-
المصور الصحافي مروان طحطح: المدينة لا تبقى على حالها عندما يهجرها الناس وبيروت الآن بشعة وعشوائية
ليس الضوء في كل أحواله مبعثاً للنور، ثمة ضوء إذا اشتدت كثافته يُعمي العيون، ثم يليه صوت يسبب احتراقاً، ويحيل الأرض خراباً، ويبعثر الناس أشلاءً. بالتأكيد، لا تحكي صورة ضوء كهذا عن صاعقة برق ورعد، إنها صورة موثِقة للعنف البشري، وهي أول ما شاهدته عين المصور اللبناني مروان طحطح، حينها لم يكن عمره قد ناهز ست سنوات.
أبهره الضوء وأرعبه في آن واحد، فاللون البرتقالي المتوهج لم يكن إلا ناراً مشتعلة بفعل الاقتتال بين شرق بيروت وغربها، وبين تلك الصورة التي مضى عليها ما يزيد عن ثلاثة عقود، وصور كثيرة عن بلد لم يكن يوماً إلا غارقاً في الأزمات، ثمة صورة أخرى كادت أن تكون آخر وثيقة نشهدها من عاصمته المنكوبة؛ انفجار مرفأ بيروت بكتلة الدخان الهائلة المتصاعدة فوق بحره الملوث، فضح كل الصور المزيفة، ووضع نهاية لحكاية هشة كان بعض اللبنانيين صناعها، وكثيرون غيرهم ضحاياها.
لا أعرف مروان طحطح معرفة شخصية، أعرفه من خلال نتاجه المصوّر، فهو موثق الانتفاضة الشعبية، والوجوه المكلومة من هول الانفجار، وحارس المدينة بعدسته. تُحيل معرفة صورية كهذه إلى اختصار أسئلة شخصية تُسأل في التعارف التقليدي، فالمصور يختفي وراء صورته، ويُنسى كأنه لم يكن.
هل من الضروري أن أسأله عن البداية؟ البداية كانت حرباً، والسلام المزيف المنقسم الذي تبعها لم يكن إلا استكمالاً لها. من فن الرسم المعماري إلى التصوير الضوئي، كان مسار مروان طحطح الذي طبع صوره بطابع مدينته. تضحك فيناغشها بالألوان، تبكي فيظللها بالأبيض والأسود.
* بدأت التصوير في بيروت منذ 22 عاماً، وهذه الأعوام هي مسافة زمنية حدث فيها أحداثاً مختلفة، ما الذي بقي ثابتاً في المدينة وما الذي تغير وأنت تنظر إليها بعين مختبئة وراء العدسة؟ وكيف انعكس ذلك على إحساسك نحوها؟
أستطيع بالطبع أن ألاحظ ما بقي ثابتاً وما تغير في بيروت، حتى أنني أحاول الآن من خلال التصوير أن أصوّر أماكن عرفتها منذ صغري، وأتبين ما حدث فيها من تغيير بالمقارنة بين الصورة الحالية وتلك التي في مخيلتي، لكن يمكنني القول إن هذه المدينة تغيرت كثيراً في السنوات الثلاث الأخيرة بسبب ما خلّفته الأزمة الاقتصادية، لقد سافر كثير من أصدقائي وصديقاتي إلى الخارج.
بالنسبة إلي، المدينة لا تبقى على حالها عندما يهجرها الناس، كما أن الحركة العمرانية العشوائية غيّرت معالمها التي كانت عليها خلال الحرب الأهلية وما قبلها. في الماضي، كانت بيروت أكثر ألفة وحميمية، كنت أستطيع رؤية السماء فيها، يعني أن الضوء الكثيف كان ينفذ إليها، وأشعة الشمس والهواء أيضاً. بيروت كانت مدينة جميلة، لكنها الآن بشعة وعشوائية.
أصبحت وجوه الناس فيها متعبة ومهمومة، وهناك من تكيف مع الأزمة، وهذا ليس بالأمر الجيد، وأنا مثلهم لم أعد أضحك كثيراً. أسأل نفسي في بعض الأحيان، هل أنا سوداوي إلى هذه الدرجة لأنني أصوّر المآسي فقط، وأن عيني لم تعد ترى غير ذلك، لكن عندما أعيد النظر مجدداً، أرى أن البلد متعب بالفعل، وأهله منهكون.
* في لبنان أفق أوسع للإعلام والتصوير لا يتوفر في كثير من الدول العربية، أي أنه بإمكانك أن تحمل الكاميرا وتلتقط الصور في أي ظرف كان من دون أن يعترضك أحد، بخلاف الوضع في سوريا مثلاً، حيث الرقابة والإجراءات المعقدة المُسلطة على ما يُنشر حتى على السوشال ميديا، إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه النظرة صحيحة؟ وكيف تتعامل معكم السُلطة؟
بالطبع، إذا أردت أن أقارن بين لبنان وسوريا وغيرها من البلدان في المنطقة من ناحية ظروف ممارسة المهنة، فأقول إلى حد ما ما زلت أستطيع أن أحمل كاميرتي وألتقط الصور في الشارع، لكن هذا لا يستبعد أنني أتعرض في بعض الأحيان للمضايقات، خاصة عندما أصوّر في منطقة لها خصوصية أمنية، كما أنني لا أستطيع التصوير في الضاحية الجنوبية مثلاً من دون الحصول على موافقة.
يحدث القمع بطرق مختلفة وتبعاً للأحداث الجارية، أي عندما نوثق بطش السلطان، وأيضاً مثلما حدث أثناء تغطية المظاهرات، فمنذ عام 2019، تعرضت الحريات الصحافية في لبنان لضغط من القوى الأمنية، والضغط لا يتوقف على ممارسة المهنة، إنما يتعداه إلى التعبير بالكلمات، إذ من المحتمل أن يستطيع أحدنا أن يصور ما يحدث، لكنه بالقمع يعجز عن الكلام. إن أسوأ ما يمكن أن يختبره المصوّر هو منعه من التصوير، وأن يُجبر على إغلاق عدسته ومغادرة مكان التصوير.
في الغالب، تخشى الديكتاتوريات والسُلطات الصورة أكثر من أي وسيلة تعبير أخرى. الصورة تبعث القلق لديها. لقد تعرض كثير من زملائي للضرب والتوقيف الأمني منذ الانتفاضة الشعبية وما تلاها من أحداث. يؤسفني أن أموراً كهذه أصبحت اعتيادية في مهنتنا.
* أصبح الفن المرئي طاغياً على أسس الصحافة التقليدية، وبدّل فيها كثيراً، وتتبع ما بقي منها يحتاج إلى ملاحظة دقيقة جداً، برأيك هل استطاعت الصحافة العربية مواكبة التطور البصري؟ ولماذا؟
لطالما كانت الصورة حاضرة في الصحافة العربية، لكنني أعتبر أنها لا تحظى بالتقدير الذي تستحقه، وهذا التصوّر يأتي انطلاقاً من أن كثيراً من الصحف والمواقع لا تذكر اسم المصور، وملاحظتي هذه كوّنتها من تجربتي بالعمل في لبنان. يحزنني أن بعض المؤسسات الإعلامية لا تعير الصورة اهتماماً، فلا تذكر مصدرها واسم من التقطها، ربما مع مرور الوقت، سيتغير الأمر.
* الأحداث والأصوات وحركة الشخوص والعناصر على الأرض وفي الهواء، لا تحدث خلال فاصل زمني واحد، أي ما تلتقطه الكاميرا في فاصل ما، يستثني ما يحدث في الفواصل الأخرى اللامحدودة، فهل من الممكن أن الصورة تُخفي أكثر مما تُظهر، وأن القليل الذي تُظهره يحمل زيفاً مبطناً؟
الصورة هي تجميد للحظة معينة، فهي لا تلغي شيئاً، وقوة الصورة الصحافية أنها ثابتة وصادقة وحقيقية، فهي تنقل الحدث، وتحكي عن مرحلة ما، وهذا ينطبق على الصورة الفنية، والتزييف فيها يأتي بإضافة عناصر أو استبدالها أثناء تصوير الحدث في مكان عام أو غيره، لكن في حال العمل على خلق موضوع للصورة فهذا أمر مختلف تماماً.
* المشاعر وضجيج الأفكار والكلمات التي تُقال سراً وعلانية، لا يمكن التعبير عنها بأي صورة، وما يعطي الصورة تأثيراً أكثر فاعلية هو السطور المرافقة لها وثرثرة العقل، هل يمكن أن الكلمة تتفوق بسُلطتها على الصورة لدرجة تختفي فيها الصورة كلياً في بعض الأحيان؟
التعبير بالصورة هو عملية فنية بحتة في كثير من الأحيان، وكل شخص يُعبر بالطريقة التي يبرع بها، وبالطبع الكلمة لها تأثيرها، والصورة لا تلغيها والعكس صحيح، لكن ما يحدث أن الصورة تصل بسرعة أكبر إلى المتلقي. بالطبع هنالك ضرورات نحتاج فيها إلى استخدام وسيلتي التعبير معاً، كأن نروي قصة شخص ما، فيحدث تمازج بين الكلمة والصورة، وفي الوقت الحالي، أصبح من المتعارف عليه أن نُدرج نصاً مع الصورة، لكنني أعتبر أن الصورة تُعبر عن كل ما يريد المصور قوله من دون الاستعانة بالنص.
* يندفع كثيرون للتصوير من أجل نقل المظالم التي يتعرض لها الناس، ولتوثيق سوء إدارة هنا، وتلوث هناك، وحرب في مكان آخر، وكل هذا في سبيل التغيير إلى الأفضل، لكن واقع الحال يزداد سوءاً وانحداراً، ولبنان الآن يعاني أكثر من السابق، أخبرنا لماذا تصوّر؟
بالتأكيد، سأظل أصور المآسي والإشكاليات التي نمر بها والانهيار، ومن الممكن أن يُحدث ذلك تغييراً بسيطاً وقد لا يُحدث. إنني أصوّر المدينة بسلبياتها لأنني أصورها عندما تكون بحال جيدة أيضاً، ولابد من تصوير الحرب والسلم، علماً أنني لا أحب تصوير الحرب على الرغم مما فيها من أحداث تشدنا لتوثيقها. إن الانحدار الذي نمر به الآن ليس سببه أن مروان يركز عدسته على هذه الزاوية، فالأزمة سببها السلطة والسياسيون والفساد الذي راكموه.
إنني في النهاية واحد من اللبنانيين الذين يعانون في هذا البلد، ومن المهم لدي أن أشير إلى هذه القضايا بالصورة، وطالما أنني أعيش هنا، ويعنيني هذا المكان، سأستمر بتصوير الأحداث التي نمر بها. النقطة الأساسية هم الناس، وما اختبروه فرض عليهم ثقلاً ليس من السهل التغاضي عنه، وأنا أشعر بهم وأعيش ما يعيشوه، لذلك أعتبر تصوير هذه المواضيع قضيتي، ويهمني أن أظهر قوة الصورة في نقل الحدث، وكتابة تاريخ لبنان بصرياً، وأرشفته للأجيال القادمة.
ليفانت - ميرنا الرشيد
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!