-
السوريون وعصا فرويد السحرية
"أنا مكتئب، أحتاج لطبيب نفسي يتحدث العربية !" ، "أنا أملك عمل، ومنزل، وأولاد، لكنني أشعر بحزم غامض لا أفهمه، هل تعرفون اسم طبيب نفسي سوري في ألمانيا، السويد..؟" " أنتم تعيشون في أوربا، في أمان اقتصادي وبعيداً عن الحرب، وتتحدثون عن الاكتئاب والانتحار، نحن نحلم بالفرار إلى أوربا والخروج من الجحيم السوري، أنتم لا تقدّرون نعمة الخلاص من الحرب..."، ترد هذه العبارات والعشرات بل والمئات المماثلة لها، على أسنة السوريين الهاربين من جحيم الحرب، والتي تدور جميعها حول النقطة المحورية ذاتها : سوريون في أوربا، يشعرون بالأمان الواقعي، ولكنهم غير سعداء، حزينون وخائفون ويشعرون بالفراغ الداخلي ويفكر بعضهم بالانتحار، فيأتي إلى مواقع التواصل طالباً العون، مستفسراً عن اسم أو عنوان طبيب نفسي، بل غالباً سوري. كأن هذا الطبيب، يملك عصا سحرية، ما إن تمس أحد هؤلاء ،حتى ينطلق في الحياة بشغف متخلصاً من كآبته الغامضة.
ما لا يعرفه أغلب هؤلاء، أن التحليل النفسي، ليس قرصاً نتناوله قبل الطعام أو بعده، فنتحول فجأة إلى كائنات سعيدة. بل هو طريق طويل وشاق وفردي، وهذه الكلمة الأخيرة " فردي" هي التي يتوجب التوقف أمامها طويلاً، لأن التكوين الفردي لكل شخص، يختلف عن غيره، وكل كائن بشري لديه خارطته النفسية الخاصة به، والتي هي مجمل تاريخه الشخصي وخبراته والأحداث التي جرت معه.. لهذا، فإنه من الصعب أن ينطبق التشخيص ذاته على كائنين، مهما تماثلت الأشكال الخارجية لمعاناتهما.
لتبسيط الأمر، وتجنباً للغوص في عالم التحليل النفسي، الذي تملأ كتبه شبكة الانترنت، ويمكن قراءة الكثير عنه، من أعمال فرويد ويونع وإدلر .... فإن المقصود هنا، إيجاد بعض المفاتيح الشخصية ـ الفردية، للناجين السوريين، وهذا الكلام لا يتعارض مع فكرة خاصية كل ناجي، الذي عليه أن يشتغل على أدواته الخاصة، ولكن يمكن استخراج خطوط عامة رئيسية تتسبب في هذه التجربة الجمعية..
يشبه الأمر مثلا موضوع اليتم. حيث كتب رولان بارت " الكتابة في درجة الصفر"، عن تجربة الحداد إثر فقدانه لأمه. تجربة بارت، تختلف في تفاصيلها الفردية بشدة، من شخص لغيره، لكن الإطلاع عليها، قد يساعد،على الخروج بوصفة مماثلة، ولكن تنطبق على الشخص الآخر: الذي يقرأ بارت..
يمكن وصف هذا الأداء بالتفكير المعادل أو الموازي : أنا فقدت أمي، هل شعرت بما شعر به بارت؟ أين أتفق معه، وأين أختلف... يمكنني عبر تأمل تجربة بارت، الوصول إلى تفاصيلي الشخصية، بهذا يمكننا الاستفادة من تجارب الآخرين، دون الوقوع في فخ التعميم ولا التماهي، أي أن ما يشعر به شخص ما، اتجاه حدث ما، يختلف في درجات التعاطي معه وأشكالها، بين الآخرين الذين يتعرضون للموقف ذاته.
المثال السوري: الجثة التي تلاحقنا.
في تحديد الكلام أكثر، فإن معادل تجربة موت الأم في المثال السابق هو " النجاة من الحرب" في الحالة السورية، مع ما يرافق هذه النجاة من آثار غامضة يتجلى أبرزها في الشعور بالذنب.
سوف أستخدم كلاماً للكاتبة السورية عبير أسبر، ورد في أحد بوستاتها على الفيسبوك، والذي ردّني إلى متلازمة" حقنة إيرما "لدى فرويد ،و شعوره بالذنب إثر حقنه لإيرما في الحلم ...
تقول أسبر : أحلم دوماً أنني قتلت أحدهم، وأنا وحدي من يعلم بذلك،لكن معرفتي تلك تخلق رعبا كافيا كي لا أستعيد حياتي كما كانت، كي أفقد النوم تماماً وأهرب منه إلى الحياة حيث لم أقتل أحداً. إنه كابوس فعلاً، هل من طريقة للتخلص من ثقل جثة أنا وحدي من أوجدها، أنا وحدي أعلم مافعلت بها.
العبارة المفتاحية لهذا الإحساس هي " أنا وحدي أعرف" ، حيث تكمن كل الأسرار هنا. الشخص الذي يعاني من أي عرض نفسي، هو وحده، من يعرف تفسيره، لأنه عاش حدثاً، تحوّل إلى شيفرات ، استقرت في العقل الباطني، وراحت تحاول الاحتيال في الظهور بمناسبات غير مفهومة، على أشكال اكتئاب أو تفكير بالانتحار أو شعور بالذنب..
هذا لا يعني أبداً الاستهتار بأهمية العلاج النفسي، ولكن المقصود، أن هذا العلاج لا يمكن أن يحصل، إلا بمساعدة الشخص المُحتاج للعلاج، لأن المعالج لا يملك عصا سحرية، وليست لديه وصفات مسبقة للعلاج، بل أهمّ ما يقوم به، هو مساعدة الشخص لفهم نفسه والدخول إلى بواطنه. أي أن التحليل النفسي هو بمثابة المصباح الذي يضيء لك طريقك صوب ذاتك، لكن ذاتك هذه، لا يعرفها سواك!
الذنب الذي لم نرتكبه:
وبالعودة إلى الحالة السورية، فإن عدم حسم الصراع ، وصعوبة توقع ما يمكن حدوثه، وما قد يؤثر على أوضاعنا في المنافي، يهدد الشعور بالاستقرار، والنجاة من " الذنب" ، لأن الجثة لم تُدفن بعد، ولا تزال سيناريوهات الدفن أو الإعادة إلى الحياة أو حتى المحاكمة والمحاسبة مفتوحة.. وهذا ما يخلق الشعور غير المفهوم بالقلق الدائم وعدم الاستقرار، والذي يتّخذ أشكال الحزن أو الخوف المسبق، في تهيئة النفس لأسوأ الاحتمالات..
ربما ينبغي التوقف أمام كلمة" الذنب" تلك التي تحرّك لاحقاً فكرة المسؤولية. غالباً، مشاعر الحزن المبالغ بها، والتي لا تتطابق مع واقع مريح وآمن، مردّها إلى الإحساس بالتخلي عن أشخاص أو عن أحداث أو عن أمكنة، بل ربما عن تاريخ برمته، تركه اللاجئ السوري إلى الغرب، فتجتاحه مشاعر الكراهية غير الواضحة صوب نفسه، ويبدأ بعقاب ذاته، عبر فعل الاكتئاب..
هذه لمحة سريعة، لتوصيف أحد تجليات الحزن السوري الجمعي في المهجر، لمحاولة التسلل صوب الفوارق الشخصية، وتحليل الوضع الفردي لكل شخص، ليغرق في تحليل حكاياته التي لا يعرفها أحد غيره، وفكّ تشفير مشاعره، مع التذكير، أن تعقيدات النفس البشرية، من الصعوبة بحيث لا يستطيع العقل الواعي دائماً اكتشاف وصفات الألم وأسبابه. هذا يستغرق وقتاً طويلاً، وجهداً شخصياً ،لفهم الذات وعلاجها..
مها حسن
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!