-
بشار الأسد غريق أم داهية؟
تعدّدت التأويلات، وتنوّعت التحليلات التي اجتهدت بتفسير ظهور رامي مخلوف بتسجلين مصورين، يشكو فيهما مرة، ويتوعّد في أخرى، وكل ما قيل وكتب قد يصيب الحقيقة بجزء كبير أو صغير، ولأنّ ما حدث يعدّ ظاهرة غريبة على بنية النظام السوري، يجعل من الصعب الوقوف على أسبابها بدقّة، ويترك باب التخمين والتوقّع مشرّعاً على الآخر.
عندما اختلف الشقيقان، حافظ ورفعت الأسد، في ثمانينيات القرن الماضي، احتكما إلى ما دون السلاح، رغم أنّ الطلقة دخلت حجرة النار، إلا أنّ الأموال السوريّة والقذّافيّة سدّت السبطانة ورُصّت بعناية كبيرة خلف الزناد، فلم تسمح بالانفجار، هذا كان الخلاف الوحيد الذي ظهر للعلن، لكنّه لا يمكن القياس عليه في الأزمة الأخيرة داخل بيت السلطة، فالمعطيات مختلفة، وكذلك الغايات.
المؤكّد الوحيد فيما جرى، وقد يجري، أنّه ناتج عن الأزمة الكبيرة التي يعيشها نظام الأسد، والتي تهدّد مصيره في السلطة، فالضغوط الداخليّة والخارجيّة تشدّد الخناق على رقبته، وتنذر بيوم لا يشبه ما قبله.
إقدام الأسد على الضغط على خازن أمواله وابن خاله القوي، والحديث الإعلامي لهذا الابن الخال، مستعطفاً ومتأففاً ومهدّداً، “فيما بين السطور”، يحمل في طياته أسراراً عصيّة، لكن تركيب المعلومات والمؤشرات وتحليلها يمكن أن يقودنا لتوضيح بعض ملامح الصورة، وأرجو أن يتوضّح معظمها.
الأسد المأزوم ماليّاً وسياسيّاً حتى مع شركائه في الدم السوري لا سيما روسيا، يحاول اليوم تقديم صكّ براءة لروسيا التي وصفته وسائل إعلامها مؤخراً بالفاسد وغير القادر على قيادة عملية سياسية في سورية، وبما أنّه استُهدف شخصياً بالحملة الإعلامية الروسية غير البريئة، كان لا بد من تقديم أضحية كبيرة جداً من أجل إقناع شريكه الروسي بأنّه يكافح الفساد، وإن بدا وكأنه اكتشفه توّاً.
التضحية بخازن ماله ليس يسيراً على الأسد، لكن الكرسي وتمديد جلوسه عليه يستحق ذبح هذا الكبش المدلل، وإن ساندته عائلات علوية كبيرة، ولم يغفر للكبش أنّه كان ينطح مع الأسد طوال سنين بالسوريين، ويمدّ _باعترافه_ قوّاته الأمنية القمعية بكل وسائل الدعم والاستمرار.
ولكن هل سيقتنع بوتين رأس النظام المافيوي في موسكو بهذا القربان، ويغفر للأسد، ويمدّد اضّجاعه على الكرسي أياماً أو شهوراً وربما سنيناً، يدرك بوتين، بما أنّه من المدرسة ذاتها، أنّ الفساد والسرقة والتجاوز على القانون الإنساني والأخلاقي هي نهج مرسوم في نظام الأسد، وقد لا يرضى برفع تهمة الفساد عنه رغم دسامة القربان.
هذا هو التفسير الأكثر قرباً من المنطق لمعركة الأسد، إن جازت تسميتها هكذا، مع ابن خاله، وهو الأكثر تداولاً، ولكن أليست هناك احتمالات أخرى لتفسير ما حدث ويحدث، غير هذا، نعم هناك احتمال قد يكون قويّاً بمقدار هذا، وقد يفوقه.
من يعرف نظام الأسد، يدرك مدى خبثه ومكر تعامله مع الأحداث، يُظهر نفسه ضحية وهو القاتل المجرم، يعلن غير ما يبطن، يصف أفرقاء بالأعداء ويتقاسم معهم الودّ المصلحي والحقيقي، وعلى كل ما ذكرت دلائل ودلائل لا تنتهي، من علاقته بإسرائيل وداعش وبقية الفصائل الجهاديّة، إلى ادّعاء المؤامرة الكونيّة عليه، وهو الذي منعت سقوطه كل دول العالم.
خبث النظام هذا، ليس من نتاج رأس بشار، لأنّه أصغر من ذلك، بل من رسم مجموعة كبيرة من عتقاء رجال أبيه، يشاركهم مستشارون محترفون من روسيا وإيران، وهم من خطّط للاحتمال الثاني إذا ما مثّل الحقيقة فيما نشهده من مسرحيات مكافحة الفساد، والخلاف مع ابن خاله.
بشار لم يقُد سوريا يوماً، كل الوقت كان واجهة للقيادة الحقيقية المتمثّلة بخاله محمد مخلوف وأمه أنيسة، ورغم أنّ خاله دخل في مرحلة الزهايمر، إلا أنّ تركيزه للحظات يكفي للدفع ببشار الأسد خطوات باتجاه إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل إنفاذ الإشارة الدولية بإنهائه.
بما أنّ أياماً قليلة تفصلنا عن وضع قانون سيزر حيّز التطبيق، وهو الذي يشدّد الحصار على النظام وصولاً للاختناق بمنع التعامل المالي والاقتصادي معه نهائيّاً، ومعاقبة من يتجرّأ على كسر ذلك، فإنّ احتمال تبييض أموال الأسد المكدّسة في بنوك عدّة دول بعشرات الأسماء، أمر يحظى بالأولويّة مع القناعة التامة بأنّ مغادرته للحكم باتت محسومة، لذلك يبدو منطقياً تصفية المؤسسات التي يقودها خازنه، وإخراجها من خانة الاقتصاد المحلي والعالمي كي لا تطالها مفاعيل قانون سيزر، وهي النبع الذي ملأ هذه الحسابات.
وما ظهور رامي مخلوف والشكوى من إجراءات تخليصه من أمواله، إلا تسويق إعلامي ومحاولة لتثبيت الفكرة دولياً، وبالتالي شرعنة أموال أشخاص النظام في الخارج وهي بعشرات المليارات بلا شك.
هذه لا تفوت روسيا، وهي التي تحتضن محمد مخلوف الذي يقود من الظلّ، ولا شك أنّ نجاحه يقتضي دعماً روسياً كبيراً، ولن تكون حصة بوتين من هذه الأموال أقلّ مما سيناله كل رجال النظام مجتمعين.
يتناقض الاحتمالان بشكل واضح، بين اتجاه غريق إلى قشّة، وداهية خسر الجاه ويريد الاحتفاظ بالمال، والداهية ليس بشار الأسد، بل قادة النظام الحقيقيين من آل مخلوف والمستشارين المحليين وعابري الحدود، والتناقض في تفسير تصرفات نظام كهذا عين العقل، لأنّ المنطق يغيب منذ أهلّ علينا.
ليفانت – عبدالسلام حاج بكري
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!