الوضع المظلم
الأربعاء ٢٥ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • السويداء في المعادلة الوطنية

  • الخصوصية والفراغ السياسي والاستقطاب المتباين
السويداء في المعادلة الوطنية
السويداء في المعادلة الوطنية

لا توجد نظرية اجتماعية أو سياسية خاصة بمجتمع الموحدين[1]، العشيرة المعروفية المكناة خطأ وغبناً بـ"الدروز"[2]، وهم سكان جبل العرب[3] في محافظة السويداء في سوريا. فرغم خصوصية وضعهم وبعض صفاتهم المختلفة عن محيطهم العام، إلا أنهم من نسيج هذا التاريخ الثقافي والديني والسياسي والاجتماعي في هذه المنطقة، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم من إيجابيات أو سلبيات.

الموحدون "الدروز"، وإن كان لهم الكثير من الأحداث والأفعال المختلفة بالطريقة والأداء طوال أحد عشر عاماً من عمر المسألة السورية وثورتها الكليمة، لكن لليوم ليس لهذا المجتمع الأقلوي حل سياسي مستقل أو منفرد في محافظة السويداء، بحكمٍ أو إدارةٍ ذاتية أو دويلة درزية طائفية كما تريده بعض شبهات المشاريع دون الوطنية. ومن الصعوبة بمكان تحميل السويداء بسكانها ذوي الأقلية الدينية والعددية السكانية أعباء مواجهة كبرى مع السلطات السورية، كما يرغب بعض المنظرين "السياسيين" والمتحمسين "الثوريين". كما لم تخضع السويداء كلية لحكم السلطة القائمة وأجهزتها الأمنية كما يخطط لها ساسة الأمر الواقع في السياسة السورية المحلية، سواء كانوا سوريين أو متشاركين مع الميليشيات الأجنبية الخارجية، خاصة الإيرانية. ولليوم الفراغ السياسي عنوان بارز ويطفو على جميع الأوهام الأخرى في السويداء. فهل يمثل حلًا لها أم ثمة ما يمكن أن تحدثه السويداء من أثر هام في المعادلة الوطنية السورية مستفيدة من جُماع تناقضاتها المحلية والاستعصاء السوري العام؟

السويداء ليست استثناءً سورياً، بل هي كأي رقعة في سوريا، تجدها تغرق في مشاكلها الداخلية ومفارقات الحياة اليومية واضطراب المصالح والآراء فيها، مع كثرة في المشاريع الواهية التي لا تجد مقوماً اقتصادياً أو اجتماعياً لها. فتجد بها كل صنوف البشر ونماذج وطباع حياتهم المختلفة. رغم أنهم جماعة اجتماعية ذات منشأ عروبي عشائري موسومة بالأقلية الدينية، يعتقد المراقب الخارجي أنها على خط واحد سياسي، فيما الواقع يقول إنها ليست كذلك. السويداء بعمقها الديني ترتاب إزاء المختلف عنها دينياً بحكم فتاوى التكفير[4] المتطرفة تاريخياً، ومصدرها ابن تيمية، والتي عززتها هجمات داعش الإرهابية 2018[5]، ولليوم غير مندمجة سياسياً لا مع السلطة القائمة ولا مع المعارضة السورية. السويداء ورغم أنها بيئة منفتحة ثقافياً وفكرياً، وتختزن إمكانيات إبداعية فنية وأدبية واسعة نسبة لعدد سكانها، إلا أنها بذات الوقت بيئة اجتماعية مغلقة على عرفها وعاداتها الموروثة عشائرياً، فتتكاثر فيها الإشاعة وتتناثر فيها الأخبار الصغيرة، كما الكبيرة كما تسري النار بالهشيم، ما يجعل سياق أحداثها أكثر إشهاراً من غيرها، فتبدو وكأنها ذات سمات خاصة.

كما كل السوريين اليوم، "الدروز" أكثر انكماشاً دينياً لكنها أكثر تماسكاً مجتمعياً، لا تمتلك مشروعاً سياسياً، ولا يمكن الخلط فيها بين البيئة الثقافية المنفتحة مدنياً وبين المشاريع السياسية الضحلة التي تمر على المنطقة بعمومها، وسوريا خاصة. وأيضاً، ورغم أنها لا تفرض دينها على أبناء جلدتها فمن آمن فهو "عاقل" ومن لم يؤمن فهو "جاهل"[6] لكنه ابن هذه الأقلية أيضاً.

الأقلية المعروفية التي تدين بمذهب العقل ذي المرجعية الصوفية تفسيراً زمنياً وحكمةً دينية، تنبذ القتل وسفك الدماء إلا دفاعاً عن "الأرض والعرض" حين تستعصي الحلول العشائرية والعقلية المتعارف عليها. فرغم حيادها العام من إراقة الدم السوري وعدم دخولها في أتون معاركها، لكنها لم تزل تعاني بسوادها العام انعدام سبل المعاش الاقتصادي والمالي، مع إصرار السلطة القائمة، والمحاور الدولية والإقليمية على تهميشها من خارطة الفاعلية السورية.

يمكن القول إن للسويداء خصوصية دينية ومدنية نسبية، ولكنها ليست ذات خصوصية سياسية. السويداء ذات بيئة فقيرة اقتصادياً ومادياً، ولكنها ترفض الانجرار للتبعية والذيلية في المعادلة السورية أو الإقليمية. وهي نقطة تحول ممكنة في المعادلة الوطنية السورية. وإمكانها يأتي إذا ما تبدلت طرق التعامل معها من الاستنكار والتبعية إلى الاعتراف بموضوعية تموضعها الأهلي والاجتماعي والثقافي وموقعها الجغرافي، ولكنها لليوم نقطة استعصاء عمومي لا تجد بها حلًا مكتملاً اقتصادياً أو سياسياً.

 

هدف الدراسة وسؤالها الاستقصائي

لا تحتمل الدراسة أدناه افتعال الأحداث أو تخيلها. كما عدم البناء على الأفكار والمشاريع المتوهمة. بل تذهب باتجاه تحديد المعطيات الاقتصادية والسياسية والأهلية الاجتماعية للسويداء في المعادلة الوطنية السورية. غايتها الوصول لجملة من المحددات الإيجابية والسلبية إزاء الاستقطاب المتباين بينها وبين السلطة القائمة والمشاريع الإقليمية الأخرى. بحيث يمكن أن تحدد معطيات ونتائج هذه الدراسة السبل التي يمكن أن تساهم بها السويداء في دفع المعادلة السورية في التغيير السياسي المطلوب والممكن، كحل لسوريا عامة، سلطة ومعارضة، أكثرية وأقلية، حل عنوانه:

حياد الدولة إزاء كل مكوناتها السياسية والدينية والثقافية، دولة لكل السوريين، المواطنة المتساوية حقوقياً والحقوق الإيمانية المتوازية -تلك التي سيتم تناولها في بحث معرفي مختلف آخر- مختلف عن الاستبداد السياسي والديني القائم لليوم، وهذا معترك وصيرورة سورية كبرى.

أولاً: المعطيات والأحداث الراهنة

رغم الحياد العام لأبناء السويداء المعلن منذ 2011 من الحدث السوري، الحياد الذي افترضته مرجعيتها الدينية بخيالها الجمعي المتوارث تاريخياً، أن حرباً دينية شيعية سنية هي محرك الأحداث السورية، وأن "الدروز" لا ناقة لهم ولا جمل بها؛ إلا أنّ السويداء لم تكن على الحياد المطلق بل شهدت سلسلة من المظاهرات السلمية والحركات المدنية منذ 2011، ولم تنقطع لليوم. فقد شهد عامي 2021/2022، وخلاف معظم المناطق السورية، مظاهرات شعبية واسعة كان آخرها بداية عام 2022 بعناوين متعددة: "بدنا نعيش"، "نحنا بدنا سورية"، "هنا السويداء هنا سوريا"[7].

رغم حيادها عن الحدث العسكري والعمليات الحربية التي اجتاحت غالبية الساحة السورية، إلا أن أبناءها تخلفوا عن الخدمة العسكرية النظامية بنسبة شبه عامة [8].

رغم تشكيلها فصائل الحماية الذاتية من أبنائها تحت عنوان حماية الأرض والعرض، بدءاً من حركة مشايخ الكرامة عام 2013 والتي تحولت لحركة رجال الكرامة[9]، وتكاثر الفصائل فيها متعددة الأوصاف والتبعية، إلا أنّها لليوم لم تشكل جسماً عسكرياً موحداً كقوات سورية الديموقراطية الكردية "قسد" أو ما يسمى بالجيش الوطني في إدلب. كما ورفضت الانصياع للمصالحات التي قادتها روسيا في كل الأرض السورية، كان أهمها رفضها، خاصة حركة رجال الكرامة أن تمسك بزمام السلطة المحلية بالسويداء بعرض روسي مغري، كجيرانها في درعا، خاصة بصرى الشام[10]، الموقف الذي كلفها هجمات داعش 2018 بغية إخضاعها بالقوة العسكرية المباشرة بتواطؤ أمني عسكري روسي مع سلطة النظام القائم.

تعرضت السويداء لاجتياح عصابات الخطف والنهب والسرقة والقتل ومن أبناء جلدتها طوال سنوات عدة، حتى باتت منطقة غير آمنة على حياة أبنائها أو أي قادم إليها من خارج المحافظة. ومع هذا، وبدءاً من العام 2021 رفضت حكم ميليشيات الخطف والسلب والنهب وتجارة المخدرات وتبعيتها للأجهزة الأمنية. فبدأت باجتثاث تلك العصابات بداية صيف 2021 من مدينة شهبا[11]، وصولاً لاجتثاث أسس المشروع الإيراني الذي مثلته "حركة قوات الفجر" وأتباعها منتصف 2022[12]، والتي أثبتت الوقائع حيازة أفراد جميع هذه العصابات لا على المخدرات ومعاملها[13] وحسب، بل على المتفجرات المحظورة دولياً والتي لا تسوقها إلا الدول والجهات الارهابية كـ:TNT  والـ C4 والتي عرضها ووثقها الأهالي[14]. وأثبتت أيضاً تبعية أفراد هذه العصابات بما لا شك فيه لأجهزة أمنية متعددة، أهمها شعبة المخابرات العسكرية، من خلال البطاقات والمهمات الأمنية التي وجدت بحوزتهم[15]، هذا عدا عن عدد السيارات المسروقة التي يتم بيعها في درعا المجاورة، أو تجارة تلك المعروفة بـ"اللفة"، التي فند سلسلة أحداثها أحد متزعمي تلك العصابات مما يسمى قوات "الفهد"[16].

رفض الفلتان الأمني الممنهج وسياسة إفقار وتجويع الناس والفساد الحكومي القائم، وما ينتح عنه من تضييق على سبل الحياة ومعاش الناس ودفعها لبيع ممتلكاتها والبحث عن سبل الهجرة لأي مكان في العالم، دون أية حلول ترجى من السلطة القائمة.

كما أثبت الواقع الأهلي رفضه المطلق للتواجد الميليشوي العسكري والأمني بين المدنيين، ورفض الانجرار خلف المشاريع المشبوهة لها، وعدم قبول المجتمع المحلي لميليشيات الخطف وكتائب الدفاع الوطني المرعية من الأجهزة الأمنية والداعم الإيراني وتغليب سياسة المشاريع والأجندات الخارجية.

التمسك بالدولة ومؤسساتها والتفريق بينها وبين سلطة النظام وأجهزته الأمنية. فرغم إدراك الواقع الشعبي لمدى تغلغل هذه الأجهزة في مؤسسات الدولة وإفسادها وتفريغها من محتواها القيمي كدولة وتسليط الفاسدين والمرتشين عليها، وعملهم ضد مصالح الناس في كل المجالات، إلا أن الواقع الشعبي لم ينجر لليوم لمواجهة مباشرة معها. بل أثبتت الوقائع السعي الحثيث للتعقل في المواجهات العسكرية التي نشبت، وتغليب دور الوساطات الدينية والأهلية مع المتعاملين أمنياً من أبناء المحافظة، قبل الوصول لاجتثاثهم عسكرياً وبالقوة. مع عدم افتعال أي صدام مع أجهزة ومؤسسات الدولة لليوم.

لليوم ورغم تعدد منابرها السياسية بين معارضة متعددة المشارب وسلطوية بعثية وجبهوية، لكن منتجها السياسي العام صفري النتيجة. وأي حدث يتم تحريكه في السويداء يخضع شعبياً للامتصاص الأهلي وتفريغ مضمونه من الصدام العام، أضف لعدم الانجرار لأي مشروع منفرد معارض أو سلطوي ما يجعل الفراغ السياسي سمة عامة والأبرز لليوم.

عانت هذه الأقلية التهميش الوظيفي والسياسي والاقتصادي التاريخي منذ العام 1966[17]، وزادت في الآونة الأخيرة الضغوط الاقتصادية عليها، خاصة وانها لا تملك معبراً حدودياً ولا مشاريع تنموية محلية، واعتماد سكانها على الراتب الوظيفي والزراعة البعلية. ولولا وجود أبنائها المغتربين الذين وصلت نسبتهم لما يقرب 50% الذين يساعدون أهاليهم بالداخل لفرغت المحافظة من سكانها. هذا إضافة لمحاولات عدة لجرها للدخول في معترك المقتلة السورية، أو الاقتتال الداخلي فيما بينها، لكنها برهنت طوال السنوات العشر الماضية أن لها طريقتها المختلفة في علاج أحداثها. فهل يمكنها الثبات والاستمرار وفق معطياتها هذه أم أن لخصوصيتها التاريخية طريقة أخرى في علاج مشاكلها؟ وهل يمكن للفعل السياسي القادر على قراءة معطياتها الاجتماعية أخذها لموقع الفاعلية الملزمة في المسألة السورية؟ وهل هذا الفعل مقصور على أبناء السويداء وحسب أم على الوطنية السورية عامة، والمغيبة لليوم عن المشهد السوري، خاصة في سنواته وحداثه الأخيرة؟

ثانياً: الوضع الاقتصادي والجغرافي تهميش حكومي وتجاهل من مبادرات التعافي

الإهمال والتهميش المتعمد من السلطة السورية التاريخي لمحافظة السويداء، وتجاهل المبادرات الدولية الحالية من خلال موضوعات التعافي المبكر التي خصت استثناء مناطق شرق الفرات السورية من عقوبات قانون قيصر[18]، يضع السويداء أمام سلسلة من الأسئلة عليها الإجابة عنها، خاصة وأن لا حل عام مطروح لليوم في المسألة السورية.

فرغم أن اليونسيف حددت أن 40% من البنية التحتية السورية مدمرة[19]، ورغم أن محافظة كالسويداء لم تحدث بها عمليات عسكرية واسعة كباقي المحافظات المتضررة بفعل العمل العسكري، ولم تطالها يد الدمار تلك، إلا أنها تعاني من أزمات خانقة في واقعها الاقتصادي والمعاشي وبنيتها التحتية، تتمثل بشكل رئيس في قطاعات الري ومياه الشرب والطاقة والكهرباء والزراعة والتعليم والصحة والطرق، والتي تشكل بمجموعها العام معادلات الاستقرار الآني والمستقبلي.

السلطة السورية في موازنة عام 2022، أقرت الميزانية لدعم المستهلك والإنفاق الجاري بقيمة 133250 مليار ليرة منها 2000 مليار فقط للاستثمار، أي إن نسبة 85% للإنفاق من الميزانية، فيما بلغ العجز الإجمالي 4118 مليار ليرة[20]. ما يشير أولياً إلى أن اهتمام الحكومة الأولي بعيد كلياً عن ترميم البنية التحتية المادية المدمرة، وذلك بانتظار ما ستفرج عنه من أموال إعادة الإعمار حسب ما تفترضه، فيما أن اهتمامها الأساسي هو ثبيت الوضع المعاشي للمتبقي من السوريين في الداخل السوري بالحد الأدنى من الكفاف والتحكم والضبط، خاصة للموظف الحكومي الدليل الوحيد الباقي على وجود مؤسسات للدولة، كما كنا قد فصلناه في دراسة موسعة حول البطاقة الذكية في مركز أسبار[21] حيث إن الوضع الاقتصادي السوري العام ذاهب للانهيار شبه الحتمي.

محافظة السويداء تكاد تفتقر للموارد الاقتصادية وللمشروعات التنموية، واعتمادها الرئيس على الزراعة البعلية، وتعاني من أزمات لا تنتهي، سواء بانحباس وقلة الأمطار الأعوام السابقة، وما طال قمحها من حرائق مفتعلة، وفقدان المحروقات ومادة المازوت التي تحدّ من زراعة أرضيها بشكل عام. أضف لانقطاع التيار الكهربائي الكبير، ما يؤثر على تأمين مياه الشرب لكونها تعتمد على الآبار الارتوازية، هذا مع سوء عام في الطرق وتراجع كبير في القطاعين الصحي والتعليمي. فيما أن بوادر عمليات الاستقرار واقتصاد التعافي التي طرحته الإسكوا، وبُدء البحث في آليات تنفيذه مؤخراً من خلال مؤتمري بروكسل واستكهولم 2022 لم تدرج السويداء في قوائم عملها.

البنية التحتية والوضع المعاشي العام في السويداء وعموم المنطقة الجنوبية ينذر بالجفاف وفقدان موارد الحياة الرئيسة، وعمليات التحطيب الجائرة للبنية الحراجية برعاية الأجهزة الأمنية، والإهمال المتعمد الرسمي للحكومة والسلطة السورية، وعدم وجود منفذ حدودي لها مع الأردن، مترافق مع زيادة كبيرة في هجرة الشباب منها وفقدان طاقتها المنتجة[22]، فيما تعتمد الحياة فيها بشكل رئيس على قطاع واسع من الموظف الحكومي معدوم الإمكانيات، ولولا الدخل المقدم من أبنائها المغتربين فإنها تكاد تنعدم فيها سبل الحياة.

الأسئلة أعلاه تصلح لدراسات بحثية موسعة كمية ونوعية تفيد في غرض الاستقرار العام السوري، في منطقة تعتبر لغاية اليوم حيوية ولم تدخل أتون المقتلة السورية، فيما سنكتفي أدناه بالإشارة إلى جملة من النقاط البحثية وإمكانية الاستفادة منها في الدراسات القادمة لسوريا عامة، وهذه مهمة بحثية على أبناء السويداء، خاصة بناء مراكزهم البحثية المستقلة، ودراسة واقعها العام كمياًَ ونوعياً وطرح نتائجها أمام الواقع المحلي في المحافظة، والسوري العام، وبالضرورة في المحافل الدولية.

السكان والجغرافيا

تقع محافظة السويداء في جنوب سوريا بمحاذاة الحدود الأردنية جنوباً، والبادية السورية شرقاً، ومحافظة درعا غرباً. يعتبر طريق العاصمة، دمشق، شمالاً هو الشريان الحيوي الوحيد للمحافظة التي تبلغ مساحتها 5550 كم2. وبتعداد سكاني عام يقارب النصف مليون حسب إحصائيات 2013، وأن 25% من أبناء السويداء مقيمون خارجها بين مسافر مؤقت وطويل الأمد، فيما تصل اليوم لنسبة 50%. وهي ذات أعلى نسبة بطالة على مستوى القطر، حيث بلغت 18.3% عام 2010 مقارنة بـ 8.4% بباقي القطر[23]. هذا ما يفسر موضوعياً نسبة الهجرة العالية بين شبابها لطلب العمل ومصادر الدخل. واليوم زادت هذه النسبة لتصل لما يقارب 78% بعموم سوريا[24]، ومثلها السويداء، وذلك بحكم الثورة والحرب الناتجة عنها. حيث الخوف من الاعتقال والزج في الجيش ومعادلة الحرب، خاصة بين أوساط الشباب، التي تشير إحصائيات غير رسمية إلى ما يقارب 50 ألف متخلف عن الخدمة الإلزامية فيها، سبب رئيس فيها لم تعالجه السلطة القائمة سوى بالمزيد من الضغوط الأمنية والاقتصادية بلا أي رادع مترافق مع إفقار عام للمجتمع، وتراجع حاد بالدخل وارتفاع هائل في الأسعار وانحسار مياه الأمطار، أضف لحرق المحاصيل الزراعية لعامين متتاليين، حيث تشير الأدلة والوقائع لأيدٍ إيرانية شيعية متعاونة مع فساد مالي وأمني سلطوي، في محاولة التضييق على سكان المنطقة وإرغام شبابها للالتحاق بالخدمة العسكرية، ومحاولات إحداث تغيير في تركيبتها الديموغرافية وتحويلها لممر آمن لتجارة المخدرات عبر الحدود الجنوبية الأردنية[25].

محافظة السويداء، ورغم أنها المحافظة الخالية من الأمية، وذات التركيبة السكانية المدنية بعمومها، تدين كأقلية معروفية للمذهب التوحيدي المعروف بـ"الدروز"، كمذهب غير تبشيري خلاف المذاهب الدينية الأخرى، ولا تفرضه حتى على أبناء جلدته، لم تدخل أتون الحرب السورية المنفلتة من عقالها بدءاً من عام 2013، إلا أنها تعاني من أزمات متلاحقة في سبل العيش وسوء مفرط في البنية التحتية، مع إهمال متعمد في المشاريع التنموية وإصلاح البنية التحتية وتأمين سبل الاستقرار.

البنية التحتية والمادية

أولاً: المياه

تعتمد السويداء بشكل رئيس على مياه الأمطار في الزراعة والآبار الارتوازية للشرب. وهذه الآبار حصرتها السلطة السورية بيدها تحت عنوان "آبار المكرمة" الذي ابتدأ بتنفيذها منذ عام 2003. ويشير الاسم بـ"المكرمة"، دلالة على "منيّة" وكرم السلطة ورأس هرمها لأهالي هذه المنطقة بدل أن تكون حقاً طبيعياً. وحسب مديرية الموارد المائية في السويداء، فإن عدد هذه الآبار المتوقع 110 بئراً، تم تنفيذ منها 92 بئراً[26]. فيما أنه في حقيقة الواقع الفعلي، والأرقام غير المعلنة، فإنه يكاد يكون بئراً واحداً من بين خمسة فقط هي التي تعمل، أي ما لا يزيد عن 20 فقط. وأسباب هذا متعددة:

الإهمال وعدم الصيانة الدورية.

ندرة وغلاء قطع التبديل، خاصة المضخات الغاطسة.

انقطاع الكهرباء وفترة التقنين الطويلة التي تصل إلى 75% من اليوم.

الفساد الإداري، حيث إن انقطاع الكهرباء العام وخروج النسبة الأكبر من الآبار من الخدمة، ولّد مسألة بيع مياه الشرب الحر من الآبار ذاتها، حيث تضطر غالبية الأسر لشرائه مرتين شهرياً بأسعار تصل لـ 40000 ليرة للصهريج الواحد سعة 3م3.

في المقابل، فإن شح المياه أثّر وبشكل مباشر على واقع السكان الاقتصادي، فمن جهة انحسار مياه المطر دون معدلاتها العامة لعامين متتاليين، وارتفاع أسعار المحروقات وندرتها، وخاصة المازوت المخصص للجرارات الزراعية، أثر على الزراعة البعلية، خاصة القمح، (والذي تم افتعال الحرائق بمساحات واسعة فيه عامين متتاليين) فلا تتجاوز نسبة الأراضي الممكنة للزراعة عن 25% من مجملها. ما يهدد بدخول المحافظة، خاصة في جنوبها الشرقي في منطقة التصحر. ورغم محاولة الكثير من السكان الاعتماد الذاتي على المبادرات الفردية بحفر الآبار الخاصة للزراعة، إلا أنها لليوم لم تحظَ بانتشار عام، ومحصورة بيد من تسمح له السلطة وفق معاييرها الأمنية بترخيصها. أضف لما تعانيه عموماً من انقطاع الكهرباء وفقدان مواد الصيانة وغلائها الفاحش.

ثانياً: الطاقة والكهرباء

تحتاج السويداء يومياً لما يعادل 150 ميجاوات من الكهرباء، لا يتأمن منهم بشكل دوري ومنذ سنوات أكثر من ربع الكمية. انقطاع الكهرباء الدوري فتح الطريق لإمكانية مشاريع الطاقة الشمسية البديلة الفردية، والتي تصطدم بحواجز عدة:

غلاء ألواح الطاقة الشمسية وعدم جودتها واحتكار استيرادها، مع عجز شعبي عام عن شرائها.

افتقار للممولين القادرين على تغطية العجز المالي في هذا القطاع.

احتكار الدولة لناتج المشاريع الممكنة الفردية، وتوقيع عقود مبرمة مع المشاريع النادرة القليلة التي نفذت للطاقة البديلة في بعض قرى المحافظة، بأن تقدم الطاقة الكهربائية للدولة وتقوم بربطها بالشبكة العامة وتوزيعها حسب طريقتها[27].

وكما هو حال الجغرافيا السورية، فالمولدات الخاصة والبطاريات المنزلية تجدها في كل بيت، فيما تبدو المحافظة أشبه بقرية مهجورة حين انقطاع الكهرباء الليلي.

ثالثاً: الزراعة والقمح

تعتبر السويداء من أغنى محافظات القطر في إنتاج التفاح ذات المواصفات العالمية[28]. وتمتد زراعة التفاح في محافظة السويداء على مساحة واسعة تصل لـ 16 ألف هكتار وبتعداد يعادل 3 مليون شجرة، من المنطقة الجبلية "ظهر الجبل" المعروفة بشروطها المناخية الباردة المميزة لإنتاج التفاح. ورغم هذا يعاني سكان المحافظة من عدم القدرة على تسويقه، ما يعرضهم ومحصولهم للخسارة الدورية، وذلك لأسباب أهمها:

غلاء مواد الرش والمبيدات الحشرية.

عدم وجود منافذ للتصدير المباشر من المحافظة لخارج القطر.

غلاء أسعار النقل من السويداء لدمشق العاصمة، وكلفة تخزينه الهائلة في البرادات التي تعاني من انقطاع الكهرباء وفساده، ما يجعل المؤسسة السورية للتجارة متحكمة في شرائه وتحديد نوعه وسعره[29].

بالنسبة للقمح والزراعة البعلية عموماً، فقد انخفضت زراعته للحد الأدنى، وباتت كلفة إنتاجه أعلى من جنيه. فعدا عن انحسار مياه المطر، يأتي غلاء مازوت الجرارات، وحصر تسويق المنتج بيد مؤسسات الدولة يجعله دون المستوى القابل للإنتاج الفعلي. هذا مع العلم أن محافظة السويداء تحتاج يومياً لما يقارب لـ 70 طناً من الطحين لتغطية الخبز اليومي، ما يقدر بـ 25 ألف طن سنوي لا تغطي عشرها السوق المحلية. وهذه محصورة بيد مؤسسات الدولة، والتي تنذر بعموم سوريا بأزمة مقبلة في القمح مع اشتداد الأزمة الأوكرانية والحرب الروسية فيها، ما ينعكس تلقائياً على محافظة السويداء بظل انحسار مواردها الأولية في الإنتاج والزراعة.

رابعاً: في الصحة والتعليم والخدمات العامة

 فرغم وجود المشافي العامة، إلا أنها باتت تفتقد للأطباء عموماً بسبب الهجرة المتزايدة الأعوام السابقة، أضف لعدم الاهتمام العام فيها، فقد بات المواطن يشتري الأدوية من القطاع الخاص حتى وهو في المشفى العام وذلك لفقدان تأمينها من الدولة وغلاؤها المتزايد دورياً. فيما يبدو القطاع التعليمي يصيبه التردي العام سواء في التخطيط أو المناهج بالعموم، مع إضافة أن رواتب المدرسين (التي لا تتجاوز 22 دولاراً شهرياً، ما يعادل 100 ألف ليرة فقط، وهي دون خط الفقر العالمي بالنصف المحدد بـ 1.9 دولار للفرد يومياً[30]) لا تكفيهم أجور النقل فكيف معيشة أسرهم؟ ما ينعكس على الواقع التعليمي العام من حيث الترهل في المدارس الحكومية والتوجه للدروس الخاصة التي تكاد تكون ظاهرة معممة، ومثلها ظاهرة التسرب من المدارس والتوجه للعمالة بسن مبكرة. ورغم مساعدة المغتربين لأبناء المحافظة في تقديم المعونات المتعلقة بالتعليم إلا أنها تكاد تكون محدودة العدد والإمكانية. وتفتقر محافظة السويداء للجامعة الخاصة، فمحافظة درعا المجاورة، لديها 8 جامعات خاصة منتشرة على أوتوستراد درعا دمشق، وفيها آلاف الطلاب من محافظة السويداء الذي يتكلفون أعباء باهظة في أجور النقل. كما أنه لا يوجد بها جامعة حكومية، سوى بعض الكليات المحدثة منذ زمن قريب التابعة لجامعة دمشق، والتي بدورها تكاد تفتقر للكادر التدريسي والمرافق العامة.

في السويداء، ترى ظاهرة الطرقات ذات الحفر المتتالية، والمطبات الإسفلتية التي أنشأت لأغراض أمنية متعددة، وتكاد تخلو المحافظة من طريق صالح للسير بشكل جيد تزيد مسافته عن 10 كم، والترميم القائم في هذه الطرق يقوم على إزالة الإسفلت من طريق بغية إصلاحه، وإعادة تدويره لمكان آخر كما يجري على طريق السويداء دمشق بشكل شبه دوري وربع سنوي تقريباً.

ثالثاً: الفراغ السياسي والاستقطاب المتباين

منذ فشل إخضاع السويداء عسكرياً عبر إدخال داعش إليها في تموز 2018، كما باقي المحافظات السورية الخارجة عن سيطرة السلطة، بقيت السويداء ساحة مفتوحة لملفات عدة أهمها:

تخلف أبنائها عن الخدمة العسكرية.

العبث الأمني وفوضى السلاح ودعم سطوة الميليشيات المحلية المغطاة أمنياً.

العمل على إمكانية افتعال حدث عسكري غير مباشر فيها، يتيح للسلطة التدخل فيها بشكل يتجنب الصدام المباشر مع الواقع المجتمعي لكونها من الأقليات التي لا تنطبق عليها صفات الإرهاب المزعومة التي طبقت في كل سوريا. فشل جميع هذه العمليات لليوم قائم على معادلة الاستيعاب المتبادل بين كل من السلطة والأجهزة الأمنية في مقابل الفصائل المحلية، فلا السلطة تمكنت من فرض سطوتها بالقوة المباشرة ولا انبرى فريق عسكري من الفصائل المحلية لفرض سلطته المفردة فيها.

أضف لتجاذبها جيوسياسياً لوقوعها في المنطقة الجنوبية المحاذية للأردن والبادية الشرقية السورية، الموقع الذي أهلها لتكون معبراً لتهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود للأردن ومنها لدول الخليج.

لم يجد الترويج لمشروع انفصالي درزي، أو مكون أقلوي مختلط، مقومات سياسية واقتصادية أو مجتمعية للآن. المشروع الذي روجت له العديد من الاخبار والشخصيات السياسية من هذه المكونات، يمتد من شمال شرق سورية وصولًا للجنوب السوري بامتداد البادية السورية شرقًا، فيما الفوضى العامة والمزيد من الانكماش كان السمة الأبرز للسويداء للأمس القريب.

التماسك العصبي لأبناء هذه الأقلية بدأ بالتزعزع والاختلال وبدأت تطفو على السطح عصابات الخطف وتهريب المخدرات والسلاح، الموقف الذي استدعى الأردن للإعلان الرسمي في تغيير قواعد الاشتباك لمواجهته مؤخرًا، محذرًا من التمدد الإيراني فيها[31].

تتويجًا لهذا، وبعد غزوة روسيا لأوكرانيا بدت معالم الانسحاب الروسي من بعض المواقع السورية عسكريًا ومنها السويداء وتركها ساحة مفتوحة للتمدد الإيراني. هذا التمدد الملحوظ بشكل غير مباشر كونه يتلظى خلف الأذرع المحلية من العصابات التي باتت الأوضح على ساحة المحافظة وتحاول فرض سطوتها عليها. ففي تموز لهذا العام 2022، كانت تتبدى بوضوح معالم اقتتال داخلي بين أبناء السويداء أنفسهم، حيث تم تنمية وتعزيز قوة هذه الفصائل التابعة للأجهزة الأمنية والموزعة على كامل جغرافية السويداء (فصيلي مزهر ونعيم في مدينة السويداء، فصيل الفهد في قنوات، فصيل السعدي في صلخد، والعديد من الفصائل الصغيرة موزعة في بعض قرى السويداء[32])، وعلى رأس هذه الفصائل أتى تعزيز وتمكين فصيل أطلق عليه حركة قوات الفجر، والذي تمركز في منطقة عتيل شمال السويداء وعلى طريق السويداء دمشق الرئيسي. وبات يُهيئ ليصبح قوة أمر واقع من أبناء السويداء أنفسهم وعليهم، وبرعاية وتعزيز أمني وميليشوي إيراني وحزب الله، وحسب اعترافات أفرادها[33]، ليفرض سطوته وهيمنته على المنطقة. الفصيل تحول من مجرد ميليشيا للخطف والسلب إلى مكون بذاته، توكل اليه مهمة تصفية مجموعات وأفراد منها: المسماة مكافحة الإرهاب أو عدد من عشائر البدو ساكني حي المقوس في المدينة، إلى ادعاء محاربة مروجي المخدرات. فيما كشفت أحداث اقتحام هذا المقر من قبل أهالي السويداءأنه يحتوي معملًا لإنتاج وتوزيع المخدرات[34]. كما وليس فقط الطلب من عائلات السويداء أن تحج له لطلب الصفح وتقديم فروض الطاعة، ومحاولة فرض هيمنته على المنطقة الشمالية من السويداء. الأمر الذي وصل لمدينة شهبا، حيث قام بخطف عدد من أبنائها من آل الطويل وتوجيه تهمة تعامله مع قوة مكافحة الإرهاب سابقًا، الأمر الذي تطور لالتحام أهلي جماعي من أبناء شهبا واغلاق الطرق المؤدية لها بما فيها طريق دمشق الرئيسي وعدم رضوخهم لسطوة فصيل الفجر هذا. لتنتهي العملية العسكرية التي قادتها فصائل محلية، على رأسها حركة رجال الكرامة، بتصفية الفصيل إياه، ومتابعة تفكيك باقي تلك الفصائل وفرض شروط عزلتها وتسليم أسلحتها، وهرب بعض قادتها، أو اخفائهم من قبل الأجهزة الأمنية التي تخشى انكشاف ما يخفونه من أسرار وارتباطات أمنية للعلن.

الموقف المتأخر للسويداء اليوم هو موقف نخبتها السياسية عن متابعة الحدث سوريًا ومحليًا. فلم تستطع الانخراط لليوم في بوادر أي مشروع سوري عام بشكل اندماجي، رغم وجود الكثير من القوى السياسية على ساحة المحافظة ذات المرجعيات الحزبية المتباينة فيما بينها أيديولوجيًا. السمة التي تظهر ابتعادها الكلي عن مجريات الحدث في السويداء وعدم قدرتها على النظر اليه الا بمنظار سياسي مع السلطة او ضدها، مع الثورة أو ضدها. فيما الواقع الشعبي حاسم خياراته لليوم: لا مع السلطة ولا المعارضة، ومحدداته أكثر وضوحًا: لا مواجهة عسكرية مباشرة مع أي طرف سوى المعتدي على السويداء، ولا للاقتتال المحلي، لا لفرض شروط الخضوع والهيمنة لصالح السلطة أو أي ميليشيا أخرى متحركة بأجندة أمنية تتلظى خلفها. ليغدو الفراغ السياسي العام عنوان بارز في السويداء والمترافق مع التماسك المجتمعي والقيمي ورفض سياسة الاخضاع والفلتان الأمني، لا وبل تحييد موضوعة الاقتتال المحلي إلى موقف شعبي موحد متمثلًا بالحاضنة الشعبية وفصائل السويداء ذاتية التسليح وبمقدمتها حركة رجال الكرامة ف"لا لحكم الميليشيات، ولا كبير في السويداء الا للكرامة وعزة النفس". وحرمة الدم السوري، وتفعيل دور المؤسسات القانونية والقضائية، والتغير العام لمصلحة الكل السوري، ولكن ما دامت هذه المؤسسات معطلة عن الفعل بحكم سطوة الأجهزة الأمنية فمن حق الواقع المحلي أن يطرح معادلته الواقعية التي عبر عنها الشيخ أبو حسن يحيى الحجار، قائد حركة رجال الكرامة، في لقاء شعبي للحركة في عيد الأضحى: "ما لم تقم مؤسسات الدولة بدورها بالتغيير، فنحن سنصلح ونغير". لكنه لليوم موقف اجتماعي لا يرتقي لمصاف الموقف السياسي العام، وهذه ايجابيته المعقولة التي تحمي من الانزلاق لمصاف مشاريع السلطة السياسية بالإخضاع بالقوة العسكرية، أو مشاريع الانفصال الفئوية الطائفية، أو الغمز الروسي بضرورة إقامة حكم ذاتي كما شرق الفرات. وجميعها لا مقومات مادية أو سياسية لها، ومثلها أي مشروع تطرحه الاستخبارات الإقليمية عبر أذرعها المحلية والخارجية بالترويج لحل خاص بالسويداء خلاف الحل السوري العام المستعصي لليوم.

رابعًا: الخصوصية واللا استثناء

ثوابت السويداء لليوم اجتماعية عامة تتقاطع مع السوريين في شتى أصناف مظالمهم وحقوقهم المدنية والحياتية: لا للاقتتال الداخلي، نعم للموقف الشعبي المتماسك، لا للقتل واستسهال إراقة الدم السوري، نعم للدولة ومؤسساتها، للعدالة والقانون، وإن كان القضاء معطلًا لليوم، فنعم للعرف الاجتماعي الأخلاقي كعرف عام تقبله كل المجتمعات البشرية حين يعطل فيها القانون والقضاء وترفض سطوة العصابات المارقة والاتجار بالمخدرات والسرقة والخطف. لا للسلطة الجائرة ولا لحكم الميليشيات ونعم للتغير السياسي الذي يفضي الى تحقيق العدل وسيادة القانون. لا لتلظي السلطة والميليشيات الإيرانية بتأليب أبناء الجبل على بعضها بغية تحقيق مآربها بإحكام الهيمنة على السويداء كمعبر لتجارة المخدرات والسلاح، بل يجب كشف مخططاتها للعلن، محليًا ودوليًا. فإن كانت المعادلة التي فرضت على السوريين: النظام أو الإرهاب، فإن معادلة السويداء كانت هي النظام أو العصابات، ولكنها معادلة مرفوضة كليًا. ما يجعلها ذات ميزات مختلفة عن باقي الفسيفساء السوري وتملتك لليوم مقومات ومعطيات خاصة يجب إعادة تقييمها سوريًا، ولكنها بذات الوقت ليست استثناء عن بقية السوريين فهي هدف مباشر للإخضاع بشتى الطرق التي أثبتت فشلها لليوم.

رفض القتل، والتمسك بحرمة الدم السوري، التعقل، الصبر وطول النَفَس، ميزات سلوكية ذات قيمة أخلاقية عقلانية ومرجعية دينية عامة، تشكل ميراثًا وعرفًا وقانونًا مجتمعيًا، يحاول تكريس خطه القيمي في المجتمع وممارسة الضغط على سلطات الدولة، خاصة القضائية، لتفعيل دورها المنوط بها وعملها بالاستقلال عن الأجهزة الأمنية. فإذا ما كانت محاولة هذه الأقلية جنبها خوض مواجهة خاسرة مع السلطة وتعرضها لما تعرض له بقية السوريين من تهجير جماعي، رغم رفضها العلني لحكمها الجائر، فمرد هذا لأسباب عدة أهمها:

رغم وجود الاجماع الديني العام، إلا أن انقسام مرجعيتها الدينية الثلاثية المتمثلة بمشيخة العقل فيما بينها، وخلافها البيني على المنصب الاجتماعي القيادي الأوحد، جعلها نقطة خلاف سياسي ينتج عنه عدمية موقفها السياسي باتجاه واحد، وخلافها المستمر صفري النتيجة. الموقف الذي استفادت منه السلطة بتحييد السويداء من المعادلة الوطنية واغراقها في مشاكلها الداخلية الأهلية والاقتصادية. وتنعكس هذه على بنيتها السياسية المعارضة التي تعاني من ذات عقدة القيادة المنفردة والانقسام المتتالي حولها.

سيكولوجيا الأقليات هي الخوف الوجودي مزدوج الطابع: التخوين وتهمة العمالة للخارج خاصة أبناء عمومتهم في لبنان وفلسطين، والتكفير وتهمة الخروج عن حدود الإسلام. ما جعل هذه الأقلية أكثر انكماشًا وتبحث في معادلة التوازن والاستقرار رغم كل الضغوط الممارسة عليهم، وما تبديه من تعقل وحكمة في علاج مواضيعها العامة في المسألة السورية مرده تجنب العزلة أو تهديد الوجود والاستقرار.

لا يمثل العلم ذو الخمسة ألوان (البيرق) خصوصية سياسية لهذه الأقلية، بل خصوصية حربية ذات مرجعية دينية تتوحد حوله عصبيًا. فميراث هذه الأقلية الدفاع عن الأرض والعرض، وهي التي تعرضت منذ سكنت جبل العرب في القرن 16، للغزوات العسكرية المتتالية: عشائر البدو، العثمانيين والمصريين مرات، الفرنسيين، وحتى من الجيش السوري منتصف القرن الماضي وعام 2001، ومؤخرًا داعش 2018 والمشروع الإيراني الميليشوي عبر العصابات المحلية وهذه كانت الاستثناء، وذلك لإخضاعها بالقوة للسلطة الحاكمة. ما يفسر ظهور هذا العلم في زمن الحرب وتهديد الوجود وحسب، ويمثل رسالة السويداء اليوم: لا علم النظام ولا الثورة بل الوحدة الوطنية. ما عدا ذلك فهي متجنبة للصدام مع السلطة الحاكمة ما لم تُفرض عليها.

 

عدم الزامية الدين أتاح لها نمو الحركات السياسية والمدنية التحررية الواسعة، فإن كانت هذه محط استثمار من حزب البعث الحاكم وجبهته الوطنية السلطوية منذ عقود، إلا انها بذات الوقت تلعب دورًا هامًا في الحركة المدنية السياسية السلمية في التظاهر والاحتجاج السلمي. إضافة لدورها التاريخي في معادلة فصل الدين عن الحياة المجتمعية السياسية تلك التي أسست لها الثورة السورية الكبرى بشعارها: الدين لله والوطن للجميع.

أبناء هذه الأقلية وطنيون ككل السوريين، لهم مخاوفهم ومظالمهم، ذوي ميراث قيمي وأخلاقي لا يختلف عن ميراث أبناء هذه المنطقة برمتها سوى بالطريقة والعادات ليس إلا، فإن كانت خصوصيتهم المذهبية عفتهم من اتون الحرب الطاحنة طوال السنوات الماضية نسبيًا؛ لكنهم تعرضوا ويتعرضون ككل السوريين لشتى أنواع المظالم والجور وجرف الحقوق المدنية والسياسية. لتصبح معادلتهم العامة الوطنية ضرورة الخروج من العزلة العامة والمجاهرة بحقهم الحياتي والسياسي، والبحث عن المشترك العام الوطني السوري المتمثل بحقوق المواطنة المدنية والسياسية دون الخضوع لسلطة مركزية أو حكم جائر، ومثلها الحقوق الايمانية والمعتقدية دون فرضها من جهة على أخرى. وهاتين أساس الدولة التي يطلبها كل السوريين وان اختلفت طرق وخصوصية كل مكون في طلبها، لا تتحقق إلا بفصل الدين عن السياسة، فلا تلغي احداهما الأخرى، بل تبحثان معًا في العدل ورفع المظالم والبناء المجتمعي.

الخلاصة والتوصيات:

لا حلول مقترحة لدى السلطة والحكومة السورية بسياستها العامة، لا سياسيًا ولا اقتصاديًا، سوى الانفاق المعيشي وعبر البطاقة الذكية والمزيد من الاحتكار والتملك، التي أدت لسلسلة من الاحتجاجات السلمية المدنية لأبناء السويداء عليها بداية هذا العام. ولم يزل أبناء السويداء رافضين الانخراط في أي مشاريع انفصالية او إقليمية على كامل الجغرافية السورية. ولم تزل هذه المدينة تعتبر العلمانية والمدنية منبرًا رئيسيًا للحياة التي تطمح لها على مستوى الدولة. فرغم نشاط شبابها المدني وإمكانياتهم الفنية والعلمية، الذي يعتبر رأسمالهم العام، ومحاولاتهم المتكررة لكسر الجمود السياسي فيها والتهميش الاقتصادي المتعمد من قبل السلطة، لكنهم في كل مرة يصطدمون في حاجز عدم الاستجابة العامة سواء في تحسين الأوضاع المعيشية، أو التهديد بغزوة جديدة لداعش.

في المقابل ومن خلال مراجعة التعافي الاقتصادي الذي طرحته الأمم المتحدة، ومجريات مؤتمري بروكسل السادس واستكهولم الأخيرين في الربع الأول من العام 2022، كان الحديث برمته عن منطقتي شرق الفرات وشمال غرب سوريا، فيما لم تذكر أية مبادرات تتعلق بمنطقة السويداء والجنوب السوري عمومًا على جدول أعمالها، سوى بعض المبادرات الفردية كم أبنائها، تدعيمًا للموقف الوطني العام السوري ودفعًا لشبهة الانفصال والتقسيم الذي يحوم في الأجواء الدولية حول سورية، رغم المخاطر الأمنية التي قد يتعرضون لها جراء مشاركتهم فيها. فهل ستبقى هذه المنطقة عرضة للإهمال العام من كل الأطراف؟ وما دور أبنائها في إعادة احياء ما تبقى منها رغم محدودية مواردهم الاقتصادية؟

في خلاصة بحثية أولى، وبناء على مقومات محافظة السويداء المادية والأهلية والمدنية، وعدم انجرارها للعسكرة واكتفائها الحياد الإيجابي العام في المسألة الوطنية السورية، يمكن لهذه المحافظة أن تشكل نقطة استقرار هامة فيها، اذا ما وجدت الاهتمام والرعاية من الوطنية السورية عامة، ووضع السويداء بسياق مسارها التاريخي وصيرورتها الوطنية لليوم، وهذا يتطلب:

تحتاج المنطقة للعديد من المشاريع التنموية التي تمكن شبابها من الاستقرار فيها، وتحويل جزء من الانفاق الاستهلاكي لمشاريع محلية تخص الاستقرار خاصة في الري والزراعة.

تحتاج المنطقة للاهتمام بالمشاريع الاقتصادية والخدمية في كافة القطاعات الزراعية والطاقية والطبية عبر المنظمات الأممية، مع محاولة جادة في جعلها مستقلة عن أيدي أجهزة الحكومة الموصوفة بالفساد العام.

الاهتمام بالرأسمال الوطني المتمثل بالشباب تعليميًا وحقوقيًا، وهذه برسم المنظمات المدنية والأممية وأبناء السويداء المغتربين بشكل رئيسي.

تحتاج هذه المحافظة لمركز بحثي مستقل تدعمه الوطنية السورية والمنظمات الدولية يؤمن اجراء دراسات بحثية ميدانية واستشرافية في واقع المحافظة وتفعيل مشاركتها في المسألة السورية حقوقيًا وسياسيًا ومدنيًا.

حسم خلاف المرجعيات الدينية بمجلس ديني زمني مشترك ينهي خلاف المرجعيات الدينية سياسيًا، مع التمسك بحق الدفاع عن النفس وحمايتها الذاتية وضمان عدم تحولها لمشروع سياسي منفصل.

الخروج من العزلة الدينية والمحلية والانفتاح على كل المكونات السورية دون خوف أو ريبة، والبحث مرة أخرى عن المشترك الوطني العام الذي حققته البرجوازية الوطنية السورية الدمشقية والحلبية والحموية والحمصية في شراكتها الفعلية مع أبناء السويداء في الثورة السورية الكبرى عام 1925، والتي لم تزل منارة وطنية وجنين دولة القانون والحقوق التي عملت سلطات عسكر البعث والاستبداد الأمني على قضم ميراثها وزرع الفتن بين أبنائها.

ربط الحل الاقتصادي والمعاشي والأمني في السويداء بالحل السوري العام. فلا زالت هذه المنطقة، ورغم شدة التضييق عليها، منطقة حيوية سياسيًا ومدنيًا وقابلة للتحرك في نقاط متعددة الضغط على السلطة السورية تدفعها للحل العام.

إن الموقف العام للسويداء يرتقب الحل السوري برمته، كموقف عام من المسألة الوطنية، وإن باتت مرهونًا بأيدي الدول الكبرى وأجنداتها، لكن يمكن لسكان هذه المحافظة من الأقليات أن تساهم بشكل فعال في تقدمه. فلا هي خاضعة كلية للسلطة السورية ولا هي خارج سيطرتها كشمال شرق وغرب سورية، ما يؤهلها للمزيد من عدم الاستقرار وافتعال المواجهات المحلية أو الإقليمية فيها. في المقابل يجعلها نقطة تحول واضحة المعالم تنفي كل فرضيات الحلول الجزئية الخاصة التي لم تحقق أي شرط للاستقرار والأمان في كامل الجغرافية السورية ومنها السويداء بخصوصيتها الأقلية. ما يثبت ضرورة الحل السوري العام بالتغيير السياسي الذي مهما حاولت السلطة والمعارضة والأجندات الدولية اللعب فيها، وتقديم فرضيات تماسك الدولة وعدم انهيارها والحلول الاقتصادية الجزئية، لكنها أبدًا لم تحقق خطوة واحدة تفيد السوري في أي مكان فيها، بل ثمة زيادة في سوء الوضع الاقتصادي والمعاشي لما لا يتصوره عقل.

ختامًا، وليس آخرًا، لم يعد هناك أي لبس في انهيار الدولة وتلاشيها مع بقاء فلول السلطة تمارس عنفها. فلا أمن ولا أمان، لا استقرار ولا اقتصاد ذو مؤهلات، افقار عام وحكم سياسات الأمر الواقع ينتشر في كل سورية، ودول احتلال متعددة الأجندات والمصالح؛ هو ما يطال أبناء السويداء وعموم الشعب السوري، وان اختلفت طرق مقاومتهم لها. وما لوذ السوريين بطوائفهم وحماياتهم الأهلية إلا نتيجة لهذا الاستمرار في عدم حسم التغيير السياسي ناحية الدولة والقانون. وكأن ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي، حاضر بيننا يصف حالنا ومجريات حدثنا العام وفي السويداء خاصة: "عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف.. ويتحول الصديق الى عدو والعدو الى صديق.. ويعلو صوت الباطل.. ويخفق صوت الحق.. وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه.. ويصبح الانتماء الى القبيلة أشد التصاقًا.. والى الأوطان ضربًا من ضروب الهذيان"[35]. وليس غريبًا أن يتكرر الزمن وان كان بطرق عدة، لكن الغريب والمستهجن أن نقف نحن السوريين من شتى الملل والطوائف، المعارضة والموالاة، الاقتصادين والسياسيين والمدنيين، في مواجهة بعض ولا ندرك أن ما نمر به اليوم هو ناتج انهيار الدولة بفعل السلطة القائمة والاحتراب السياسي والديني وما نتج عنه اقليميًا ودوليًا.

فهل نذهب لمزيد من التشظي؟ أم نتجه لاستعادة المبادرة مرة أخرى في تفعيل المعادلة الوطنية التي وضعت حجر أساس استقلال سورية قبل تحققه الفعلي في القرن العشرين وعنوانه: الحقوق المتساوية المدنية والايمانية وحياد الدولة تجاه كل مكوناتها، وهذه تستبعد الاستبداد السياسي و/أو الديني من أن يكون ضلعًا فيها، بل معطلًا وهادمًا لها. فلا أوضح من الشمس إلا الشمس بنورها، ولا أجلى من الحقيقة سوى الحقيقة بذاتها، والسويداء اليوم قد تكون حجر أساسها مرة أخرى.

لقراءة  المادة كاملة في موقع الدراسات ( إضغط هنا )

ليفانت - الباحث : جمال الشوفي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!