-
الفنان التشكيلي رفيق الشريف: إنها أشبه بمعجزة أن أكون داخل الحصار وأتحرر منه بمخيلتي
ما الذي نعرفه عن غزة؟ أنها مدينة فلسطينية ساحلية، أسسها الكنعانيون في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وأنّ مساحتها لا تتجاوز 56 كيلومتراً، وتعد من أكثر مدن العالم اكتظاظاً بالسكان مقارنة بمساحتها، كما أنها محاصرة ومعزولة، لا تستقبل ضيفاً ولا تودع مغادراً. هل تكفي المعلومات الجغرافية والتاريخية لمعرفة المدينة؟ ماذا عمن يشغلون فضاءاتها ويصنعون ذاكرتها؟ ماذا عن الناس فيها؟
هل فكرنا أن ما نعرفه عنهم هو مجرد أرقام وإحصائيات المنظمات والمؤسسات عن أعداد الضحايا والمفقودين والمقهورين؟ هل نستطيع التفكير فيهم بمعزل عن ممارسات إسرائيل بحقهم ومشاهد الدمار والقصف والقتل؟
إن المأساة التي حدثت لهم نكبتهم إلى غير رجعة، وثبتت في أذهاننا صورة واحدة عنهم لا تفارقنا. لكن أهل غزة، بالتأكيد، يحلمون ويغنّون ويرقصون، ويرغبون أن يحكوا للعالم، وهم يمشون في طرقاتها، ثم يُعرّجون إلى بحرها، أن إقصاءهم عن الحياة وفن العيش فيها، لم يبعدهم عنها.
نتعرف في الحوار الآتي إلى أحد فناني هذه المدينة التشكيليين، الذي لم يحدّه الفضاء المحدود، ولم يرق له أن تبقى الفراغات الأسمنتية والورقية خالية من حرارة الألوان وضجيج الأفكار، فنقل إليها صخب انفعالاته وهدوئها، محولاً إياها إلى لوحات أضفت إلى مدينته السجينة بعضاً من مذاقات الحياة.
* حدثنا عن نفسك، من تكون؟ وكيف جئت إلى الفن التشكيلي؟
أنا رفيق الشريف، وُلدت في غزة في الشهر السادس عام 1992، فجأة كبرت، وصرتُ فناناً. في المرحلة الابتدائية، تنبهت أمي إلى موهبتي في الرسم وميولي إلى التصاميم التشكيلية، كنتُ أصنع أشكالاً من الطين، وأخربش على صفحات الدفاتر الفارغة. لقد أرادت أمي أن تعوض فيني ما حُرمتْ منه، فموهبتها الفنية لم تلقَ اهتماماً من أحد. كانت تحضر لي دفاتر الرسم والألوان وأقلام والفحم وأدوات فنية لم أكن أعرفها حينها.
في البداية، رسمتُ الشخصيات الكرتونية المتحركة مثل توم وجيري وتويتي، وبدأت فيما بعد أشارك في المسابقات المدرسية والورشات الفنية. في المرحلة الإعدادية، اكتسبت شهرة عند الأساتذة والطلاب، وصرتُ الرسام الرئيسي ليس في حصة الرسم فقط، لكن على مستوى المدرسة كلها والحي أيضاً. في الصف الثالث الإعدادي، فزت بالمركز الأول في إحدى مسابقات الرسم على مستوى قطاع غزة كله، كان موضوع لوحتي عن بداية الحصار بين عامي 2006 و2007؛ قبضة يد شقت طريقها من باطن الأرض، ممسكة بعلم فلسطين، ومسورة بالأسلاك شائكة. عُرفت اللوحة على نطاق واسع، وأصبحت تُطبع على تصاميم مختلفة.
في المرحلة الثانوية، انتقلت إلى رسم الجداريات، وخلفيات العروض المسرحية، بالإضافة إلى فوزي بالمسابقات المدرسية. للمفارقة، إنني لم أدرس الفنون، فقد كانت رغبة الأهل أن أدرس المهن الطبية لأنها تضمن لي وظيفة براتب ثابت، وهذا ما فعلته. بعد التخرج عام 2014، لم أجد الوظيفة المرجوة. كانت نتائج الحصار على غزة تلوكنا، فجعلتنا نتخبط في ظروف اقتصادية يصعب وصفها، وحالات نفسية أفقدتنا توازننا.
فكرت ماذا يمكن أن أفعل في واقع كهذا؟ شعرتُ أنني داخل صندوق مقفل، فقررتُ حينها أن أعود إلى الرسم، وكثفت انتسابي إلى الورشات التدريبية، ولجأت إلى السوشال ميديا للاطلاع على تجارب الآخرين، ونشر ما لدي أيضاً. في هذه المرحلة، وكان عمري 24 عاماً، بدأت ملامح تجربتي المتقنة بالتشكل، فافتتحت مركزاً تدريبياً، درّست فيه الفن التشكيلي بتقنياته المتنوعة، واعتشتُ منه في الوقت نفسه.
بعد ذلك، سنحت لي عدة فرص للتعاون مع مؤسسات داخلية ودولية لرسم جداريات خاصة بحدث أو مناسبة معينة، فأكسبتني الجداريات شهرة واسعة وبصمة فنية. كنتُ كلما أحرزت تقدماً في مدينتي، تملكتني فكرة السفر إلى عالم أرحب. بين عامي 2018 و2019، رُفض طلب مروري من معبر رفح مرتين، فالأولوية هي لمن يعانون من الأمراض الصحية، ولطالبي وطالبات العلم، وفي المرة الثالثة، عام 2021، تمكنت من الدخول إلى مصر، ومنها إلى الإمارات حيث أقيم الآن، وأنفذ مشاريع فنية من النحت والجداريات لشركات الديكور فيها.
* أن تكون فناناً في غزة يعني أنك تعيش الحصار والحرب والألم بعين راصدة لتفاصيل العنف والموت واليومي بعيداً عن النواح والصراخ التقليديين. خذنا إلى ذكرياتك في تلك المرحلة من حياتك، وكيف من الممكن أن تكون فناناً في مدينة معزولة عن العالم وفيها كل العالم؟
لقد جعلتني هذه الظروف المفرطة في قسوتها ولا إنسانيتها أن أسخّر طاقتي من أجل تحويل الطاقة السلبية التي تتملكنا بسبب الدمار والأحداث الأليمة إلى طاقة إيجابية، هذا يعني أنه كان عليّ أن أوظف الفن التشكيلي من أجل تفريغ الشعور الداخلي. حتى أوضح لكِ ما أقول، ومن أجل أن يُفهم معنى أن أكون فناناً في غزة، سأذكر مشهداً مؤلماً ما يزال حياً في ذاكرتي إلى الآن.
كنتُ في أحد أيام الشهر الأخير من عام 2008، أمشي في الشارع عائداً إلى البيت. لم يكن قد مضى يومين على الهجوم الإسرائيلي على مدينتي، وبدأت جولات القصف. ليس مهماً هنا نوعية السلاح، ما هو بالغ التأثير أنها حولت أناساً كانوا يظنون أن يومهم هذا سيمر بشكل بطيء وممل كالعادة إلى أشلاء ونتف، بات من الصعب معها التعرف إلى هوية أصحابها. صُمّت أذناي من دوي الصوت المنفجر، وصدمتني مواجهة الموت وجهاً لوجه ومن دون موعد مسبق. كانت هذه الحادثة تفوق ما يمكن للإنسان الكئيب أو المكلوم داخلياً أن يختبره.
عندما عدت إلى البيت، وبعد أن تمكنت من استعادة نفسي، بدأت أرسم ما رأيت بمفهوم معاكس محوّلاً الحزن إلى فرح، فشكّلت مجموعة من راقصات الباليه بأيديهن المرفوعة إلى أعلى، كأنهن يستقبلن القنبلة المرمية فوقنا، وينقلن رغبتهن بالحياة رغم الموت. نحن في غزة نريد ن أن نعيش ونرقص، نحن نستحق الحياة.
ألهمتني هذه الحادثة أن أفرّغ بالرسم طاقة الشحن السلبية، وإن تكن وليدة أمر شخصي، إنه الدواء الذي أداوي به نفسي، وقد علّمته للأولاد والبنات ضمن ورشات المنظمات، وأطلعتهم على الألوان ودلالتها الطاقية، وإن لم يتمتعوا بالموهبة الكافية.
أن أكون فناناً في منطقة محدودة ومحاصرة، كأنها لم تُخلق سوى للدمار والعذاب، ومحرّم عليها الحياة، يعني أنني أمام أفق مسدود، وواقع لا أمل فيه. لطالما تساءلت عن سبيل تجاوز هذا الواقع، وكيف يمكنني أن أكون عصفوراً حراً يطير أينما يشاء، ولم أجد أجدى من مخيلتي حلاً لذلك، فأطلقت لها العنان، وصرتُ أعبّر من خلالها عن عشقي للحرية وكرهي للظلم والموت. إنها أشبه بمعجزة أن أكون داخل الحصار وأتحرر منه بمخيلتي.
* لاحظت أن أغلب لوحاتك الفنية هي بورتريهات لشخصيات معروفة وغير معروفة، لماذا اخترت هذه الموضوع الإنساني بالتحديد، وهو ما يراه كثير من الناس على أنه مجرد لوحة لوجه شخص ما؟
البورتريه يُرسم بطرق كثيرة، وقد ينظر إليه من ناحية جمالية فقط. من جهتي، أعتبر البورتريه موضوعاً أجسد من خلاله فكرة ما. لدي لوحات تُعبر عن الحزن أو الفرح أو العنف ضد المرأة أو الحرب في غزة جسدتها في بورتريهات. يمكن للناظر إليها أن يتلقى الإحساس الذي أرغب بإيصاله، أقصد أنه ليس مجرد رسم ملامح لشخص ما، كما أن طريقة الرسم لها دور في ترك الانطباع على المتلقي، إضافة إلى أن استخدام الفحم أو الألوان الزيتية أو الأكريليك يضيف إلى التأثير أيضاً.
الرسم ليس هو الطريقة الوحيدة لتنفيذ البورتريه، إذ يمكن نحته أو رسمه على الخشب أو تشكيله بالطين وغير ذلك. ثمة أشخاص يعترضون على رسم البورتريهات من ناحية دينية على اعتبار أنها خلق أرواح، وتصوير لشخصيات لا يحبذون تصويرها، وهم بذلك يربطون بينها وبين عبادة التماثيل في الماضي، لكن الهدف بالنسبة لي هو إيصال فكرة ما ليس عن طريق الرسم المشكّل، وقد يكون البورتريه حقيقي أو من صنع مخيلتي.
* من بين التقنيات في الفن التشكيلي عملت على الكولاج، ما الذي تعنيه هذه التقنية بعيداً عن الفهم العام أنها مجرد لصق أو دمج، وما الذي يميزها عن غيرها؟
ثمة تقنيات كثيرة في الفن التشكيلي، والكولاج أحدها، والمقصود به تجميع مواد مختلفة وتشكيلها في لوحة، وقد تكون المادة من الورق أو السيراميك أو الخشب. هنالك من يختار تجميع قطع حديدية مع بعض القصاصات الورقية لتشكيل موضوع فني. وفكرة العمل على الكولاج تقوم على الهدم والبناء، وهو يحمل رسالة قوية للمتلقي، كما أن الزخم اللوني والملمس يضيف إلى جاذبية هذه التقنية.
* أخبرنا عن انتقالك إلى الإمارات، ما الذي تغير فيك داخلياً وفنياً؟
الانتقال من مدينة محدودة ومغلقة على العالم إلى مساحة حرة كما هو الحال في دولة الإمارات، حيث المعارض الفنية المتنوعة، والتعرف إلى فنانين وفنانات كان من الصعب عليّ أن أراهم وأرى إنجازاتهم واقعياً داخل بلدي، أثرّ إيجابياً على عملي الفني. ليس هذا فقط، إن دولة الإمارات تولي اهتماماً كبيراً للفنون التشكيلية، لكن لا أخفيكِ أن شعور الغربة مزروع في داخلي، فأنا بعيد عن الأهل والأصحاب، وعلى الرغم من الظروف الخانقة في غزة، لكن غصة الفراق تؤلمني، وأشعر بالحنين إلى كل ما تركته هناك.
* النهضة الغربية أثرت تأثيراً كبيراً على الفن التشكيلي في العالم ومدارسه، هل برأيك السفر إلى أوروبا خطوة ضرورية للفنان التشكيلي؟ ماذا عن المشاريع الفنية القادمة؟
إن عملية التأثر هنا تبادلية، فبوصفنا فنانين وفنانات عرب، نحن نتعلم من مدراس الفن التشكيلي الغربي، ونتأثر بها، والأمر كذلك بالنسبة إليهم، فنحن لدينا مدارس الخط العربي، وقد تعلموه منّا، وأدخلوه إلى فنونهم، وهذه هي جمالية التبادل الفني والفكري والثقافي، لذلك خطوة السفر إلى أوروبا ليست بعيدة عني، وهي ضرورية لي، لأتعرف على ما لديهم من أفكار وثقافة، ولأطلع على البيئة الغربية بمعايشتي لها، وليس بمشاهدة اللوحات المعروضة إلكترونياً فقط.
في الوقت الحالي، أركز على تطوير الفن التشكيلي في أعمال الديكور الداخلي، وذلك بإضافة لوحات نحت داخلية أو لوحات فنية وجدارية أو زخرفة الأسقف بمنحوتات يدوية، كما أنه ثمة مشاريع أعمل على دراستها الأولية لأستشف منها أسلوباً خاصاً بي، تمهيداً لتدشين معرضي الفني الأول خارج غزة.
ليفانت - خاص
إعداد وحوار: ميرنا الرشيد
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!