الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
انتصار بوتين وهزيمة أوروبا
عبد السلام حاج بكري

لا يوفر بشار الأسد فرصة إلا ويعلن انتصاره على السوريين، ويدّعي أن حرباً كونيّة استهدفته، استهدفته شخصياً، وهو خرج منتصراً باستمراره رئيساً للدولة التي باتت موزّعة على خمس مناطق نفوذ، خرج منتصراً وقد قتل مئات آلاف السوريين وهجّر بمساعدة شركائه نصف الشعب السوري بين لاجئ ونازح، ودمّر مدناً وقرى وبنية تحتية تحتاج عشرات السنوات لإعادة البناء.

هكذا هم الديكتاتوريون، يرون مجرد استمرارهم انتصاراً، وهكذا سيعلن بوتين إن طالت حربه على أوكرانيا، فلعبة عضّ الأصابع مع الغرب لن تستمر طويلاً، سيتألم لكن بصراخ المنتصر.

معلومات تفيد بأن أوروبا ستتمكن خلال سنة واحدة (على الأكثر) من توفير البدائل لتوريد الغاز والنفط والتخلّي عن استقدامهما من روسيا، وهي التي بدأت العمل على إيجاد هذه البدائل منذ بدأ بوتين حربه على أوكرانيا، وإذا ما علمنا أن 70% من صادرات الغاز والنفط الروسي تشتريها أوروبا، وأن 65% من ميزانية روسيا تأتي من مصادر الطاقة، ندرك مدى الأذى الاقتصادي الذي سيلحق بروسيا خلال عام.

وخلال هذه المدة، وربما منذ الآن، بدأت روسيا تفتقد الكثير من المواد، لا سيما عالية الدقة، والتي حظرت أوروبا وأمريكا تصديرها لها، عدا عن التأثير المتصاعد لبقية العقوبات الغربية، وفي مقدمتها المالية، على الاقتصاد الروسي، وستتراكم تصاعدياً الأزمات الاقتصادية مع تقدم الحرب وفرض الغرب لحزمة عقوبات إضافية، آخرها تمّ إقرارها مؤخراً ووصلت هذه المرة لصادرات الذهب الروسي، ويبدو أن انعكاسها على الاقتصاد الروسي سيكون الأقوى.

امتناع الغرب عن شراء الذهب الروسي لم  يخطر ببال بوتين، وهو الذي لجأ لبيعه بكثافة لترميم النقص المالي مع بدء فرض العقوبات الغربية على التعامل مع أهم البنوك الروسية، الأمر الذي مكّن بوتين من الاحتفاظ بقيمة الروبل، رغم نعنها قوة وهمية حسب محللين اقتصاديين، لا، أن هذه القيمة وهمية حسب محللين اقتصاديين، إذ يقوم البنك المركزي الروسي بتحديدها دون ربطها بموارد البلد واحتياطاته النقدية المتناقصة، وهذا ما يؤكده لجوء روسيا لبيع النفط والغاز إلى الصين والهند بأقل من قيمته السوقية في العالم.

لن تتمكن مؤسسات بوتين من إخفاء مدى التأثر الكبير للاقتصاد الروسي طويلاً، حيث تتراكم الخسائر وتتراجع الواردات النقدية، ولن تلبث حتى تظهر للعلن القيمة الحقيقية للروبل، لا سيما مع توقعات الدراسات الاقتصادية بانكماش النمو الاقتصادي في روسيا إلى -3 هذا العام.

يضاف إلى ذلك خسائر كبيرة عسكرياً، حيث باتت مستودعات السلاح الروسي في أوكرانيا هدفاً سهلاً للأوكرانيين مع وصول أسلحة ثقلية غربية إليها ووضعها في الاستخدام، وتزامن ذلك بعجز روسيا عن استخدام سلاحها الجوي خشية الخسائر بنيران المضادات الأرضية الأوكرانية المتطورة، وهذا تحديداً قد يكون وراء عدم قدرة الجيش الروسي على التقدم السريع وحسم المعركة، عدا عن الأعداد الكبيرة من القتلى.

مع تقدّم الحرب زمنياً، لا شك أن الخسائر ستتضاعف، وتطفو على السطح أزمات جديدة، قد تفرض على بوتين تجاوز الأسلحة التقليدية إلى السلاح النووي التكتيكي لتحقيق انتصار يرميه بوجه الشعب الروسي ويوقف الحرب، ولكن لن يكون من السهل التعامل مع ردود الفعل الدولية عليه، وتذهب الحرب إلى المجهول، وهو أيضاً.

قبل ذلك، يراقب بوتين بدقة تململ الشعوب في أوروبا من قياداتها بسبب التضخم وارتفاع الأسعار، ويعوّل على انشقاقات يروّج لها الإعلام في الصفّ الأوروبي تجاه العقوبات على روسيا، وسيتناول الكثير من مسكّنات ألم الأصابع في محاولة لجعل الغرب يصرخ أولاً ويقدّم له تنازلات في أوكرانيا ويرفع عقوباته عنه، وهذا مستبعد لأن الغرب بدأ بالتأقلم مع نقص واردات الطاقة الروسية واستوردها من بلدان أخرى وإن بأسعار أعلى، ولن يكون من الصعب عليه توفير الحبوب والزيوت بزيادة إنتاجها واستيرادها من مصادر أخرى.

يوماً ما ستنتهي الحرب، وما لم يلجأ الغرب للتخلص من بوتين وحكمه بطريقة ما في روسيا، فإنه سيخرج على وسائل الإعلام ليعلن انتصاره على العالم، كل العالم، حتى لو كان اقتصاده في الحضيض، وتسبّب بمقتل عشرات آلاف الجنود، وخسر هيبة الجيش الروسي وسمعة سلاحه، فإن استمراره انتصار، فهو الديكتاتور التقليدي الذي أفشل العالم في إنهائه، ولا يعنيه ما خسرت بلاده، وهو بانتصاره هذا لا يختلف كثيراً عن انتصار بشار الأسد على السوريين وانتصار حسن نصر الله على اللبنانيين، على رماد بلدانهم.

في المقابل، لن يتوانى قادة الغرب عن الاعتراف بالخسائر الكبيرة التي تعرضت لها بلدانهم (وهي خسرت فعلاً) جراء حرب روسيا على أوكرانيا واضطرارهم للوقوف بوجهها لكبح جماح بوتين، ومنعه من التفكير بالتمدد غرباً باتجاههم، فيعتذرون لشعوبهم عما تعرضوا له من غلاء وتضخّم، ويعِدونهم بالعمل على تعويضهم، ويحاولون بناء أوروبا أكثر قوة واستقلالية، فإما يستمرون، أو تستبدلهم شعوبهم بمن يعمل بشكل أفضل، هذا بوتين وانتصاره، وهذه أوروبا وهزيمتها.

 

ليفانت - عبد السلام حاج بكري

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!