الوضع المظلم
الخميس ٢١ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
السوريون بين الرأي والرأي الآخر
رانيا حلاق


كانت أمي كجميع  الأمهات في سوريا تذكرنا بشكل دائم أن لا نذكر اسم الرئيس حافظ الأسد أو نتحدّث عنه أمام الأصدقاء أو الغرباء، هذا التذكير كان له أسبابه، وهو الخوف الدائم الذي تشكل عبر السنوات عند السوريين منذ استلام حافظ الأسد للسلطة عام 1971. السوريون 


خلال فترة حكمه، كان يتناقل بشكل سري بين الناس القصص الكثيرة عن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين الذين تعرّضوا للاعتقال والتعذيب، واحتُجزوا بمعزل عن العالم الخارجي من عدة أشهر إلى سنوات دون تهمة أو محاكمة. كان الاعتقال السياسي جزءاً أساسياً من حملة ترويعية، قادتها أجهزة أمنية، هدفت إلى سحق أي تحدّ لنظام الأسد، من وجوه الحملة تلك أيضاً احتلال كثيف لعناصر أمنية وعسكرية للشوارع والجامعات، وحضورهم البارز في الحياة اليومية لعموم الناس، وانتشار الوشاية و”كتابة التقارير”، والاستدعاءات الأمنية، والاعتداء على الناس في الشوارع لترهيبهم ونزع فكرة المشاركة في الشأن العام من أذهانهم. نتيجة الحملة تلك لم يعد في سوريا أحزاب سياسيّة أو جمعيات أو أنشطة ثقافية أو طلابية، وتدنّت نوعية ما هو موجود لغياب المنافسة ودافع تطوير الذات.


في أواخر الثمانينات، كان المجتمع السوري قد أنهك تماماً، فبفعل حملات اعتقال استنزافيّة دامت طوال العقد، والاختراق الأمني العميق للمجتمع، أصبح منهكاً ومستسلماً وتسوده حالة من الشك وفقدان الثقة بالآخر، حتى كانت عبارة “للحيطان آذان” متداولة ضمن العائلة الواحدة للتحذير من العناصر الأمنية. هذه المرحلة التي كنّا نعيشها شكّلت ثقافة قائمة على الخوف من الآخر، وعزّزت الكراهية وتشكيل الأحكام المسبقة بين فئات المجتمع السوري المختلفة ثقافياً.


بعد مضي تسع سنوات على الثورة السورية، تظهر خطابات الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل واضح وكبير، بادعاء البعض امتلاك المعرفة المطلقة أمام الآخرين، مما يدفعهم إلى إقصاء كل من يخالفهم الرأي والتمسك الأعمى بأفكارهم وثقافتهم ومعتقداتهم ومقاومة أي تغيير في الذهنية الثقافية. أيضاً هناك من يستخدم المنصّة لبثّ المنشورات التحريضية ضد شخصيات أو طائفة أو قومية معينة، وهذه المنشورات لها تكتلات (شلل) تتابعها وتدعمها.


ما يلفت الانتباه، أيضاً، هو حالة التنمّر الجماعي على مواقع التواصل الاجتماعي ضدّ أيّ شخصية تطرح مواضيع حساسة، كالدين أو حقوق المرأة أو العنف المنزلي أو انتقاد العادات والتقاليد، هذه المواضيع التي تطرح بهدف الحوار وتبادل الآراء والأفكار والتجارب والخبرات كي تعم الفائدة على الجميع، ولكن ما يحدث هو رفض تام لأي نقاش واعتبار الرأي الآخر هو منافسة ومواجهة، وكأنّنا في حلبة مصارعة، الهدف منها فقط هو الانتصار والإفحام، ويعود هذا برأيي إلى أنّ الشخصية السورية لم تحظَ بأبسط حقوقها وهي حرية الرأي والتعبير، هذا الحق الذي تعتبره الدول المتحضرة من الحقوق الأساسيّة للإنسان، بينما في سوريا تربت أجيال على الإقصاء والرأي الواحد ولم يتم تلقينهم كيفية فن الحوار وتبادل الأفكار.


يتشكل الرأي عند المرء وينمو من خلال المعرفة والثقافة والاطلاع والتجارب الحياتية والعيش في بيئة توفر له حرية الرأي والتعبير، فثقافة الرأي والرأي الآخر تعني أن يقوم الإنسان باحترام أيّ فكرةٍ مخالفةٍ لفكرته الأساسيّة، والاستماع إليها بشكلٍ كامل، ومن ثم مناقشتها بكل موضوعيةٍ وحيادية، في جوّ من الهدوء ورحابة الصدر، دون التحيّز لرأيه الشخصي، وفرضه بالقوّة على الطرف الآخر، وبالتالي فمن تسطيح الأمور وتبسيطها القول بضرورة احترام الرأي الآخر فقط إذا كان قريباً منا أو متفقاً معنا، بينما المسألة في حقيقتها هي التعاطي مع الرأي الآخر واحترامه أساساً عندما نعتبره مختلفاً وخاطئاً، وهكذا يتطوّر الإنسان، ويرقى نحو الأفضل.


يلمس اليوم أيّ مراقب للحالة السورية شدّة ضعفها ومدى الانحسار الذي أصابها بسبب استمرار التضييق على حق الرأي والتعبير، وبسبب نشر الخوف التقليدي من أخطار النقد والاختلاف، مما يستدعي تأسيس وبناء قواعد أخلاقيّة جديدة لمفهوم الرأي والرأي الآخر، بعيداً عن السيطرة والوصاية الفكرية وقتل روح التجديد والمبادرة. هذا الأمر يتطلب بداية نقد الذات كضرورة لا مفرّ منها لتنظيف البيت من الفكر الإقصائي، والتدريب على تقبل الآخر والإيمان بحقوقه المكافئة لحقوقنا، والتي تعني الاعتراف به بوصفه إنساناً جديراً بالحياة والاحترام التام، بغضّ النظر عن لونه وجنسه وعرقه ومعتقده.


وهنا أذكر مقولة للفيلسوف البريطاني “جون ستيوارت ميل” عن أهمية حرية الرأي والتعبير “إذا كان كل البشر يمتلكون رأياً واحداً، وكان هناك شخص واحد فقط يمتلك رأياً مخالفاً، فإنّ إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة”.  السوريون 


ليفانت – رانيا حلاق








 




كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!