الوضع المظلم
الأربعاء ٢٥ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
بوتين وحديقة الدبور
رودوس خليل

دشّن الرئيس الروسي وسيد الكرملين، فلاديمير بوتين، العام 2022 بأول حرب في عالم مضطرب قد نشهد مثلها، وفي نفس هذا العام حروب أخرى في أماكن أخرى، حسب تحليل الكثيرين، والملاحظ أنه قد درس العواقب قبل الدخول في هذه المغامرة واختار التواقيت المناسبة لساعة الصفر مبنياً على العديد من النقاط التي سنتحدث عنها بعد قليل.

الرئيس بوتين من حقه أن يحلم وأن يكون له طموحات فهو يملك التفسير والأدوات لتحقيقها والوصول إلى ما يبتغيه ويملك الجرأة لفعل ما يريد في سبيل ما يؤمن به، فعلى الرغم من الفرق الشاسع في القوة العسكرية بين الجانب الروسي والأوكراني وامتلاكه القوة النووية والتأهب والتهديد لردع أي متدخل، إلا أنه يخلط هذه القوة الرهيبة والخشنة مع ممارسة السياسة والتي تكون غير مضمونة النتائج في ميزان الربح والخسارة على طاولة التفاوض ليقوم بخربشة الخرائط ويقترب أكثر من حدود دول الناتو بحجة الحفاظ على الأمن القومي الروسي وضرب عضوية أوكرانيا في هذا الحلف وإفشاله.

ولو وقفنا على سير العمليات الحربية الروسية في هذا البلد، والذي يعتبره الروس الحديقة الخلفية لهم، نجد أنه قد تُركت هذه الحديقة وحيدة في الميدان دون تفعيل مطالبتها بعضوية الناتو ولا حتى طمأنتها في مذكرة للدفاع المشترك تحمي سيادتها من التهديدات الروسية، ونجد أن الرئيس الروسي يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ففي خطابه للشعب الروسي، والذي مهد فيه للغزو، شكك بوجود الدولة الأوكرانية، وأنها جزء تاريخي من الاتحاد الروسي، كما قال الرئيس العراقي في خطابه قبل غزو دولة الكويت، بأن هذا البلد كان جزءاً من العراق، وعليه فهي المحافظة رقم 19، ولكن الرئيس العراقي لم يفهم السياسة التي تلي عملية الاجتياح والنتائج المترتبة عليها ومعنى أن يستولى على دولة مهمة ومؤثرة في اقتصاديات الدول الكبرى وأسواق النفط العالمية ويهدد أمن دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، كان عليه أن لا يتجاوز حدود التوازنات، بل فقط كان عليه أن يفهم حجم التورّط في قول الرئيس الإيراني السابق، هاشمي رفسنجاني، لمبعوثه وزير الخارجية السيد طارق عزيز (أما شرف منازلة الشيطان الأكبر فنتركه لكم على أرض الكويت).

كانت النتائج العسكرية رهيبة على المهيب الركن والعراق بسبب رفض العالم فكرة التوسع والسيطرة على دولة ذات سيادة بحجة مظالم التاريخ، على الرغم من خوف الحلفاء من امتلاكه أسلحة نووية قد يضطر لاستخدامها.

الرئيس بوتين يملك الكثير من الأهداف ويريد تحقيقها في أوكرانيا وينوي أن يذهب بعيداً في العناد والمكابرة، وهو مصرّ على دخول العاصمة كييف وإسقاط حكومتها، ولكن أعتقد أن الرئيس بوتين يفكر في إحياء المثلث التاريخي، روسيا الكبرى وروسيا الصغرى (أوكرانيا) وروسيا البيضاء (بيلاروسيا) وأن يجبر الغرب على قبول مشاغباته في الوصول إلى الصورة التي رسمها في مخيلته لروسيا المستقبلية.

لقد أدخل الرئيس بوتين القرية العالمية في دوامة خطرة بعد الأوامر برفع حالة التأهب للترسانة النووية، فهو القيصر الجديد في القرن الواحد والعشرين، وتصرفاته وتفكيره يشبهان الكثير من عقلية القياصرة، كإيفان الرهيب كواترين العظمى التي قالت ذات يوم: (لو عشت مئة عام لأخضعت أوروبا.. والطريقة الوحيدة للحفاظ على الأمن القومي الروسي هي في التوسع).

ولو أمعنا جيداً في توقيت العملية، فالرئيس بوتين قد اختار الشتاء لتقع القارة العجوز في أسر إمدادات الطاقة والغاز الروسي، مما خلق إرباكاً واضحاً في شكل الرد الأوروبي، وخاصة من قبل ألمانيا وفرنسا، ولم يكن التوقيت بعيداً عن الوضع الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان وصعوبة قبول العقل الأمريكي تدخلاً عسكرياً جديداً ومواجهة الروس في دولة غير عضوة أصلاً في حلف الشمال الأطلسي.

كانت المغامرة الروسية في سبيل الحفاظ على مجالها الحيوي ورد المخاطر عن حديقتها وأمنها القومي في ظل بيئة جيدة تسجل لصالح الرئيس بوتين، فالانقسامات كانت حادة بين طرفي الأطلسي، وخاصة بعد السطو الأمريكي على صفقة الغواصات الفرنسية لصالح أستراليا، فالمناخ السياسي العام ساعد الرئيس بوتين في نجاح اجتياحه، ولكن ينبغي تحويل هذا النجاح إلى انتصار وحضور فاعل في الساحة الدولية وذلك مرتبط بالخطوة التالية وأدائه المقبل في قادم الأيام، فالمؤشرات توضح أن العملية بحاجة إلى كونترول وضبط الأعصاب وليس رشق التهديدات لفلندا والسويد وبولندا وعدم التهور في ردود الفعل العشوائية وإعلان الحرب على الجميع، فبعد أسبوعين من بداية الحملة العسكرية تبين أنّ دراسات بوتين وفريقه لم تكن من النوع الدقيق، بدءاً من عنوان الحملة المثير للاستغراب الذي يقول: القضاء على النازية في أوكرانيا التي يحكمها اليهودي فولوديمير زيلينسكي وانتهاءً بردة الفعل الأوروبية والدولية في أن يعلن رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، حالة التأهب والاستنفار للسلاح النووي البريطاني وأن تذهب ألمانيا بعيداً في التصدي لطموحات بوتين وتعلن أنها في صدد بناء قوتها العسكرية من خلال 100 مليار يورو رداً على المخاوف القادمة من الشرق والانتشار الواسع للقوات الأمريكية في دول الطوق والقريبة من أوكرانيا وتزويد جيشها بالعتاد الحربي من العديد من الدول الأوروبية ورصد مبالغ ضخمة عاجلة للحكومة الأوكرانية وفرض عقوبات غير مسبوقة في التاريخ الأوروبي والأمريكي على روسيا وتجميد الأرصدة وحظر الصادرات النفطية والغاز الروسي.

وحتى الرئيس التركي أردوغان، الذي يفهم الغزو الروسي لأوكرانيا كونه قام بمثلها ثلاث مرات في سوريا، أمر بإغلاق المضايق في وجه قطع البحرية الروسية، والخلاصة بعد القرار التاريخي في الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي بأغلبية ساحقة بدأت العملة الروسية في التهاوي، وأصبحت روسيا دولة منبوذة مطرودة من الأسرة الدولية ومن نظامها المالي والمصرفي ومن جميع النشاطات العالمية، بما فيها الرياضية والفنية، وهي إشارات واضحة ومفاجئة  في وجه بوتين بأن العالم الأطلسي أشد قوة وأن القارة العجوز أشد صلابة.

وبالإضافة إلى كل ما ذكر، الرئيس بوتين تصله التقارير القادمة من أرض المعركة والتي تقول بأن الجيش الأوكراني يدافع عن أرضه بكل بسالة ويقف ندّاً قوياً في مواجهة الجيش الروسي وأن الخسائر بدأت تزداد في العتاد والأفراد وعليه إدراك أن ما حصل في الموقف الأوروبي كان انقلاباً لم يكن يتوقعه، وأن مدينة كييف والمدن الأوكرانية الأخرى ليست كحلب والمدن السورية التي سمحت له باختبار جميع أسلحته في تدميرها.

والسؤال الأهم الآن: هل لدى القيادة الروسية بعد هذا التورّط أي فكرة لنهاية هذه الحرب؟

أعتقد إذا تصرفت روسيا بحكمة واتجهت لتحقيق أهدافها في تأمين حدودها وحديقتها الخلفية بعيداً عن التدمير المعروف عن جيشها، والميدان السوري شاهد على ذلك، وإذا ذهبت للتفاوض في أراضٍ محايدة فإنها ستحقق أهدافها، عدا ذلك، فإنها ستغوص في المستنقع ويستمر الصراع طويلاً وستصبح حديقتها الخلفية جحيماً قاتلاً بفعل جيش الدبابير الذي يبدي مقاومة كبيرة.

روسيا الآن دولة مطرودة ومعزولة عن المجتمع الدولي، وإذا اعتقد الرئيس بوتين أنه يستطيع التأقلم مع هذه العقوبات غير المسبوقة، وأن لديه بديلاً اقتصادياً قوياً، كالصين، فإن هذا البديل لديه حساباته ولن يجازف بتريليون ومئتي مليار من حجم التبادل التجاري بينه وبين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، لذا فمن المؤكد وقبل استفحال الأمر والخروج عن السيطرة سيجد نفسه مجبراً للبحث عن حل للتسوية وإنقاذ نفسه والاقتصاد الروسي من الانهيار التام، ولكن ما يحتاجه بوتين الآن هو من يتفهم مطالبه الأمنية من الجانب الآخر من القادة الغربيين، وإيجاد حلول واقعية، كما حصل في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، عندما أراد الاتحاد السوفياتي نصب صواريخ قريبة من الحدود الأمريكية التي رفضها الرئيس جون كندي وحتى ولو أدت المواجهة إلى حرب نووية، عندها تم إيجاد صيغة توافقية وإنقاذ ماء وجه الرئيس السوفياتي، نيكيتا خروتشوف، بسحب الصواريخ الأطلسية من الأراضي التركية مقابل تراجع خروتشوف عن أفكاره في كوبا.

ما أريد قوله هنا، إن قادة حلف الشمال الأطلسي، وبعضويتة المرتقبة لأوكرانيا، التي تسببت بهذه الأزمة، عليهم البحث عن مخرج للرئيس بوتين ومساعدته في التخلص من أوهامه وتفكيره في إعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي وتقبل مخاوفه الأمنية واستيعابه، فهو رجل خطير ولا حدود واضحة لطموحاته.

لا شك أن الحرب الروسية على جارتها أوكرانيا، والتي فهمها الأوروبيون أنها تستهدفهم، ستغير حدود التفاهمات وقواعد اللعبة، وأن العالم بعد الحرب الروسية الأوكرانية لن تكون ما قبل الرابع والعشرين من شباط، وأن الأمن والاستقرار لن يتحقق ما دام هناك من يؤمن بالقوة العسكرية في سبيل تحقيقها.

لقد ذهب الحلفاء في حلف الناتو بعيداً في إقلاق راحة روسيا بمحاولة ضم العديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق، واللعب داخل المجال الحيوي للرئيس بوتين، ولكن تبقى الأدوات الروسية الخشنة في التعامل مع دول الجوار ومنعهم من الالتحاق بالقوة الغربية سبباً في مطالبات هذه الدول وطلب الحماية من حلف الشمال الأطلسي.

إذاً لا بد من وجود حلول تلبي مطالب الجميع، قد يستطيع الرئيس بوتين دخول كييف وإسقاط حكومتها وإعلان الانتصار، ولكن يبقى هذا الانتصار زائفاً وغير مكتمل النتائج لأن الكلفة ستكون باهظة جداً، وستكون هناك مقاومة أخرى يستعد الغرب في تفعيلها، وهي إخراج الرئيس الأوكراني وحكومته إلى المنفى وتحويله إلى رمز في وجه تطلعات بوتين وإطالة أمد الحرب واستنزاف الجيش والاقتصاد الروسي.

أعتقد في نهاية المطاف، وكما يقول المنطق، إن أفضل حلّ لهذه الأزمة هي حيادية أوكرانيا وجعلها جسراً لتفاهمات جديدة بين الناتو وروسيا وانسحاب الجيش الروسي من هذا البلد ومنح القرم حكماً ذاتياً تحت السيادة الأوكرانية، وعلى الجانب الروسي تقبل هذه الفكرة وعدم تقسيم البلد، لشرقٍ موالٍ لهم، وغربٍ موالٍ للغرب، فالواضح أن الأوكرانيين لن يستسلموا بسهولة ولسعاتهم باتت تؤلم الجيش الروسي في الحديقة وخسائرهم تزداد، وعلى الرئيس بوتين التخلي عن العناد والتهيؤ للمعركة الطويلة القادمة، وهي عودتها إلى الأسرة الدولية من جديد ورفع العقوبات الاقتصادية عنها والتي ستستمر سنوات عدة في التفاوض.  

 

ليفانت - رودوس خليل

        

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!