الوضع المظلم
الأربعاء ٢٥ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
القادمون الجدد.. حكاياتٌ تروى
بروشور الفلم

لم تكن الهجرة يوماً أمراً عرضياً، فكما هو الحال دائماً هناك حركة هجرة ونزوح بين البلدان لأسباب كثيرة، بيد أن من أكثر الأسباب إيلاماً هي تلك المتعلقة بالحروب والكوارث.


تاريخ البشرية ذاخرٌ بالحروب التي أجبرت الإنسان على مغادرة وطنه، إلا أنه وبرغم ذلك لم يصل عدد اللاجئين حول العالم إلى ماوصل إليه اليوم، حيث تجاوز الرقم 60 مليون لاجئ حول العالم في العام 2017 وفقاً لتقارير منظمات حقوق الإنسان. ليست هذه أرقامٌ مجردة وحسب، بل حيواتٌ وأشخاصٌ لكلٍّ منهم حكاية لربما لم تسعفه الفرصة لروايتها.


"أخبرني قصتك" هو السؤال الذي اكتفى المخرج السوري معن موصللي بتوجيهه للأشخاص الذين قام بمقابلتهم: "كان كافياً أن يسرد كل منهم مأساةً حقيقيةً لا تستدعي مني في معظم الأحيان السؤال عن أي شيء آخر. وعلى الرغم من الاختلاف فيما بينهم، إلا أن الخطوط العريضة لتجربة الحياة في المنفى دائماً ما تتلاقى. مأساوية السردية بحد ذاتها لم يمنعها من التحلِّي بالرجاء والحلم، الاضطهاد والحرب والهرب لم يقفوا عائقاً بوجه النضال المستمر من أجل الحرية والكرامة" يضيف معن.


بعد مشاهدة فِلمه "القادمون الجدد" أجرت ذا ليفانت مقابلة حصرية مع موصللي، حيث أخبرنا أن الفِلم بدأ كفكرة طرحتها مجموعة من المتطوعين من بينهم معن في إحدى لقاءاته المنظمة مع جمعية كاريتاس الألمانية ضمن فعاليات ثقافية نظموها للاجئين برعاية منظمة إكسيل في مدينته أوسنابروك. قام معن بعد ذلك بإخراج الفِلم بمساعدة عشرة أشخاص شكلوا معاً فريق العمل.



خاص ليفانت خاص ليفانت

عنوان الفِلم، كما يخبرنا موصللي، مستوحى من مصطلح نحتته الكاتبة حنا آرندت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شددت آرندت في مقالاتها على ألا يتم تسميتهم بلاجئين واستبدالها بوافدين لأنه وبحسب تعبيرها فإن كلمة وافد تؤكد على إرادة أن تصبح جزءاً من عالمك الجديد. أما الغاية البعيدة من التسمية فكانت محاولة لترك المشاهد دون انطباع مسبق قد يشكله سماعه لكلمة لاجئ، ودعوته لمشاهدة فِلم -لا يعرف من المقصود تماماً بعنوانه- دون أحكام مسبقة.


كان عرضه الأول في العاصمة الألمانية برلين في شهر نيسان/أبريل لعام 2018، ثم بدأت عروض الفِلم في مهرجانات تابعة لشبكة مهرجانات حقوق الإنسان، وهي منظمة تُعنى بعروض الأفلام المتعلقة بحقوق الإنسان في كل العالم. فعرض عام 2018 بمدينة وجدة في المغرب العربي ضمن فعاليات المهرجان المتوسطي للهجرة والسينما، وتلا ذلك عروض أخرى في تونس والهند وعدة بلدان أخرى. وفي ألمانيا وحدها شارك الفِلم بأكثر من سبعة مهرجانات.


يقول موصللي عن هذه المشاركة: "الهدف الرئيسي من الفِلم إيصاله لأكبر عدد من المشاهدين، لأنه صوت من لا صوتَ له وذاكرة من رحلوا دون أن نعرف قصصهم، لم تكن غايتنا حصد الجوائز، لذلك عرضناه في المدارس و الجامعات أيضاً".




رعاة الفِلم هما منظمة الكاريتاس ومنظمة إكسيل الألمانيتين. أما عائداته عند عرضه بدور السينما فهي تذهب بالكامل للأخيرة كتبرع لمشاريع دعم اللاجئين.



من فريق عَمل الفِلم من فريق عَمل الفِلم



ليس بخافٍ أن نسبة الحضور في الأفلام الوثائقية والمستقلة عادة ماتكون قليلة مقارنةً مع أنواعِ الأفلام الأخرى، ومع هذا استطاع الفِلم على مدار عام ونصف تحقيق مايزيد عن 138 عرض رسمي في السينما وأكثر من 70 عرض خاص ضمن المدارس والجامعات والمؤتمرات والمؤسسات وبحضور يزيد عن 10 آلاف شخص من 84 مدينة في ألمانيا.




كُتبت عن الفِلم عدة تقارير في الجرائد الألمانية. جريدة تاز الألمانية مثلاً، وهي جريدة يومية مقرها برلين، وصفته بقولها: "هو أكثر بكثير من مجرد فِلم آخر عن مشكلة اللاجئين". أما جريدة أوسنابروك الجديدة فكتبت: " إنه فِلم مهم، يظهر أن وراء الأخبار اليومية عن القصف والحرب والعنف، قصص إنسانية تستحق أن تُسمع".




تطلب الفِلم سنة وثلاثة أشهر لإتمام تصويره ، متضمناً أكثر من 100 مقابلة و ما يقارب الـ 400 ساعة تصوير وأكثر من 120 ساعة ترجمة للغة الألمانية من قِبَلِ خمسة مترجمين محلفين، بيد أن ما تم عرضه في الفِلم هي قصص لتسعَةٍ وعشرين شخصاً من ثمانية جنسيات تتحدث بخمس لغات مختلفة. الفريد في الفِلم وجود لغة الإشارة أيضاً مترجمة للغة الألمانية لصُمٍّ وبُكمٍ كانوا ضمن القادمين الجدد.


 




"لم تكن مقابلات لإعداد الفِلم وحسب، فلقد ربطتني مع المشاركين علاقات صداقة، لم أرغب أن يشعر أحدهم أنه بمقابلة صحفية فقط؛ يواجه الكاميرا ويعطي إجاباتٍ كما لو أنه في تحقيق . أردت أن يشعروا جميعهم بالارتياح، ولو اختار أحدهم عدم التحدث كنت استجيب لطلبه برحابة صدر، إذ لم تكن غايتي فقط إتمام العمل، كنتُ أريدهم أن يتأكدوا من رغبتهم بالإفصاح عن مكنوناتهم" يقول موصللي.



خاص ليفانت خاص ليفانت



"السينما هي فن الإشارة لا التوضيح" يضيف معن، وبما أنه اختار أن يتوجه للجمهور الألماني فقد حاول أن ينقل فِلمه الأخير كل ماعاناه القادمون الجدد، سواءً قبل ثورات بلادهم أو بعدها، وسواءً من المجتمع المحلي كقيود العادات والتقاليد أو من النظام الدكتاتوري كالمعتقلين السياسيين أو من المجتمع الدولي كاللاجئين، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل تضمن فِلمه أيضاً شهادة موثقة لامرأة ألمانية شهدت اغتصاب الجنود الروس للفتيات الصغيرات أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي روتها أمامه، كما يصفها، بحرقة كبيرة جعلت التصوير معها يمتد لعدة ساعات لعدم قدرتها أحياناً على الاستمرار في الحديث. وعن سبب اختياره لوجودها في فِلمه يقول معن: "لهذه المرأة حياتها كألمانية، لكن نحن أيضاً كان لنا حياة. يجب أن يتوقف العالم عن رؤيتنا فقط كلاجئين، لنا حيواتنا التي يجب أن يعلموا عنها، ودون شاهد ٍمن صميم مجتمعهم لن تكون الفكرة واضحة بالنسبة لهم". من جهة أخرى كانت شهادتها من النوع الذي يطرح سؤالاً لا جواب له في الوقت الحالي: "هل من الممكن أن نروي ألمنا بعد سبعين عاماً بذات الحرقة؟!".




لم يكن الألم السوري وحده الحافز الوحيد لفكرة هذا الفِلم، فالوطن بالنسبة لموصللي لم يعد حدود المكان الذي جاء منه، والمعاناة ليست تلك المحصورة بمن يحمل ذات الجنسية ويتكلم ذات اللغة، فمن خلال تجربته الخاصة تحولت هذه المفاهيم لديه من المحلية إلى العالمية لينعكس ذلك على نظرته في إخراج أفلامه الوثائقية.


https://www.youtube.com/watch?v=ae995-2NWk8




أجزاء الفِلم الثمانية تروي حكاية القادم من الشرق، حيث تركز أجزائه الثلاثة الأولى على تكوين المجتمعات التي أتى منها، بدايةً بالطفل وعلاقته بالعائله، ثم المدرسة، فالشارع وأصدقاء الحي، ثم المرأة والعمل، الهوية الجنسية، وأخيراً العلاقة مع الدين. ينتقل بعدها في جزئيه الرابع والخامس ليتناول جوانباً من الثورات، أسبابها، آثارها وتداعياتها. أما الأجزاء السادس والسابع والثامن فتعرض ثلاث محاور: حالة اللجوء، هل سنعود إلى أوطاننا الأصلية؟ أم هل سنختار الاستقرار في أوطاننا البديلة؟




"الفِلم لا يعرض قصة واحدة مكتملة، فهو يترك المجال للسؤال والتفكير مفتوحاً أمام المشاهد، غير أن تجربة القادمين هي جوهر الفِلم وهي القصة المكتملة من خلالهم جميعاً." يقول معن ويضيف: "التناقض في القصص المروية بين الضحك تارةً والاختناق بالبكاء تارةً أخرى كانت محوراً أساسياً في الفِلم، فالمتلقي سيرى حالة التناقض نفسها في الوافد الجديد، ليدرك من خلال ذلك أن هذا الوافد بحد ذاته أيضاً يعيش كل هذه التناقضات لأنه غير مستقرٍ نفسياً، الأمر الذي أراهُ معيناً لفهم الخلفية التي أتى منها الوافد وما يعانيه نتيجة ذلك من اضطراباتٍ مختلفة. يظنُّ الآخرون دائماً أننا بخير وتبدأ دائماً سلسلة تعلم اللغة والاندماج والعمل مبكراً جداً دون الالتفات لما نمر به من مشاكل نفسية وجسدية، أحاول فقط من خلال الفِلم أن أقول: أعطوا هؤلاء الأشخاص الوقت والفرصة ليتخلصوا من مشاكلهم أولاً، دعونا نتحدث، ربما سنتجاوز مشاكلنا إن رويناها. نحن لسنا ناجين، نعم نجونا من الحرب ولكن مع كمِّ التشوهات التي نحملها في أجسادنا وأرواحنا نحن لم ننجُ بعد. من جهة أخرى لسنا ضحية ولا أقبل أن يتم عرضنا كضحايا، الفِلم كان هدفه فقط سردُ قِصَصٍ يجب أن تُسمعَ وتُفهم، هذا الفهم كما أراهُ هو البوصلة الوحيدة للمجتمع المضيف بُغية الوصول لتكامل وتعايشٍ مجتمعيٍ صحيحٍ في الأوطان البديلةِ".





يصف الكاتب والصحفي الألماني هندريك بروكستيرمان Hendrik Broxtermann الفِلم بقوله: "يخلقُ معن نسيجاً من صور الروح؛ مؤثراً لدرجة كبيرةٍ، صريحاً حدَّ الألمِ، وحميميَّاً حدَّ الإرباكِ".

يخبرنا الممثل السوري بسام داوود، وهو أحد المشاركين في الفِلم، عن مشاركته فيقول: "آمنت بالفكرة عندما أخبرني بها معن وأردت بشدة أن أكون جزءاً منها" ويضيف: "نهاية الفِلم هي بدايته الحقيقية، فالنقاشات التي يخلقها والتي شهدتها بنفسي بعد عدة عروضٍ له هي نجاحه، فأولئك الذين يطرحون الأسئلة لاحقاً هم الذين يعوَّلُ عليهم بتغيير الطريقة التي ينظرون إلينا فيها".




أما المغنية الأوبرالية والمؤلفة والعازفة السورية ديما أورشو فتقول: "هناك مشاعر عديدة يحملها هذا الفِلم، فمن الطبيعي أن نشعر بالحزن على تجارب هؤلاء الأشخاص المريرة ونتفاعل معها، وأيضاً أن نضحك مع ضحكاتهم، لكن بالطبع هناك غضب عميق لدينا جميعاً، لأن الظلم هو إحساس لا يمكن لأحد تحمله ولا قبوله. ما تعرض له هؤلاء الأفراد بمختلف جنسياتهم أمر شديد القسوة، لكنهم استطاعوا النهوض والمضي بسبل جديدة في الحياة. قوة؟، أمل؟ ربما، بل بالضرورة، لضمان استمراريتنا كبشر نتشارك هذا الكوكب".


أضافت أورشو للفِلم لمسة فنية خاصة من خلال تأليف وتوزيع موسيقاه، فهي استطاعت تتويج المشهد المرئي بأقسامه ومراحله وشخصياته بالنمط الموسيقي، وعن ذلك تقول: "حاولت في بنائي الموسيقي بناء استمرارية فكرة الفِلم القائمة على توحيد المعاناة عند الوافدين بغض النظرعن جنسيتهم وربط المشاهد ببعضها حتى النهاية، أردت أن تترجم الموسيقا مشاعر هؤلاء الأشخاص بمختلف أشكالها وأن توصل حالتهم الحسيَّة للمشاهد".




سيكون الفِلم متاحاً بشكل مجاني على الإنترنت مطلع العام 2020، وأما باقي المقابلات التي لم يتم تضمينها في الفِلم فسترفع تباعاً كأرشيفٍ على الموقع الالكتروني للفِلم، وعن هذا الأرشيف يقول معن: "الأرشيف هو المشروع الأخلاقي الأكبر من الفِلم لكل من يريد أن يتابع ويهتم ويبحث. هو وثيقة مهمة لا تنفي الجزء الفني المقدم من خلال الفِلم بل تعمل بعيداً عنه، حيث لا وجهة نظر لمصور أو مخرج، بل مجرد مقابلات كما هي ستكون موجودة ومتاحة للجميع".




يعمل الآن معن على فكرة فِلمه القادم، والتي أخبرنا عنها بشكل حصري فقال: "سيكون عن الأطفال الذين لا يملكون أي ذاكرة عن بلادهم، حيث أن ذاكرتهم منقولةٌ من عائلاتهم، وكيف تتشكل هويتهم المشتركة في الوطن البديل".




تولد دمشق - سوريا بكالوريس في الحقوق,صحفية تكتب بعدة لغات , مؤلفة كتب أطفال , عضو في المجلس الاستشاري بمدينة كوبلنز


 


       

العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!