرب الروسية الأفغانية، فبينما نجحت أمريكا في الحشد الدولي ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، فشلت فشلاً ذريعاً في الحشد الدولي ضد الاتحاد الروسي في أوكرانيا، لأن المتضرر الأكبر من هذه العقوبات هي الدول الغربية، فوفقاً لتقرير صادر عن مركز أبحاث مسجل في فنلندا، وهو مركز البحث عن الطاقة والهواء النظيف. إذ إن أكبر 18 مستورداً من روسيا، باستثناء الصين، هم من يفرضون العقوبات، حيث شكل الاتحاد الأوروبي وحده 71% من مشتريات الوقود الروسي في هذه الفترة، حيث بلغ إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز والنفط والفحم من روسيا بنحو 44 مليار يورو في الشهر الأول من الحرب الروسية الأوكرانية، مقارنة بنحو 140 مليار يورو لعام 2021.
وهو ما يعني أن الدول الأوروبية تجد نفسها تعاقب نفسها إذا ما انصاعت خلف السياسة الأمريكية، بالتالي ما خلق حالة من الانقسام داخل الدول الأوروبية، وجعل دولاً منها تتحدّى السياسة الأمريكية، مثل سلوفاكيا، أحد الدول الأوروبية التي أكدت تحديها للولايات المتحدة، مؤكدة مواصلتها الاعتماد على النفط الروسي حتى يتم إيجاد بدائل، ودول أخرى حاولت أن ترسم خط الرجعة وأن لا تقطع كافة الطرق، مثل فرنسا التي تحاول أن تقف في المنتصف، حيث يؤكد الرئيس الفرنسي "بوتين ارتكب خطأ، لكن لا يتوجب إهانة روسيا"، وأن فرنسا ستلعب دور الوساطة لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية"، وبالتالي نجد أن التأثير السياسي الأمريكي في الحرب الروسية الأوكرانية لا يقارن بالتأثير في الحرب الروسية الأفغانية، حيث فقدت أمريكا تأثيرها الدولي، وجاءت الأغلبية المعارضة لقراراتها من قبل بعض الدول الأوروبية والتي ترى فيها الولايات المتحدة الأمريكية أحد أهم المناطق التي تمارس فيها نفوذها وتأثيرها.
هناك العديد من الأسباب التي قادت لتقلص حجم التأثير السياسي الأمريكي تجاه الدول الأوروبية والعالم بأكمله في الحشد السياسي والاقتصادي ضد روسيا، فبجانب أن روسيا تعد مصدراً أساسياً للغاز الطبيعي، ومن بين أكبر منتجي الخام في العالم، حيث تصدّر زهاء 40 في المئة من الغاز الطبيعي الذي تستهلكه أوروبا، نجد أن العالم الدولي تغير كثيراً ولم يعد كما كان أحادي القطب الذي تسيطر عليه أمريكا، سياسياً واقتصادياً، الأمر الآخر وهو أن الثقة الدولية بالسياسة الأمريكية تراجعت كثيراً نتيجة لإخفاق أمريكا في عدد من الملفات، وبخاصة ملفات الشرق الأوسط، وكذلك فإن التغيير الذي أحدثته روسيا في استراتيجيتها بالانخراط في المنظومة الرأسمالية ونسج علاقات ثقة مع دول العالم والتخلي عن الأيديولوجيا الشيوعية والتي كانت المسيطرة تماماً على علاقات موسكو بالدول الأخرى، والتي شكلت ركيزة سياستها الخارجية في فترة ما قبل وأثناء الحرب الباردة وهو ما جعلها تشكل مصدر قلق لدول العالم، وهو ما سعت أمريكا لاستغلاله آنذاك في تضييق الخناق السياسي والاقتصادي ضد الاتحاد السوفياتي.
الحرب الروسية الأوكرانية في العقلية السياسية الأمريكية كان يراد أن تخلق تحولاً باتجاه ترتيب النظام الدولي الجديد وفق ما يخدم الولايات المتحدة ويضيق الخناق على روسيا ويعطي للولايات المتحدة الكثير من الأوراق التي تخدم تعزيز قوتها في المنظومة العالمية والتي تمكنها من الانفراد بالصين، ولكن النتائج السياسية والاقتصادية التي تؤكد أن روسيا لم تخسر كثيراً وأن العقوبات التي تريد منها أمريكا "تدمير الاقتصاد الروسي في نهاية المطاف" فشلت في تحقيق مبتغاها، تؤكد بأنه لا مجال لإعادة تشكيل النظام الدولي الجديد وفق الرغبة السياسية الأمريكية، والتي تطمح لإخراج روسيا من المعادلة السياسية والاقتصادية للنظام العالمي الجديد للانفراد بالصين.
ليفانت – خالد الزعتر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!