الوضع المظلم
الأحد ٢٢ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • المعلم الروحي دادا أتمان: ثمة غاية إلهية من أجل وجودنا، وهي إدراك طبيعتنا السامية

  • لطّفَ نفسه فكان حقاً.. كثّفَ نفسه فصار خلقاً
المعلم الروحي دادا أتمان: ثمة غاية إلهية من أجل وجودنا، وهي إدراك طبيعتنا السامية
ميرنا الرشيد- صحافية ومترجمة سورية

في الحوار الآتي مع المعلم الروحي دادا أتمان، يحدثنا عن توجيه العقل نحو مصدره المطلق، وعن الكارما وأثرها، ومحدودية الانفصال عن الكل، فهو يرى أنه ما من شيء عبثي، فكل ما نحن فيه هو عبارة عن سلسلة من تطورنا، ضمن الطاقة الكونية الأم (براكرتي)، أي عندما يغادر العقل الجسد، تبقى بعض الميول والرغبات والنزعات التي لم يستوفها بعد، فتعمل الطاقة الكونية في هذه الحالة على إيجاد بيئة مناسبة لطبيعة هذا الشخص عند والد ووالدة خاصين به، ضمن مجتمع ومكان جغرافي معينين، بما يتناسب مع ردود الأفعال حتى يستوفي طبيعة تطوره في الخلق.

وُلد دادا أتمان في مدينة السويداء عام 1980، ونشأ ضمن أسرة محافظة ومتدينة، لها نظام أخلاقي عالٍ جداً، وتشرب الأخلاقيات والانضباط، من الامتناع عن التدخين وعدم استخدام الكلمات المسيئة، وتعرف إلى المسلك الفلسفي أو الحكمة وهو بعمر السبع سنوات.

أثناء الممارسات الروحية، تكونت لديه قناعة مشابهة لقناعة اليوغا أنه نتيجة إرث سابق، جعله يُخلق في بيئة تتناسب كإرث كارمي معه كإنسان يحمل مخزوناً من ردود الأفعال (السمسكارا) لم يتجلَ بعد، أي أن لديه رغبات ومخاوف وتطلعات من الممكن أنه حملها من حيوات سابقة، فخُلق في هذه البيئة، ضمن هذه الظروف والطبيعة التي يتحلى بها، والتطور الذي أحرزه خلال تلك الحيوات.

عاش دادا أتمان ضمن مسار الحياة الاعتيادي بخامة أخلاقية متينة، وميل إلى مساعدة الناس، وكان ممارساً للألعاب الرياضية في المرحلة المدرسية. درس علوم الطيران في الأردن، وتخرج عام 2006، ثم سافر إلى الإمارات بعد عامين لاستكمال دراسته والعمل فيها، وفي عز انغماسه بتطوير مشروعه العملي، بدأ يشعر باقتراب الحالة الروحية منه، وأن الله، وهو كيان المحبة بكليتها، معه في كل وقت، فأصبح كثير الشوق إليه.

مع التوسع في العمل، وازدياد خط الإنتاج والآليات، وتراكم الضغط والتوتر جراء السعي المتعب، بدأ دادا أتمان يسأل نفسه ماذا بعد كل هذا اللهاث في الخارج؟ وفيمَ تكمن السعادة؟ وما هو الهدف من حياة كهذه؟ في هذه المرحلة، لجأ إلى الجلوس تحت الأشجار لساعات طويلة، ومشى في الصحراء، وبحث في الكتب، متخلصاً من الكارما المحقونة من المجتمع، ودخل في تأمل عفوي مع نفسه.

قرر وهو ما يزال في الإمارات أنه لم يعد يريد أي شيء من العالم المادي، فأوكل مهام العمل إلى شخص آخر، واعتكف ما يقارب عاماً ونصف، ليبدأ حياة من نقطة نقية خالية من التعلقات، أوصلته إلى الفلبين والهند كي يتعلم الممارسات الروحية من أجل هدف وحيد هو إدراك الله.

 

* الموت، وفقاً للمعلمين الروحيين، ليس توقف النَفَس وفناء الجسد، ثم القيامة والحساب في وقت غير معلوم، إنه موت في الحياة لأنهما غير منفصلين، ما المقصود بذلك؟

بالتأكيد نحن لسنا هذا الجسد، فهو قميص، والفناء يكون لهذا القميص، فكيف ننسب أنفسنا إلى طبيعة فانية؟ على العكس تماماً، كلما نقترب من المصدر، أو الوعي الأسمى الذي هو خارج نطاق التسميات، يتبدد هذا الوهم، ويذوب الانفصال، ويصبح شعورنا شعوراً مطلقاً، وهو شعور بكل الموجودات على أنها واحد، وهذا الواحد كل شيء منه هو امتداد منا.

إن الحالة الأسمى للارتقاء الذاتي هو وصول للحالة السامية التي تسمى بـ"السامادي"، وهي الاندماج بالطبيعة اللامحدودة، أو الذوبان فيها، ويُعتبر مصدرنا أساساً لها، إلا أننا نختبرها بحالة من الانفصال والمحدودية لأن تركيزنا متجه على أننا نمثل هذا الجسد أو العقل، وطبيعة العقل متغيرة.

ما يعتبره الناس على أنه حياة ما هو إلا مسرحية يتقلبون فيها في دائرة من الوهم تُسمى الولادة والموت، لقد كنا قبل أن نولد، وسيظل لنا وجود بعد الموت، إننا في حقيقة الأمر جوهر، وهو لا محدود، وجذوة من الطبيعة السامية المليئة بالغبطة، لذلك علينا الرجوع إلى طبيعة مصدرنا، ونحن كلما نقترب من الجوهر، نلمس أحاسيس عالية فوق الأحاسيس الأرضية، وأننا في محيط من البركة، وهنا يبدأ الوعي بالتفتح، ويكون حقيقياً وكلياً وتاماً بسبب ذوبان الانفصال.

 * يفهم كثيرون أن الاستنارة هي حالة يصل إليها أشخاص لهم طبيعة "فوق بشرية"، هل هذا صحيح؟ ما هي الاستنارة من وجهة نظرك، وهل يمكن لأي منا فهمها وتحقيقها؟

الاستنارة هي طبيعتنا الحقيقية، والانفصال هو الوهم، وهو ليس الطبيعة الحقيقية، وكي ندرك الاتحاد نحتاج إلى الوعي، هذه الكلمات لا تُحدث تغييراً بمجرد قولها، فمن الممكن أن نسمع عبارة لا نستطيع فهمهما الآن، وبعد سنوات عديدة من التدريب يمكن أن نشعر بها وندركها.

ليس من السهل فهم الطبيعة السامية، لو أننا قادرون على ذلك لما كان الأشخاص الذين أدركوها قلة في العالم، إذ إن ظهور كيان يتمتع بهذه القدرة الواسعة، يتطلب كثيراً من التجارب تمتد إلى مئات السنين، وقد لا تفهم المجتمعات كلماته إلا بعد انقضاء أجيال عديدة.

تحد الأنا من طبيعة الإنسان، ويشعر فيها أنه كيان منفصل عن كيانات الآخرين، والاتحاد بالطبيعة السامية هو شعور بالكل، وهو ليس سوى امتداد لطبيعته. إن العقل هو وحدة فردية في هذا الوعي، تطورت في الخلق، وأصبح لها كينونة خاصة بها، وهذا ما نسميه بالأنا، كما أن شخصية كل كيان مختلفة عن الآخر، وقد تتلون ضمن تجربته الخاصة بعرق ودين ومذهب وقومية ورغبات ومواهب وقدرات وغير ذلك، وتتطور هذه الشخصية حسب تطورها في الخلق والثقافة التي تتبناها، وتطور الحضارة التي تولد فيها، وهي بذلك تنحصر بطبيعة فردية محدودة.

إن ما يجعل الناس يشعرون بالانفصال هو التركيز على المفاهيم المحدودة التي يولدون بها، فيشكلون انفصالاً فيما بينهم، مُعتبرين أنهم كيانات مختلفة عن بعضها بعضاً، منفصلين بذلك عن المطلق، ومن هنا ظهر وهم التعدد. وبتعبير آخر، فإن المصدر واحد، لكنه عبّر عن نفسه بعدد لانهائي من الصور والأشكال والشخصيات والنماذج، والهدف هو أن تعود هذه الكيانات إلى طبيعة المصدر، وتدرك تجربتها في الخلق، في حركة من النقص إلى الكمال، من المحدود إلى اللامحدود.

الخلاصة التي أريد قولها إن العقل كلما يتلطف، يصبح بإمكانه أن يستشف الطبيعة السامية، ولا يمكن حدوث ذلك طالما أنه متمركز في الطبيعة المادية الكثيفة، والأمر يتطلب ممارسات جادة حتى يتمكن من استشفاف العامل اللطيف الرقيق في الوجود، ودمج طبيعته المحدودة بالطبيعة المطلقة.

* كثيراً ما ترد في الكتب الروحانية كلمة "الوجود"، هل المقصود بها الله؟ إن هي كذلك، لم لا تُقال صراحة؟ وإن ليست كذلك، ما هو الوجود، وما الفرق بينه وبين الله الذي صورته الديانات الثلاث؟

لقد خلق العقل الأديان والنظام العقائدي نتيجة شعوره الفطري بوجود مصدر غير متناهٍ، وكلما يزداد تطوراً، يخلق معتقدات أكثر تطوراً من سابقتها، إلا أن التجربة الروحية خارجة عن المنظومة العقائدية لأنها لا تعتمد على الإيمان بالغيب، فهي تضع المريد الروحي على محك مع التجربة وإدراكها بشكل مباشر، وتقول إن المصدر هو حالة خفية، أظهر نفسه بشكل خام بعدد لا متناهٍ من التجليات والصور والأشكال في هذا الوجود العظيم،

هذا الوجود هو الموجود الحقيقي لطبيعة هذا المصدر، والتسمية غير مهمة، لأنه منزه عن أية صفة محدودة يمكن للعقل أن يتحكم بها، وخارج قدرته، لذا ليس من الصواب أن نعطي صفة أو تسمية داخل العقل لما هو خارج طبيعته، وأن نُدلي بشرح عنه، وكما يقال: لطّفَ نفسه فكان حقاً، كثّفَ نفسه فصار خلقاً.

* أصبح الإدمان على التفكير سمة ملازمة للعقل الإنساني، وهذا ما يتعارض مع حالة العقل الساكن الذي يستطيع إفراغ محتوياته من الصور والأفكار متى يشاء، هل صحيح أن الأصل في العقل هو سكونه واتساعه اللانهائي؟ وهل يمتلك التأمل القدرة على إعادة العقل إلى طبيعته الحقيقية؟

كلما يتطور العقل، تزداد إبداعاته، وكلما تكثر رغباته، يزداد منسوب التفكير لديه، والتأمل يسحب العقل من التشويش والتقلب في الدراما الخارجية التي تسمى بالمسرحية الكونية. إنها حلم يتقلب فيها العقل بين مخاوف ورغبات، وبالتأمل يهدأ ويُسحب من الخارج بسحب الحواس والتركيز على طبيعته اللانهائية المطلقة، وهنا بالتأكيد سيذوب العقل بطبيعته السامية.

الأمر أشبه بنقطة عندما توضع في المحيط تأخذ شكله، ولا يعود بالإمكان تمييزها، وهذا هو حال العقول الفردية، عندما تقترب من المصدر، تذوب فيه، لأنها من طبيعته. السكينة تحضر فيه عندما تهدأ المتطلبات والنزعات والرغبات، ونوجه عقلنا نحو المصدر، ويتذبذب بالطبيعة المطلقة حتى الانحلال.

* الوقت وهم، والماضي والحاضر لا وجود لهما، فاللحظة الحاضرة هي كل ما لدينا، وهي غير قابلة للقياس، هل يمكن أن توضح هذه النقطة، وما صلتها بالزمن السيكولوجي؟

بالتأكيد، لحظة الحاضر هي طبيعتنا الحقيقية، ولا يوجد سواها، وكلما نتمركز فيها، ندخل في الطبيعة الأبدية، ويزداد اتساعنا، وتخف ردود الفعل الداخلية، وتتوقف الرغبات والمخاوف. عندما نعيش في اللحظة، نعيش بالتسليم والانسجام أكثر.

الهدف من تمركزنا في لحظة الحاضر هو سحب العقل من الخارج، من التيارات والمشاهد والألوان والصور، لأن الخارج يمنعنا من عيش اللحظة، فهو منقطع ومنفصل، ونعيش فيه ماضياً ومستقبلاً. إن الحضور في اللحظة هو حضور في الوعي الشاهد على كل ما يتجسد عنه، فهو المصدر، وامتداده غير محدود.

من هنا تأتي أهمية التأمل، فهو يسحب العقل من كل ما يشغله من تقلبات ومشاعر، ومن الدراما التي يحب أن يتسلى بها، ويعلّمه التركيز على طبيعة الوعي. إن الاعتكاف في الوعي، يلغي تأثير العقل، ويحل ارتباطه بالنظام الفكري، والتذكر، والمنهج التحليلي، ويطور خاصية التركيز لديه.

* عشتَ ما يقارب ثلاثين عاماً ضمن مسار الحياة الاعتيادي، وحققت نجاحاً في الدراسة والعمل خارج سوريا، وفي عام 2010، بدأت تفكر بانعطافة جذرية، وأصبحت يوغياً؟ ما الذي دفعك إلى هذا التحول؟ وما معنى اليوغي، وكيف يعيش؟

اليوغا هي اتحاد الأنا الفردية بالذات الكلية، والمحدود باللامحدود، وهذا الطريق يقود نحو الكمال، ويُسمى بالمجهود نحو الكمال، والانتقال من النقص إلى الكمال، واليوغي هو المتحد بالطبيعة السامية الذي تخلص من فردانيته، واتجه نحو كليته.

 

لقد جعلتني فطرتي الداخلية، التي كانت الصوت الحقيقي والواضح، أن أسلك هذا الطريق كي أشعر بجوهر وجودي. نحن البشر لم نأتِ إلى الوجود من أجل الأكل والشرب النوم والتزاوج، ثمة غاية إلهية من أجل وجودنا، وهي إدراك طبيعتنا السامية. إننا مفطورون على هذا الوجود، ومن الممكن للتشويش الداخلي والرغبات أن يُفقدوا الناس فطرتهم السليمة، أو أنها لم تظهر لديهم، وهذا ما يجعل تحولنا نحو المصدر، يُظهر صوت الرغبة بقوة، ويكون الدافع أكثر تطوراً.

مع ازدياد نبض الحالة الروحية لدي، صرت أرى الأشياء التي في العالم الخارجي أنها باهتة، وبعد أن اختبرت كثيراً من التجارب العظيمة، شعرت بلذة السعادة اللامحدودة، فالاقتراب من جوهرنا، وتوجيه العقل نحو الطبيعة الكلية، يُشعرنا بالغبطة، وأننا نلامس عالماً ليس بائساً، إنه كُلي يملؤه الفرح.

* ثمة أشخاص يدركون أن عليهم التوجه نحو مصدرهم المطلق، لكن الطريق يكون صعباً عليهم، وقد يحيدون عنه، وهنالك من يُخلقون بهذه الطبيعة، ويعيشون بتناغم مع الوجود غير منفصلين عنه، ما تفسيرك لذلك؟

إن صعوبة التوجه نحو الكُلية يكون بسبب الكارما، أو السمسكارا كما تُسمى بالسنسكريتي، وهي مخزون ردود أفعال لم تتجلَ بعد، هؤلاء الأشخاص يكون لديهم تعلقات ورغبات كثيرة تحجبهم عن هذا الأمر، لذلك يكون الطريق صعباً عليهم، في حين أن هنالك أشخاصاً يقطعون شوطاً من التدريبات والممارسات، وتوجيه العقل نحو المصدر، وهذا الأمر هو نتيجة تطور يحرزونه في تجاربهم الحياتية، منها الفقر والمصائب والمشكلات الشخصية والتعب النفسي، ونتيجة تطور في حيواتهم السابقة، فتكون ردود الأفعال لديهم أخف كارمياً.

إننا نعيش ضمن قوانين كونية، لكل فعل فيه رد فعل، وكلما تقل نتائج الأفعال والرغبات، تتقلص ردود الأفعال، ونقترب من طبيعة الكيان السامي. خلاصة الأمر، أنه كلما يعمل الإنسان على تطوير نفسه، ويلطف عقله، تخف المقاومة المسماة بقوى النقص التي تسحب الإنسان نحو الأسفل أو الطبيعة الكثيفة، إنها حركة من الكثيف إلى اللطيف إلى البسيط.

* تتضمن التجربة الروحية كثيراً من التدريبات والأنظمة الصارمة من أجل دفع العقل نحو مصدره، وهو بالأصل مُسيطر عليه بنظم اجتماعية وسياسية ودينية تقوده حسب توجهاتها، أليس من الأفضل تحرير العقل من كل أنواع السيطرة والنظم من أجل أن يعيش حقيقته؟

بالطبع، يحتاج العقل إلى تدريبات من أجل توجيهه نحو المطلق، ومن أجل توازنه، فهو له عشرة منافذ، ويشبه العربة التي تقودها عشرة خيول جامحة، هي أعضاء الحركة وأعضاء الحواس، يتجه كل منها في طريق، فالممارسة ضرورية لضبط الأفكار والتشويش الهائل والتغيرات، والعالم الذي يحمل في ظهوره زوالاً وتقلبات، ومن الضروري تدريب الجسد والاهتمام بطبيعته، وأن نتلقى تمرينات تخص النَفس لنحافظ عليها ونطورها، وينبغي التركيز على الروح بممارسة التأمل.

إن قراءة الكتب والأحاديث النظرية لا تكفي، لذلك لابد من منظومة الممارسات العملية، يستفيق فيها المرء، وينتبه إلى نفسه، فتخلق لديه قوة وتغييراً وتوازناً، وقد تكون صعبة في البداية، ثم تصبح أسلوباً حياتياً، تتبدل فيه العادات القديمة والنظم وطريقة الأكل العشوائية، ويصبح عارفاً بما هو مفيد له، ونظرته أكثر وعياً، ويعيش هذه التجربة التي يشهد فيها على تطوره.

إعداد وتقديم وحوار: ميرنا الرشيد – خاص ليفانت نيوز

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!