الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الحوكمة في الشرق الأوسط ما بعد أزمة كورونا
داليا زيادة

سوف يذكر التاريخ أن عام ٢٠٢٠، عام جائحة فيروس كورونا، كان من أصعب الأعوام في تاريخ البشرية، بعد الطاعون الأسود في العصور الوسطى والحروب العالمية في القرن العشرين. لكن، على مدى الألفية الماضية، تصدت العبقرية البشرية للعديد من الأزمات العالمية وحولتها إلى فرص، وهذا الوباء هو حالة لا تختلف كثيراً عن ذلك، حيث بدأت بالفعل العديد من التغييرات الإيجابية على جوانب مختلفة من الحياة تتبلور في صورة فرص خلقتها محاولات البشر للبقاء على قيد الحياة في مواجهة ذلك الفيروس المجهري القاتل.


 


يسرد هذا المقال عدد قليل من الطرق التي غيرت بها أزمة فيروس كورونا، بشكل إيجابي، ديناميكيات الحوكمة، والتفاعلات بين السلطة السياسية والاجتماعية، في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كمثال على ذلك.


 


للحد من انتشار فيروس كورونا، كان لزاماً على كل دولة إغلاق حدودها وعزل نفسها عن بقية العالم، مع فرض حظر تجول محلي أو إغلاق كامل. وبالتالي، وجدت كل حكومة، في كل بلد، نفسها مجبرة على مواجهة الأزمة بمفردها في معركة صعبة لإنقاذ حياة الناس، مع الحفاظ أيضًا على اقتصاد مستقر ونظام حكم ثابت. ومن المفارقات أن الحكومات غير الليبرالية وغير الديمقراطية هي التي كان أداؤها أفضل في هذه المعركة. ربما، لأن هذه الحكومات تتمتع بسيطرة أقوى على شركات القطاع الخاص والمواطنين الأفراد ومعظم ثروة البلاد تحت سيطرة الحكومة.


 


لكن في خضم المعركة التي قادتها الحكومات ضد فيروس كورونا، حدث إعادة تعريف أو إعادة صياغة لشكل وتفاصيل العلاقة بين المواطن والدولة في دول المنطقة، بطريقة قد تؤثر إيجابياً على المستقبل السياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إن لم يكن على العالم بأسره. ويمكن تلخيص علامات هذه العلاقة الجديدة فيما يلي:


 


أولاً: أصبح المواطنون أكثر نشاطاً في سد الفراغ في الخدمات التي تقدمها الحكومة، بدلاً من التذمر من فشل الحكومة أو مجرد انتظار الحكومة لإصلاح أجهزتها وخدماتها.


 


ثانيًا: أصبحت منظمات المجتمع المدني أكثر انخراطًا مع المواطنين على مستوى القواعد الشعبية في القضايا ذات الصلة المباشرة بتحسين نوعية حياتهم، مثل الإصلاح الاقتصادي والرعاية الصحية. في السابق، كانت منظمات المجتمع المدني، وخاصة في بلدان الربيع العربي، تركز في الغالب على الحقوق السياسية والحريات المدنية. ونتيجة لذلك، اعتبرتهم الحكومات جماعات مزعجة من السياسيين المتخفيين في رداء المجتمع المدني، واعتبرتهم القاعدة الشعبية بمثابة النخبة المنفصلة عن الواقع. لكن الآن، فقد ساعد الدور المتزايد للمجتمع المدني بعد الوباء في تغيير هذه الصورة. على الأقل، غير من الطريقة السلبية التي تنظر بها الحكومات العربية، في أغلبها، إلى منظمات المجتمع المدني، وبدأوا في رؤيتهم كشركاء أساسيين في إعمار الوطن وخدمة المواطنين، وليس مجرد مجموعة من النشطاء السياسيين المثيرين للإزعاج.


 


ثالثًا: أعادت أزمة فيروس كورونا تحديد الطريقة التي يعرّف بها مواطنو وحكومات المنطقة مفاهيم حقوق الإنسان وطريقة تناولها، فمنذ ثورات الربيع العربي، التي اندلعت في عام ٢٠١٠، كان التركيز دائماً على الحقوق السياسية والمدنية باعتبارها قضايا حقوق الإنسان العالمية العابرة للدول. وفي المقابل، كان يُنظر إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مثل الرعاية الصحية والتعليم والسكن) على أنها قضايا داخلية يجب على كل دولة العمل على إصلاحها بمفردها. ولكن بسبب الوباء، أصبحت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الآن قضية حقوقية عابرة للحدود أيضاً، وأصبحت البلدان حريصة على التعاون فيما بينها لتطويرها، مثلما شهدنا على سبيل المثال في تبادل المستلزمات الطبية والتكنولوجيا الطبية بين الدول في الأشهر القليلة الماضية.


 


رابعًا: أعاد الوباء تحديد دور الجيش داخل الحكومة المدنية، وجدد النقاش القديم حول “الدور غير التقليدي” (الدور السياسي والاقتصادي) للقوات المسلحة داخل الدولة المدنية. حيث أنه ولفترة طويلة، تعرض الاستقلال الاقتصادي للقوات المسلحة، في مصر على سبيل المثال، لانتقادات شديدة بدعوى احتمالية تأثيره سلبياً على المنافسة في السوق وتقليص الفرص المتاحة للقطاع الخاص للنمو من خلال اقتصاد السوق المفتوح. لكن الوباء وضع هذه الحجة تحت الاختبار العملي، فمنذ بداية أزمة فيروس كورونا في مصر، على سبيل المثال، تردد القطاع الخاص في مساعدة الحكومة في إدارة الأزمة، بل إن كثير من شركات القطاع الخاص تعمدوا استغلال حالة الذعر بين المواطنين تجاه الفيروس المستجد، وحاولوا زيادة أرباحهم من خلال ممارسة احتكار السلع الغذائية والطبية الأساسية. في تلك اللحظة، تدخلت القوات المسلحة والمصانع الغذائية والطبية التابعة لها لتقديم “ترتيب موازٍ” جاهز لتلبية احتياجات الناس، وبالتالي أجبرت القطاع الخاص على التعاون ووفرت الحماية الاقتصادية اللازمة للمواطنين.


 


خامساً: ساهمت جائحة فيروس كورونا في رفع قدرة الحكومة في مجال استخدام تكنولوجيا المعلومات، فقد أدى الوباء إلى تسريع وتيرة التحول التكنولوجي للخدمات العامة والمؤسسات التابعة للدولة. في مصر، على سبيل المثال، شهدنا ثورة تكنولوجية في قطاعي التعليم والقضاء، كما تم استخدام أدوات تكنولوجيا المعلومات بشكل مكثف من قبل المرشحين للانتخابات البرلمانية لإدارة حملاتهم الانتخابية والتواصل مع ناخبيهم المحتملين، وقد ساهم هذا بشكل غير مباشر في الحد من الممارسات الفاسدة التي تحدث عادة خلال التجمعات العامة قبل الانتخابات للتأثير على الناخبين وشراء أصواتهم.


 


إن الملاحظات القليلة المذكورة أعلاه هي دليل على أن جائحة فيروس كورونا قد غيّرت بشكل إيجابي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والعالم بأسره، في اتجاه يحمل الكثير من الخير والأمل في المستقبل، على الأقل في قطاع الحوكمة وعلى مستوى العلاقة بين الدولة والمواطن. إلا أن التحدي التالي الذي سيواجهنا فيما بعد انقضاء أزمة كورونا هو كيفية الحفاظ على هذه التحولات الإيجابية والبناء عليها.




ليفانت _ داليا زيادة

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!